الدكتور :
أقل ما أرد به عليك هو أن أضع سماعة التليفون، وأغلق في وجهك طريق الكلام.
ومضت بعد ذلك دقائق، والدكتور يكاد يرتعش من هول المفاجأة، وبعدها ظهر عنتر في بهو المبنى. ودون أن يلتقي الرجلان وجها لوجه، أخذ يصيح بصوت يهز الجدران، مقسما بالله أن يؤدب هذا المتمرد، ولن تمضي أيام حتى يعلم من هو؟ ومن أنا؟ ... وكنا نحن المشاهدين السامعين نعرف أن الفرق بين الرجلين هو أن أحدهما كان من أهل الثقة، وأن الثاني كان من أهل الخبرة، بكل ما في ذلك من أبعاد.
ولست أعلم منذ ذلك التاريخ - وهو في الحق تاريخ بعيد - ماذا استطاع عنتر أن ينزله بالدكتور من عقاب جزاء عصيانه؛ وذلك أني كنت زائرا عابرا لا يعنيه أن يتابع الحدث إلى نتائجه الأخيرة.
صحيح أن اشتراكيتنا لم تكن عندئذ قد انقضى عليها وقت يمكنها من الرسوخ في أنفس المواطنين، لكن عشر سنوات مرت بعد ذلك، فحدث أن صدر قرار جمهوري لوزير سابق أن يعين أستاذا بإحدى كليات الجامعة، وأظنه لم يكن قبل ذلك أستاذا، فكان أول ما لفت أنظارنا أن الوزير السابق لم يعجبه أن يقدم نفسه إلى عميد الكلية التي سيعمل بها؛ لأنه قد أصبح في رأي نفسه أعلى من ذلك قدرا، فجعل لقاءه مع رئيس الجامعة ، ثم ما هو إلا أن أصدر رئيس الجامعة أمرا بأن تعد للوزير السابق غرفة خاصة، تؤثث بأثاث جديد، في الوقت الذي كان سائر زملائه من الأساتذة يزدحمون في غرفة واحدة. ولم يلبث الأمر أن بلغ بالأستاذ الوزير، أو الوزير الأستاذ، حد المأساة أو المهزلة - لست أدري أيهما - حين أرسل سكرتيره الخاص ذات يوم ليلقي محاضرته بدلا منه!
وأذكر أني أدركت يومئذ شبها عجيبا بين قاعة المحاضرات - وسكرتير الوزير السابق يلقي فيها المحاضرة نيابة عن سيادته - وبين حديقة الهانم.
جوائز الدولة
جوائز الدولة التي أعنيها، هي تلك التي تقدمها الدولة رعاية منها للفنون والآداب والعلوم - سواء كانت علوما اجتماعية أم علوما في مجال الطبيعة والرياضة - والحق أن الدولة في هذه الرعاية تضطلع بواجب نبيل لست أعرف دولة أخرى تؤديه بمثل السخاء الذي تؤديه به الدولة عندنا.
لكن يبدو أن فكرة هذه الجوائز قد يكتنفها شيء من الغموض في أذهاننا. إنها لم تكن تبدو بهذا الغموض كله في أول الأمر؛ إذ كان من الواضح للجميع أنها جوائز مخصصة للإنتاج الفعلي الذي ينتجه رجال الفن أو الأدب أو أصحاب الدراسات والتجارب العلمية الخالصة. فمن لم ينشر له فن أو أدب أو دراسة علمية، لم يكن موضعا للعرض في هذا المجال الخاص. وبعد ذلك فللدولة وسائلها الأخرى الكثيرة التي تعلن بها عن تقديرها لأصحاب الخدمات القومية الجليلة، كالأوسمة والمناصب والرواتب الاستثنائية وغيرها. فافرض مثلا أن جنديا أحسن الأداء في ميدان القتال، فهو بالطبع يستحق تكريم الدولة، لكنه لا يرشح لجائزة من جوائز الفنون أو الآداب أو العلوم.
ومصدر الغموض - فيما يظهر - هو الخلط الشائع فينا شيوعا واسعا وعجيبا، بين أن يكون الرجل مذكور الاسم مرموق المكانة لأي سبب من الأسباب، وبين أن نجعله صاحب حق في أي شيء يختاره لنفسه أو نختاره له، كأنما يكفي الإنسان أن يكون ذا منصب ضخم ليكون بعد ذلك أديبا إذا أراد، فنانا إذا شاء، عالما من علماء الاجتماع أو علماء الرياضة والطبيعة لو أحب، وهو خلط واضح في الترشيحات التي تتقدم بها الهيئات صاحبة الحق في الترشيح لجوائز الدولة كل عام؛ إذ كثيرا جدا ما ترشح الهيئة رئيسها لجائزة الدولة التقديرية حتى ولو لم تعرف له المطابع قبل ذلك كتابا أو بحثا دارت به عجلاتها، أو لم تعرف له معارض الفن صورة أو تمثالا من صنع فرشاته أو إزميله.
ناپیژندل شوی مخ