وهكذا يعود المنهج الاستنباطي القائم على أسس ميتافيزيقية إلى صبغ نظرة ديكارت إلى نفسه وإلى معاصريه بصبغة بعيدة عن التواضع والتضافر الذي يقتضيه العلم، فديكارت يتصور أنه لا يدين للعلماء المعاصرين له بشيء، ويترفع عن قراءة أبحاثهم بإمعان، ويتملكه إحساس طاغ بأنه هو القادر على إصلاح مسار المعرفة البشرية كلها؛ لأن درجة اليقين التي يستطيع بلوغها في العلم - بفضل المبادئ الأولى التي يرتكز عليها - لا تتوافر لدى أي باحث علمي غيره.
والواقع أن ديكارت كان منذ اللحظة الأولى في حياته الفكرية يشعر بأنه يحمل رسالة مقدسة ألقيت على عاتقه هو، ولم تكن تلك الرؤى الثلاث التي ظهرت له في شبابه المبكر، والتي شكر من أجلها الله لأنه اختصه برسالة المعرفة؛ لم تكن سوى تعبير عن إحساسه بأنه هو الذي يستطيع أن يحمل العبء وحده. ولقد كان أسلوب «الحلم أو الرؤيا» هو ذاته أسلوبا ذا طبيعة تنبؤية، وربما كان للمرء أن يشك في صحة التفاصيل التي رويت عن هذه الرؤيا بعد ثمانية عشر عاما من حدوثها (حدثت الرؤيا عام 1619م، ورواها ديكارت في «المقال في المنهج» عام 1637م). بل إن من الباحثين من أبدى عدم اقتناعه بالموضوع بأسره. ولكن هذه مسألة لا تهمنا كثيرا، وإنما الذي يهمنا هو دلالة الأسلوب الذي اتبعه ديكارت، والذي ينم عن إحساسه بأنه هو الذي اختير لحمل رسالة المعرفة.
وتتوالى الشواهد على هذا الإحساس بالتعالي وبالأهمية الذاتية عند ديكارت؛ إذ تتخذ فكرة «الكوجيتو» عنده طابعا فيه إشارة دائمة إلى «الأنا» الذي يفكر، والذي يستدل عن طريق أفكاره وحدها على وجودها الله، ويؤسس عليه وجود العالم، ثم يتخذ من هذه المبادئ الميتافيزيقية المستخلصة من داخل العقل والروح البشرية مصدرا للمعرفة يفوق في أهميته أية كتابات أو أبحاث علمية أخرى، وأية مشاهدة مباشرة للوقائع. وحتى المرحلة الأخيرة من حياة ديكارت ظل هذا الاعتقاد بأنه يستطيع أن يفعل ما لا يقدر عليه غيره ملازما له، ويكفي قوله في مقدمة كتاب «مبادئ الفلسفة»: «لقد كان هناك رجال عظماء حاولوا أن يهتدوا إلى، الحكمة حتى الآن.»
هذه لهجة قد يراها البعض تعاليا وترفعا، وقد يراها غيرهم تعبيرا عن كبرياء المفكر واعتزازه بنفسه. ولكنها قبل كل شيء لهجة فيلسوف يحاول أن يفرض طريقته التأملية على مسار العلم، والتعليل الأخير لهذا كله إنما يكمن في ذلك التداخل الفريد بين الميتافيزيقا والعلم عند ديكارت. وفي احتفاظه للجذور الميتافيزيقية - في شجرة المعرفة - بدور إيجابي تظل تقوم به حتى بالنسبة إلى أبعد الأغصان والثمار.
خاتمة
كشف لنا هذا البحث عن إمكان تفسير ذلك التشبيه الذي يبدو بسيطا في ظاهره - تشبيه الشجرة - على أنحاء متعددة، يؤدي كل منها إلى فهم مختلف للعلاقة بين الميتافيزيقا والعلم في فلسفة ديكارت؛ بحيث يمكن القول - بمعنى معين: إن الاتجاه الفكري العام لديكارت يتحدد على أساس الموقف الذي نتخذه من هذا التشبيه. وقد تركنا جانبا الموقف الأول، الذي يركز الاهتمام على الميتافيزيقا ويكاد يتجاهل أو يعده ثانوي الأهمية؛ لأنه يجد من يعبرون عنه بكل قوة بين الكتاب ذوي النظرة التقليدية، وتوسعنا في عرض وجهة النظر التي تؤكد أهمية الجانب العلمي في فلسفة ديكارت، وذلك من خلال تفسيرين: أحدهما يجعل العلم هدفا أساسيا إيجابيا تتوارى إلى جانبه الميتافيزيقا التي تكتفي بتمهيد الطريق له فحسب، والآخر يجعل للميتافيزيقا دورا إيجابيا يظل ملازما للعلم حتى أبعد أطرافه وأكثرها تشبعا.
ومن خلال هذين الرأيين الأخيرين، اللذين لا يتعارضان في تأكيدهما لأهمية العلم. ولكنهما يتعارضان في الدور الذي ينسبه كل منهما إلى الجذور الميتافيزيقية في عملية اكتساب المعرفة، يتضح لنا أن المرء يواجه ها هنا إشكالا يتعلق بصميم مهمة الفلسفة التأملية عند ديكارت: فهناك شواهد قوية تدل على أن ديكارت أراد من هذه الفلسفة التأملية أن تكون «جواز المرور» إلى المعرفة العلمية، التي هي في نظره الغاية والهدف. ولكن هناك في الوقت ذاته شواهد أخرى تدل على أنه أراد لهذه الفلسفة أن تظل تقوم بدورها في إضفاء يقين راسخ على العلم حتى النهاية.
ويبدو لي أن عصر ديكارت ذاته وموقعه التاريخي ودوره كفيلسوف تحمس للمعرفة العلمية، كل هذه العوامل تعمل على الاحتفاظ بالأشكال في حالة تناقض حي، وتدعونا إلى الامتناع عن اتخاذ موقف نهائي بين طرفيه المتعارضين، فديكارت أراد أن يحتفظ للفلسفة بشيء مميز في عصر بدأ العلم فيه يصبح هو الوسيلة الرئيسية لتحصيل معرفة عن العالم، وأغلب الظن أنه اضطرب في محاولته هذه. ولكن هذا الاضطراب، والتخبط، كان طبيعيا في عصر حدثت فيه لأول مرة مواجهة بين منهج فلسفي يحمل كل التراث الماضي للمعرفة، ومنهج علمي يبشر بطريق جديد للمعرفة في المستقبل.
بل إن في وسعنا القول: إن مثل هذا الاضطراب في تحديد موقف الفيلسوف إزاء العلم ما زال يلازم الفلاسفة حتى يومنا هذا؛ إذ يسعى الفلاسفة بكل وسيلة إلى أن يحتفظوا للفلسفة بمجال مميز ومنهج خاص بها. ولكنهم يدركون في الوقت ذاته أن العلم هو أفضل وسيلة متاحة لتحصيل معرفة صحيحة عن الواقع؛ ومن هنا تتعدد المواقف. وربما تناقضت الاتجاهات حتى عند الفيلسوف الواحد، وهو تناقض يعبر عن تلك الأزمة الأساسية التي يعانيها الفكر الفلسفي في عصر العلم.
لقد كان الفكر القديم متحررا من أية أزمة من هذا النوع؛ لأن الفلسفة لم تكن تجد أمامها منافسا. وكان منهجها هو الوحيد الذي يعد وسيلة لتحصيل أية معرفة. ولكن منذ اللحظة التي ظهر فيها منهج أدق وأكثر ثقة بنفسه وبخطواته وبنتائجه؛ أعني منذ أوائل العصر الحديث وجدت الفلسفة نفسها في أزمة حقيقية هي أزمة تحديد موقفها من هذا النوع الجديد من المعرفة.
ناپیژندل شوی مخ