ومن غير ذلك من الحكايات التي يتناقلها الناس ويتداولونها، ويستكثرون بلاغتها ويستعظمونها على أنها مطلع يقتضي ما يجيء بعده، وابتداء لا عذر للإعجاب أن يكتفي به فيقف عنده ما تضمنه كتاب الوزراء والكتاب لابن عبدوس من أن فتى قدم على عمرو بن مسعدة متوسلا إليه بالبلاغة، وأن عمروا امتحنه فرمى إليه كتاب صاحب البريد في بعض النواحي يخبر أن بقرة ولدت غلاما، وقال له: اكتب في هذا المعنى، فكتب: الحمد لله خالق الأنام في بطون الأنعام. فلما رأى عمرو ذلك جذب ما كتبه من يده، وأحسن إليه، وأعاده إلى بلده. وما علم المملوك أحدا تمم هذه البداية المستحسنة، ولا تعرض لتكميلها في مدة ثلاث مئة سنة، فاستيقظ لاستدراك ما تركه المتقدمون وأغفلوه، وتنبه على استئناف ما أخلوا به وأهملوه، إذ كانت أيام مولانا مكملة كل ناقص من جميع الفنون، ومخصوصة من الفضائل بما يوفي على الأوهام والظنون. وأنشأ في ذلك ما العادة جارية أن يقرأ مثله على الناس وهو: الحمد لله خالق الأنام في بطون الأنعام، ومصورهم بحكمته فيما يشاء من الأرحام، ومخرج الناطق من الصامت مع اختلاف الأشكال، وتباين الأجسام، إبانة عن باهر آيته فيما ابتدع وإظهارا لما استحال في العادات وامتنع؛ ليدل على أن قدرته أبعد غاية مما يتخيله الفكر ويتوهمه، وأن مصنوعاته شواهد وحدانيته لمن يتبين معجزها ويتفهمه. ويحمده أمير المؤمنين على ما اختص به أيامه من بدائع مخلوقاته، ويشكره على غرائب صنعه التي أضحت من دلائل فضله وعلاماته؛ إذ كان - جل وعلا - قد جعل آياته موقوفة على أزمنة أصفيائه، ومعجزاته مقصورة على عصور أنبيائه وأوليائه، على أن لديه من خليله وفتاه، وصفيه الذي أوجه السعد نحوه وأتاه، السيّد الأجل الأفضل أمير الجيوش سيف الإسلام، ناصر الإمام، كافل قضاة المسلمين، وهادي دعاة المؤمنين، عضد الله به الدين، وأمتع بطول بقائه أمير المؤمنين، وأدام قدرته، وأعلى كلمته، الذي اكتسى الدين بنصرته ثوب الشباب والبهجة، واقترنت المبالغة في صفاته بقول الحق وصدق اللهجة؛ ملكا غدا الزمان جذلا بدولته مغتبطا، وسيدا ارتفع أن يأتي بالمكارم إلا مخترعًا لها مستنبطًا، وسلطانًا يفعل الحسنة عذراء، ويتنزه أن يفعلها عوانا، وهمامًا يتأنس في العزمات بنفسه، فلا يستنجد أنصارا لها ولا أعوانا. لا جرم أن أمير المؤمنين يرفل من تدبيره في ملابس العز الفاخرة، ويتحقق أن النعمة به في الدنيا برهان ما أعد له في الدار الآخرة، ويرغب إليه في الصلاة على جده محمد سيد ولد آدم، وأشرف من كل من سلف وقته وتقادم، والمبعوث بشيرا ونذيرا إلى كافة البشر، والمخصوص تسبيح الحصى، وحنين الجذع، وانشقاق القمر، صلّى الله عليه وعلى أخيه وابن عمه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، مستودع سره، ومنتهى علمه ومقره، ومن قاتل الجن فسقوا بعضبه كأس المنون، وردت له الشمس كما ردت من قبله ليوشع بن نون، وعلى آلهما الهداة الأئمة الذين زالت بإرشادهم كل شبهة وغمة، ونسخت بأنوارهم ظلم الشكوك المدلهمة، وتنقلت فيهم سيادة هذا العالم، وسيادة هذه الأمة، وسلم عليهم أجمعين تسليما، وزادهم تشريفا وتكريما وتعظيما. وإن أمير المؤمنين إذا تأمل ما ينشئه الله تعالى ويبدعه، وتدبر ما يبدئه سبحانه ويخترعه؛ وجد من غرائب الفعل، وغوامض القدرة، وعجائب الصنع، وسرائر الفطرة؛ ما يبعث على الضراعة له والخشوع، ويدعو إلى الاستكانة لعظمته والخضوع، ويقتاد كل ذي لب وتصور، ويضطر كل ذي عقل وتفكر إلى صحة العلم بأنه الله الذي لا إله إلا هو، الواحد لا من حساب عاد والقاهر بلا مدافع لأمره ولا راد، والرازق المنشئ المقدر، والخالق البارئ المصور، مخرج العالم من العدم إلى الوجود، وفاطر النسم على غير المثال المعهود، والدال على حكمته بإتقان ذلك وإحسان تركيبه، ومصرف الأقدار فيما تحدثه قدرته النافذة وتأتي به. وهذا برهان أمير المؤمنين فيما هو لهج به من الذكر والتوحيد، وحجته فيما هو متوفر عليه من مواصلة التحميد والتمجيد، والله ﷿ يضاعف له ثواب المجتهدين، وينيله الزلفة بما يعينه عليه من إعزاز الدين. وإنه عرض بحضرة أمير المؤمنين كتاب متولي البريد، يتضمن أمرًا أبان عن العظمة القاهرة، وأعرب عن المعجزة الباهرة، يتضمن أمرا أبان عن العظمة القاهرة، وأعرب عن المعجزة الباهرة وأوضح
1 / 22