افکار او خلک: د لويديځ فکر کيسه
أفكار ورجال: قصة الفكر الغربي
ژانرونه
إن الكنيسة الوطنية - بحكم انحصارها في تكوينها الزمني في دولة معينة أساسها الأمة - لا بد أن تكون أراستية إلى حد ما. والكنيسة الوطنية في إنجلترا لم تكن تحتكر الحياة الدينية في البلاد على أية صورة من الصور. وقد عارضتها من قديم حركات انفصالية قوية، وانقسمت في الداخل إلى جماعات «مرتفعة» كادت تكون كاثوليكية رومانية، وجماعات «منخفضة» تكاد تكون موحدة، مع وجود جماعة ضخمة بينهما في الوسط. وأقول في إيجاز إن كنيسة إنجلترا كانت مجموعات من المتناقضات الكنسية؛ هي كنيسة مفردة فيها تطلعات إلى الكاثوليكية (أو العالمية) وفيها تنوع فريد في الأفكار والميول. وحتى في هذه الحالة كانت كنيسة إنجلترا تبدو أراستية في أعين خصومها، وليس من شك في أنها كانت خلا القرون الأولى انعكاسا لطريقة الحياة التي عاشها الأعيان المستجدون من الناس والطبقات المحافظة على وجه العموم، وقد كان لكنيسة إنجلترا في عشرات السنين القلائل من وجودها تاريخ عاصف من النجاح والفشل، خرجت منه في عهد إليزابث مثالا كلاسيكيا لقدرة الإنجليز على التوفيق - أو إن شئت فقل إنها زعمت أن بعض الصعاب ليس له وجود. وحتى في القرنين الأولين بعد لوثر - إذن - لم تكن كنيسة إنجلترا شيئا بسيطا، وإنما كانت عالما مصغرا للعالم البروتستانتي. كانت الكنيسة الإنجليزية أساسا كنيسة بروتستانتية محافظة، تحترم السلطة المدنية إن لم تكن مسترقة لمبادئ أراستس، وكانت من الناحية الدينية ومن ناحية الطقوس قريبة من الكنيسة الكاثوليكية الرومانية تنقصها الحماسة البروتستانتية لتطهير هذه الدنيا، ولكنها أبقت مع ذلك تحت رقابتها المرنة - والتشبيه بالمرونة هنا دقيق إلى حد كبير؛ لأن العقل الأنجليكاني يمكن أن يمط - جيشا جرارا من العصاة المتحفزين الذين قد يلجئون إلى روما، أو إلى جنيف، أو مباشرة إلى السماء، وقد كان هؤلاء العصاة المتحفزون يتحولون إلى عصاة فعليين في أوقات مختلفة. غير أن الكنيسة عاشت مع ذلك، وهو أمر يحير أصحاب العقول المنطقية، ويسيء إلى دعاة الكمال الخلقي، ويسر أولئك المعجبين بالإنجليز اللاعقليين.
إن التاريخ المذهبي لكنيسة إنجلترا من قانون السيادة الذي صدر عام 1534م حينما انفصل هنري عن روما، حتى قانون التسوية الذي أصدرته إليزابث في عام 1559م، مثال فريد للجماهير البشرية التي تمر بسلسلة من أصول دينية يعارض بعضها بعضا بقوة متعادلة. وليست هذه الظاهرة فذة أو مستحدثة في تاريخ العرب؛ حيث كان الناس في عصور التحول الاجتماعي والفكري يهيئون عقولهم، إذا لم يفتحوها تماما. وتعد التغيرات التي طرأت على تكوين الحزب الشيوعي الرسمي في عام 1938م مثالا تقليديا كلنا يعهده؛ فقد كان العضو المخلص في عام 1940م لا بد أن يؤمن بفضل هتلر، وكان لا بد أن يؤمن بشره في عام 1941م، وهكذا في كثير من التحولات التي تحير الألباب. ولكن الحزب كان مكونا من الصفوة، من جماعة صغيرة نسبيا حتى في روسيا. وقد تعرض رواد الكنيسة كلهم لهذه التقلبات في إنجلترا في القرن السادس عشر. وكان لا بد لنفس الرعية الوادعة العادية، رعية الملك، أن تقبل أولا حلول هنري الثامن محل البابا، واستعمال الإنجليزية بدلا من اللاتينية في صلوات الكنيسة، وتغيرات قليلة أخرى، أوضحها إمكان زواج القسس. وقد ضرب المثل بالزواج الأسقف كرانمر، ذراع الملك اليمنى في هذه الأمور الخطيرة، وهو قسيس درس في الخارج، وعرف الإصلاح الجرماني معرفة أصيلة. ثم عرف الشعب المخلص بعد ذلك أن هنري حكم بأن كرانمر قد تجاوز حدوده. إن عدو لوثر، المدافع عن الدين، كان لا يريد أن يرى هذا الدين وهو ينهدم. إنه أراد أن يكون شعبه كاثوليكيا تحت هنري، لا تحب البابا. ولذلك فقد دفع هنري بشخصه في عام 1539م إلى البرلمان المواد الست التي عرفت ب «السوط الدامي ذي الفروع الستة». وطبقا للمادة الثالثة «لا يجوز للقسس الزواج، بعد أن يتولوا مناصبهم الدينية بحكم الشريعة كما كان يجوز لهم من قبل». وعاد الاعتراف الشفوي، وتأكد مذهب القربان المقدس.
ولم يكن ذلك سوى بداية. ولما مات هنري خلفه ابنه الصغير إدوارد السادس. وقد نشأ الطفل على الطريقة البروتستانتية، وتوجهت الرعية الطيبة تحت حكمه القصير إلى كنيسة تؤدي فيها الصلاة على الطريقة البروتستانتية الكاملة. وفي عام 1551م أسهم في اثنتين وأربعين مادة وضعها كرانمر ذاته، وحاول أن يوفق فيها بين الأطراف المتباعدة، ولكنه نبذ الكثير من المبادئ الكاثوليكية. وأباح للقسيس مرة أخرى أن يتزوج. ولكن إدوارد مات بغير خلف في عام 1553م، فجاءت بعده أخته الكبرى ماري التي نشأت نشأة كاثوليكية. وبعد ماري التي عرفت ب «ماري الدامية» في الكتب الدراسية المتأخرة، عادت الأمة الإنجليزية كلها - شكلا على الأقل - إلى حظيرة الكنيسة الكاثوليكية الرومانية. وحكم على كرانمر بالإحراق، واستشهد في سبيل قضية لا تقل كثيرا في وضوحها عما يستحق الاستشهاد عادة. وارتدت الرعية الطيبة إلى عباداتها وصلواتها القديمة (وتعرف باسم باترنستر وآف ماريا). غير أن ماري توفيت في عام 1558م بعد جلوسها على العرش بخمس سنوات فقط، وخلفتها أختها الصغرى إليزابث، التي كتبت لها حياة طويلة لم تكتب لأخيها وأختها، واحتلت مكانة بعيدة في قلوب الإنجليز البروتستانت.
وكانت إليزابث بروتستانتية، وفي عهدها تم الاعتراف مرة أخرى بالكنيسة الوطنية، وصدر قانون للسادة جديد يضع التاج مكان البابا، كما صدر قانون تسوية يدعو إلى توحيد العبادة في جميع أنحاء المملكة. ووضعت مجموعة أخرى من المواد التي تتعلق بالدين والمبادئ، وهي المواد التسع والثلاثون التي لا تزال ميثاق الكنيسة الإنجليزية. وارتدت الرعية المخلصة إلى الصلاة بالإنجليزية، وإلى أصول دينية تستبعد الأسرار المقدسة ولا تبقي إلا على القديسين الرسوليين أو القريبين من الإنجليز؛ أي إن الرعية أصبحت في الواقع أنجليكانية. وقد رأى أبناء هذا الجيل كرومويل يربط خيله في الكنيسة. نعم ربما رأوا ذلك بيد أن الأزمة مع روما - على الأقل - قد انتهى عهدها.
إن الرعية المخلصة - ما لم تتحرر من المسئولية إلى حد البلاهة - يستحيل عليها أن تصدق الأمور المتناقضة التي تعترف بها، إن هي أطاعت أوامر الدين في تلك السنوات الخمس والعشرين المتقلبة. وهنا حالة تقليدية لمشكلة ستواجهنا إلى النهاية عندما نحاول أن نقدر أهمية الأفكار في العلاقات الاجتماعية إذا كان الفرد المؤمن من الرعية يأخذ مأخذ الجد المطلق كل الأفكار التي يتحتم عليه قبولها لطار صوبه، وربما آثر بطبعه اتجاها على اتجاه، وإنما كانت تنقصه الطاقة أو الشجاعة لأن يقوم بأي عمل؛ ولذا فإنه يعتقد ما يصادفه. وإذا كان الكثيرون من الناس يسلكون هذا السلوك، فمن المهم بالنسبة إلينا أن نفهم هذا السلوك. ربما كان لا يأبه بأية فكرة من هذه الأفكار، وربما توجه إلى الكنيسة كما يتوجه الناس إلى دار السينما، لمجرد أن يقوم بعمل ما. ومن الطبيعي أنه لم يكترث إن كان إدوارد أو ماري أو إليزابث صاحب التوجيه. وإذا كانت هناك كثرة من هذا القبيل فمن المهم أن نعرف ذلك. وربما لم يقف أكثر الناس هذا الموقف البسيط، وإنما لاءموا سلوكهم بطرق خفية معقدة لا نستطيع أن ندرك كنهها. غير أن أمرا واحدا يتضح من هذه السنوات الخمس والعشرين من التاريخ الإنجليزي وحده: إن الكتل البشرية تستطيع أن تكيف نفسها للتغيرات التي تطرأ على الأفكار المجردة، والفلسفات، وأصول الدين، ولما بين هذه الأفكار من صراع، وهي تفعل ذلك بطرق ليس بوسع المثالي المخلص صاحب الرأي الثابت أن يعللها، اللهم إلا إذا تخلى عن كونه مثاليا بالنسبة لإخوانه في الإنسانية.
أمست الكنيسة اللوثرية هي الكنيسة الوطنية الثابتة في أكثر بقاع شمالي ألمانيا وسكنديناوة. وقد بدت للغريب - وبخاصة في بروسيا - مثالا تقليديا للأخذ بمبدأ أراستس في تطرف شديد، يديرها حكام الدولة عن طريق رجال الدين الخاضعين، وتبث ذلك الإحساس الجرماني القوي بالاستمساك بالطاعة - وهي حقيقة أبعد ما تكون عن وصفها بأسطورة خلقتها دعاية الحلفاء في الحربين العالميتين. ولم تأخذ الكنيسة اللوثرية بالتقشف الكالفني بأكثر مما فعل الأنجليكان؛ فقد كانت دائما تشجع الموسيقى. كما احتفظت بطقوس موقرة وبقدر كاف من الأصول الدينية الكاثوليكية يسمح ببقاء القربان المقدس معجزة، وليس مجرد ذكرى عاطفية معقولة للعشاء الأخير، وقد كان لوثر نفسه كالصخرة الجامدة في هذا الشأن، وكان يحب دائما أن يكون كالصخرة الجامدة. لقد قال المسيح: «هذا جسدي.» وليس الجسد مجرد رمز، ووجد نفسه مضطرا إلى أن ينبذ مبدأ الكاثوليكية الذي يقول بتحول النبيذ والخبز إلى دم المسيح ولحمه، ما دام هذا المبدأ يحتل مكانة بارزة في العقيدة الكاثوليكية. ونادى بمبدأ آخر من اختراعه هو الوجود الفعلي لدم المسيح ولحمه في العشاء الأخير. ودافع عن هذا الرأي بما نسميه الجدل المدرسي. إنه يضع لفظة جديدة مقطعها الأول معناه «الوجود العقلي» لتحل محل اللفظة القديمة التي يدل مقطعها الأول على «التحول». ومن العسير علينا أن نتابع تفكيره. ويكفي الرجل العادي الذي لا يريد أن يتعمق أن يدرك أن العناصر هي الخبز والنبيذ «مع» دم المسيح وجسده، «وكلاهما» طبيعي ومعجز، كلاهما «بالفعل» لا «في الظاهر» فحسب. والمذهب من بعض النواحي نموذج لمذهب التوفيق، وهو جهد فارغ للجمع بين المتناقضات، وبالرغم من ذلك فكم من رجل مات في سبيل «الوجود العقلي» ضد «التحول». كما مات من قبل قوم يؤمنون بأن الثالوث من مادة واحدة معارضين في ذلك القائلين بأن الأب والابن من مادة واحدة. وكما مات قوم في سبيل الديمقراطية ضد الدولة الشمولية.
والكالفنية هي مركز البروتستانتية. ولا يزال أسلوب الحياة الذي كان نتيجة لتأثير الكالفنية في هذه الدنيا عنصرا بارزا في ثقافة الغرب. وليس هناك لسوء الحظ طريق سهل واضح المعالم يؤدي إلى فهم الكالفنية. كان لها مؤسس، وكان لها كتاب عظيم هو «معاهد الديانة المسيحية» الذي نشره كالفن في عام 1535م. ولكن مجرد قراءة هذا الكتاب يبصرك بالكالفنية بأقل مما يبصرك مجرد قراءة كتاب «رأس المال» بالماركسية. وقد نمت الكالفنية من الكتاب ومن جماعة تخضع لحكم رجال الدين في جنيف حتى أصبحت ديانة عالمية، وذلك بجهد آلاف الرجال والنساء في مئات المجتمعات. ومهما اجتهد مؤرخ الفكر فإنه يجد أنه لا يستطيع أن يحيط بحركة ارتبطت في كثير من النواحي بتاريخ الغرب منذ القرن السادس عشر.
وهناك مباينة واضحة بين لوثر الجرماني، سهل الإثارة، الرجل المتناقض، الذي لم ينشأ على تربية نظامية، وبين الفن الفرنسي، البارد، المنطقي، المنظم. وتستطيع أن تتوسع في شرح هذا التباين في كتاب، كما تستطيع ذلك بالنسبة إلى البارثنون في أثينا والكاتدرائية في شارتر. وإنما يجب عليك ألا تغفل عن أن كالفن أيضا كان ثائرا، رجلا «يريد أن تتغير الأمور»؛ لأن كالفن أيضا كان يرى أن الكنيسة الكاثوليكية الرومانية كانت تسيء التصرف في الناس، ولم تعش وفقا لما أراد الله عندما أرسل يسوع إلى الأرض. كما كان كالفن كذلك يرى ضرورة البحث عن طريق يؤدي إلى المسيحية الصادقة.
وقد وجد هذا الطريق - كما وجده الكثيرون غيره - فيما قام به القديس أوغسطين من أعمال؛ ذلك الطود الشامخ للأرثوذكسية. وليس هناك جدوى من محاولة تطبيق أية طريقة من طرق التحليل النفساني على كالفن، أو أن نبدأ - على الأقل - بعلم الاجتماع. وربما كان من الحق أن الكالفنية كما انتهت إليه كانت نظاما من المعتقدات - الكونية والدينية والخلقية - يلائم كل الملاءمة الطبقة الوسطى الرأسمالية التجارية والصناعية. غير أن كالفن لم يتوفر على وضع هذا النظام لطبقة وسطى كما توفر ماركس بطريقة ما على وضع نظام لمن أسماهم البروليتاريا. وإنما وجه كالفن جهوده لكي يقدم للناس مرة أخرى كلمة الله الحق.
وكان إله كالفن يتصف بالصفات التقليدية للإله الأوحد - كان قادرا على كل شيء، عليما بكل شيء، كله خير. غير أنه اتصف بكل هذه الصفات إلى درجة الكمال، إلى درجة غير إنسانية، حتى إن المرء لا يستطيع أن يتصور أنه يتسامح فيما يطلق عليه الناس صلفا وغرورا الإرادة الحرة. إن الله لا يقع خارج الزمان والمكان، ولكنه خالق الزمان والمكان، وخالق كل ما يجري خلالهما، وهو على علم سابق مطلق كامل بكل ما خلق. وليس للمرء أي اختيار فيما يفعل. وقد قدر الله كل شيء من قبل. وهو الذي دبر، أو أراد - إذا صح أن نستعمل هذه الألفاظ الإنسانية المحدودة في محاولة وصف أعمال «كائن» يسمو عنا كثيرا نحن الديدان - سقوط آدم وما ترتب عليه. وقد يبدو تدبير سقوط آدم أمرا لا يتفق وصفة الخير الكامل. ولكني أقول مرة أخرى إن من الادعاء الباطل أن نستخدم ألفاظنا الدودية في الحكم على أعمال الله. إن الله لا يمكن أن يفعل إلا الخير فيما يرى؛ لذلك فإن خطيئة آدم لا بد أن تكون - عند الله - خيرا.
ناپیژندل شوی مخ