كم من شجاع قدته نحو الردى ... بدم من الأوداج كأرسان
روى ليضرب فابتدهت بطعنه ... إن الرماح بداية الفرسان
وقال:
وفيت لربك فيمن غدر ... وأنصفت دينك ممن كفر
ولم تتقدم بجيش الرجا ... ل حتى تقدم جيش الفكر
فعاقر سيفك حتى انحنى ... وعربد رمحك حتى انكسر
وكم نبت في حربهم عن علي ... وناب عن النهروان النهر
وأبو بكر هذا من الأعيان المشهورين، والمجيدين المذكورين، والمحسين في خطاب الملوك، والمطلعين باستعطافهم شمسا آمنة من الدلوك. فمن ذلك ما كتب به إلى أحد السلاطين وهو مزمع على السفر لخوف لحقه منه:
أصدق ظني أم أصيخ إلى صحبي ... وأمضي عزيمي أم أعوج عن الركب
أخافك للحق الذي لك في دمي ... وأرجوك للحب الذي لك في قلبي
وهذا وإن كان مأخوذًا من قول مهيار في القصيدة التي أولها:
سل الركب إن أعطاك حاجتك الركب ... من الكاعب الحسناء تمنعها كعب
أحبك ودا من يخافك طاعة ... وأعجب شيء خيفة معها حب
فإنه ألذ مسموعا، وأحسن مصوغا. وقد أحسن الآخر في قوله:
تمر سفيهات الرياح بأرضه ... فترصن إجلالًا له وتوقر
وتشتاق عينيه الكرى وتخافه=فيأتي إلى الأجفان وهو مغرر ومن مليح الوصف بالخوف:
مخوف والصوارم لم تجرد ... ولا أخلت مرابطها الخيول
ويكسو الصبح من نقع خضابا ... كليل والنصول به نصول
وكتب إليه أبو بكر أيضًا:
إني لممن إن دعاه لنصرة ... يوما بساطا حجة وجلاد
أذكيت دونك للعدى حدق القنا ... وصمت عنك بألسن الأعماد
وهذا من أجزل عبارة، وأجود استعارة. ولله مهيار حيث يقول:
وهل تخفى المقاتل وهي بيض ... على مقل الذوابل وهي زرق
وقد أكثر الناس من الكناية عن السيوف، ومن مليح ما جاء في ذلك قول أبي تمام يصف سحابة:
سيقت ببرق ضرم الزناد ... كأنه ضمائر الأغماد
وهذا مما جعل منه الفرع أصلا؛ لأن المعتاد أن تشبه السيوف بالبروق، فتكون البروق أصلًا لأنها مشبه بها، وتكون السيوف فرعا لأنها مشبهة، فقلب مبالغة. وقال أبو الطيب: وأترك الغيث في غمدي وأنتجع فأما الأعشى النحوي فجعله جدولًا فقال:
ملك إذا ادرع الدلاص حسبته ... لبس الغدير وسل منه جدولا
ومثله قول محمد بن البين:
وجلوا ظلام الليل بالصبح الذي ... قسموه بين جيادهم أوضاحا
وأتوا بغدران المياه جوامدا ... قد فصلوها ملبسا وسلاحا
وقول محمد بن عثمان:
أنى يهاب ضرابهم وطعانهم ... صبا بألحاظ العيون طعين
فكأنما بيض الصفاح جداول ... وكأنما سمر الرماح غصون
وقد سماه قوم سليل الصاعقة، وسماه آخرون طبيب النفاق. وما أحسن قول الكموني:
لما التقى أسد العرين وشادن ... تحت الإزار وصارم بتار
قالت: أرى بيني وبينك ثالثا ... ولقد عهدتك بالدخيل تغار
أأمنت نشر حديثنا؟ فأجبتها ... هذا الذي تطوى به الأسرار
ومن غريب التصرف في وصفه، قول الآخر:
عقرت في سهك التراب خدودهم ... حتى ظننا أنها تتشيع
وتركت في عفر التراب رؤوسهم ... في الأرض تسجد عن سيوف تركع
وقوله أيضًا:
جعلت رؤوس القوم عرس سيوفنا ... تعصفر من أوداجهم وتطيب
إذا وعدتها البيض صادق وعدها ... بعثت لها البيض الرقاق تكذب
ومن قوله:
إذا سلبته عزمة منك غمدة ... كسته نجيعا فهو يكسى ويسلب
وإنما أخذه من قول السري:
يكسوه من دمه ثوبا ويسلبه ... ثيابه فهو كاسيه وسالبه
وأخذه السري من قول البحتري:
سلبوا وأشرقت الدماء عليهم ... محمرة فكأنهم لم يسلبوا
وقد جعلها ابن حيوس صوالج، فقال:
لك اليوم الذي شابت قرون ... به من بعد أن فنيت قرون
بحيث بنيت مرهفة المواضي ... صوالج والرؤوس لها كرين
وكرين: جمع كرة؛ لأنه يقال في جمعها كرات وكرين، ولهذا أخذ على القائل في وصف النارنج:
كأن السماء همت بالنضار ... فصاغت لنا الأرض منه أكر
وعلى أبي نواس قبله في قوله في أرجوزته:
يحدو بحقب كالأكر
1 / 12