وهكذا ينتقد ليبنتس نظرية ديكارت، التي تقول بتأثير الجسم والنفس كل منهما في الآخر، على أساس استحالة هذا التأثير بين جوهرين: أحدهما مادي والآخر لا مادي ، وينتقد نظرية مالبرانش التي تجعل تأثير النفس في الجسم مجرد «فرص» أو «مناسبات» لتدخل القوة الإلهية. ومن المؤكد أن ليبنتس - رغم أنه قد اعتاد التخلص من كل مشكلة تعترضه بالالتجاء إلى فكرة العناية الإلهية - كان في هذه الحالة يخفف من غلواء النزعة الدينية المتطرفة عند مالبرانش، الذي جعل التدخل الإلهي مستمرا في كل لحظة يحدث فيها تأثير من النفس في الجسم أو العكس. وليس معنى ذلك أن ليبنتس قد أنكر تدخل المبدأ الإلهي. ولكنه جعل هذا التدخل يقتصر على فعل الخلق الأصلي، الذي أدى إلى وجود الذرات الروحية أو الجواهر البسيطة، ولما كان هذا الفعل كاملا منذ البداية، فإن كل شيء يسير بعد ذلك في طريقه السليم، ويتحقق الانسجام التام بين الجسم والنفس، على الرغم من أن كلا منهما يسلك وفقا لطبيعته الخاصة، ولا يخضع إلا للقوانين التي تقتضيها هذه الطبيعة.
على أن الانسجام بين الجسم والنفس - داخل الكائن البشري - إنما هو تعبير جزئي عن ذلك الانسجام الأكبر الذي يسود الكون بأسره، فقد كان من الطبيعي أن يؤمن ليبنتس بأن العالم منظم ومعقول، وبأنه لا وجود لشيء ممتنع أو شاذ أو خلو من المعنى. وهكذا يستطيع العقل الخالص أن يدرك كل ما في الكون تبعا لما فيه من ضرورة، ولما له من دلالة، ويختفي الشر من العالم، ويصبح كل شيء منظما واضحا معقولا، ولا يخلو العالم من كل خطأ وكل نقيصة، وهذه الفكرة واضحة كل الوضوح من العبارة الأخيرة في النص الذي اقتبسناه منذ أسطر قليلة، والتي أكد فيها وجود انسجام بين عالم العلل الفاعلة وعالم العلل الغائية. وبعبارة أخرى: فحين يسير كل شيء تبعا لقانونه الطبيعي الخاص، يكون في الوقت ذاته قد حقق الغاية الإلهية المقصود منه، وتفسير الأشياء علميا يتفق وينسجم مع تفسيرها في ضوء الحكمة الإلهية، «فلا شيء في الكون يضيع بددا، ولا شيء عقيم أو ميت، ولا اضطراب ولا خلط إلا في الظاهر فحسب.»
9
في هذا العالم الذي يسوده الانسجام، والذي هو - في رأي ليبنتس - أفضل عالم ممكن؛ لأن الكمال الإلهي يحتم ألا يتحقق بالفعل إلا أكمل ما يمكن أن يتحقق، في هذا العالم المنظم - الذي يتكشف كل شيء فيه للعقل وللمنطق - تقف النفوس في مراتب يعلو بعضها على بعض، وتحتل المرتبة العليا فيها تلك الأرواح العاقلة التي هي صورة للألوهية، والتي ترتبط بالله في علاقة أشبه بعلاقة المخترع بآلته، بل الحاكم برعاياه والأب بأبنائه،
10
هذه الأرواح العاقلة يكون مجموعها ما أطلق عليه ليبنتس اسم «مدينة الله»، أي «أكمل دولة يحكمها أكمل الملوك.»
ويختتم ليبنتس كتاب «المونادولوجيا» بفقرات شعرية الأسلوب، تتضمن إطراء «لمدينة الله» هذه وتمجيدا لما يسودها من خير ونظام. وفي هذا النص يقول: «هذه المدينة الإلهية وهذه المملكة الشاملة بحق، هي عالم أخلاقي في العالم الطبيعي، وهي أرفع أعمال الله وأكثرها ألوهية. وفيها يكون المجد الإلهي بحق؛ إذ إن هذا المجد ما كان ليوجد لو لم تكن الأرواح تدرك عظمته وخيرته وتعجب بها. وفي هذه المدينة الإلهية تتبدى خيرية الله حقا، على حين أن حكمة الله وقدرته تتبدى في كل شيء.» «وكما أثبتنا من قبل وجود انسجام كامل بين مملكتين طبيعيتين: إحداهما مملكة العلل الفاعلة والأخرى مملكة العلل الغائية، فينبغي أن نلاحظ هنا انسجاما آخر بين المملكة المادية - مملكة الطبيعة - وبين الممالك الأخلاقية، مملكة اللطف الإلهي
grâce ؛ أي بين الله، منظورا إليه على أنه مهندس آلة الكون، والله منظورا إليه على أنه ملك مدينة الأرواح الإلهية.
هذا الانسجام يجعل الأشياء تؤدي إلى اللطف الإلهي بنفس مسالكها الطبيعية؛ بحيث ينبغي مثلا أن يدمر العالم ويقوم بالطرق الطبيعية في اللحظات التي تقتضيها حكم الأرواح، من أجل عقاب بعضها ومثوبة البعض الآخر.»
ويمكن القول أيضا: إن بوصفه صانعا
ناپیژندل شوی مخ