وعلماء الشعر يجعلونه من أعلى المدح، ويفسرونه بأنها أرادت أن يجذب ويتعلق به في الحاجات لجوده وسؤدده وكثرة الناس حوله.
والمملوك يقول إنه يحتمل أن يكون هجاء لو بدل على أنه مهتضم قليل العشيرة، فإذا مزقت ثيابه لم يقدر على الانتصار لذله، فيخلد إلى الحشمة والحياء، فيخال سقيما. فهذا من المدح الذي أحاله النقد إلى الذم.
ومثله قول زهير:
على مكثريهم حق من يعتريه ... وعند المقلين السماحة والبذل
وهذا مما اتفق المتقدمون على تفضيله، وأجمعوا على استحسانه وتقديمه، وقد خالفهم أحد المتأخرين، فقال: إنه - وإن قصد مدح سادة من الناس - فقد ذمهم بأنواع الذم. فأول ذلك إخباره أن فيهم مكثرين ومقلين، فلو كان مكثروهم كرماء لبذلوا لمقلهم الأموال حتى يستووا في الحال ويشبهوا الذي قال فيهم حسان:
الملحقين فقيرهم بغنيهم ... والمشفقين على الفقير المرمل
ثم فيه أن المكثرين ضيعوا القريب، ورعوا حق الغريب، وصلة الرحم أولى ما بدئ به. ومنها أن المكثرين ليس يسمحون بأكثر من الاستحقاق في قوله: من يعتريهم، ومن أعطى الحق فإنما أنصف ولم يتفضل بما وراء الإنصاف، والزيادة على الإنصاف أمدح. ثم أخبر أن المقلين - على قصور أيديهم - أكرم طباعا من مكثريهم على قدرتهم في قوله:
وعند المقلين السماحة والبذل
فالبذل مع الإقلال مدح عظيم وإيثار، والسماحة إعطاء غير اللازم، فمدح بشعره هذا من لا يحظى منه بطائل، وذم الذين يرجو منهم جزيل النائل، فأبان عن الغلط في الاختيار فقد أخرجه النقد من المدح إلى الذم.
وهذا لا يجوز التمثل به في أيام مولانا - خلد الله ملكه - لأن مكارمه لم تجعل للفقير على الأنام معاجا، وفواضله لم تغادر في لازمان مقلا ولا محتاجا. وضد ذلك مما أخرجه التأول من الذم إلى المدح قول المتنبي:
أيقنت أن سعيدا طالب بدمي ... لما بصرت به بالرمح معتقلا
وهو مما لم يتعرض لتفسيره ابن جني، وقد جعله قوم من سقطاته؛ لأنه تمنى أن يشفع الممدوح له بقوله قبل هذا البيت:
على الأمير يرى ذلي فيشفع لي ... إلى التي تركتني في الهوى مثلا
وقالوا: والشفاعة سؤال ورغبة، فإن أجيب إلى مساعدة أبي الطيب وإلا رجع إلى القهر. والمملوك يقول: إنه جعل الممدح على غاية الجمال لاسيما إذا اعتقل رمحا؛ إذ من الناس من يتضاعف حسنه في زيٍّ مخصوص، فيقول: إن هذه المعشوقة قد سفكت دمي بامتناعها علي مع غرامي بها، وإنني لما رأيت الممدوح على هذه الهيئة التي زاد بها جماله؛ أيقنت أنها تهواه، ويمتنع عليها لعفافه، فتلقى منه مثل ما لقيت منها، فيكون ذلك كأنه طلب بدمي وأخذ بثأري. ولا خلاف أن الإنسان قد يحسن على هيئة ما. فأما المعجزة التي خص الله بها مولانا فنحن نذكرها شكرا على ما منحنا من حسن نظره وأولانا؛ وذاك أنه في كل الهيئات على القضية التي ترتفع عن قضايا البشر، ويتقيد عندها مطلق اللحظة وحاسة البصر، فإن استوى على دست العظمة، واستقر على سرير المملكة رأيت الشمس والمشتري قد امتزجا واتحدا، وشاهدت ما افرده الله تعالى به مما لم يعطه أحدا، فحظه من الشمس عموم نورها واتساعه، ومن المشتري أفعاله الجميلة وطباعه، ومن مجموعهما معنى أحدثه التركيب، تتفرع شعوبه ولا تنحصر أنواعه، وإن شرع في تدبير عبيده ورعيته، ونظر في أمر سلطانه ومصالح دولته، فقد أوفى على البدر ليلة كماله وتمه، وزرى على عطارد بفضله الباهر وعلمه، وجعل الحق مضمونا في قضائه العادل وحكمه وإن تجلى في آلة الحرب، وظهر للذب، وتفريج الكرب؛ لم ترتب باجتماع الزهرة والمريخ متباريين في خدمته، ولم تشك أنهما متنافسان على ما يحظى بحضرته؛ لأن أحدهما تقرب إليه بحسن صورته وهيئته، والآخر توسل عنده بنفاذه ومضائه وهيبته. وهذه منقبة يشهد بها ما حازه من الآيات وحواه، ومعجزة لم ينلها سلطان غيره ولا خص بها ملك سواه.
مما مدح به مهيار وهو إذا أنشد مفردا احتمل الهجاء:
كأن ما قد حل من ماله ... وطاب، محظور عليه حرام
فإذا أنشد الذي قبله خلص للمدح وهو:
وجاد حتى لم يدع فضلة ... تليه للبحر ولا للغمام
فما قول الآخر:
كأني إذ دعوت بني حنيف ... دعوت بدعوتي لهم الجبالا
1 / 28