27
ومن الواضح في هذه المعاني جميعا أن «الصور» ليست مفارقة ولا مجردة كما كان يراها القدماء، وإنما هي كامنة في قلب الشيء الطبيعي ذاته، ولها طبيعة يمكن تحديدها وحصرها بدقة، وما هي إلا طريقة خاصة من طرق وجود المادة، تعين على حصر العالم والتحكم فيه، ويرى «بروشار» أن فكرة القانون هي الفكرة الأساسية في هذه المعاني كلها. ولكن القانون عند بيكن ليس له نفس المعنى المعروف عند جون ستيوارت مل؛ أي التعاقب الدائم غير المشروط؛ لأن بيكن يميز بين الصورة وبين العلة الفاعلة، ويرى أن كشف الأولى أعمق وأصعب من كشف الثانية، فضلا عن أن القانون، عنده متعلق «بالفعل المحض» للمادة. وهكذا يفسر معنى القانون عند بيكن - وبالتالي معنى الصورة، بأنه هو التنظيم الميكانيكي لدقائق المادة، الذي يؤدي في كل حالة إلى ظهور إحدى الطبائع كالحار والبارد والجاف والرطب، وعن طريق كشف هذه الصيغة التي هي رياضة خالصة، وإن تكن هي «العملية الكامنة» في قلب الظواهر - يستطيع الإنسان إخضاع الطبيعة لعقله، وتحقيق السيطرة الكاملة عليها.
وإذا صح هذا التفسير فإن من الممكن استخدامه في الرد على اعتراض أساسي كان يوجه دائما إلى بيكن، وهو أنه يتجاهل قيمة الرياضيات في الكشف العلمي، على العكس من ديكارت الذي كان تفكيره أكثر تمشيا مع العلم الحديث؛ لأنه أكد الأهمية الأساسية للرياضة ومنهجها، والحق أن فلسفة بيكن العلمية تبدو لأول وهلة فلسفة لا تهتم إلا بالكيفيات؛ لأن «الطبائع» التي تحدث عنها إنما هي الكيفيات الأساسية للأشياء. كما أن اهتمام بيكن قد انصب أساسا على الدعوة إلى دراسة العلم التجريبي والتاريخ الطبيعي، وهي علوم قائمة على الملاحظة والتجارب الكيفية، بينما أبدى تحاملا على الرياضيات لأنها «مجردة»، تضفي على الأشياء صورة لا تعبر عن حقيقتها، شأنها شأن سائر التجريدات الميتافيزيقية. وهذا كله صحيح. غير أن المرء يستطيع أن يستشف من وراء اهتمام بيكن الزائد «بالصورة» الكامنة في الطبائع الكيفية نوعا من الاتجاه إلى إدراك قيمة الصيغ الرياضية في التعبير عن القوانين النهائية للعالم الطبيعي؛ أعني اتجاها إلى استبدال الكم بالكيف، والحق أننا لو أمعنا النظر في النقد الذي يوجهه بيكن إلى اللغة المعتادة في «أوهام السوق»؛ لوجدنا فيه تقديرا لقيمة الرياضيات؛ إذ إن الخلافات بين العلماء تنحل - بسبب استخدامهم لألفاظ اللغة المعتادة - إلى خلافات حول الأسماء، «ومن هنا فإن من الأفضل (محاكاة للرياضيين في حذرهم) أن نسير بمزيد من الحرص منذ البداية، وأن نضفي النظام على هذه الخلافات باستخدام التعريفات»،
28
وهكذا فإن التعريف الرياضي في رأيه وسيلة لإضفاء المزيد من الدقة على الأفكار المتعمقة، ومن هذا كله يتضح أن بيكن - مع تحمسه الشديد للعلم التجريبي - لم يكن معاديا للرياضيات كما قد يبدو لأول وهلة، وأن انتقاداته للرياضة إنما ترجع إلى حذره من الإفراط في التجريد من جهة، وترجع من جهة أخرى إلى خوفه مما جره المنهج الاستنباطي (عن طريق القياس) من أضرار على العلم، وحرصه على الابتعاد عن كل ما قد يشتم منه شبهة الاستنباط. (7) تأثير بيكن
على الرغم من أهمية نظرية الاستقراء عند بيكن فإن التأثير الأعظم له لم يكن في هذا الميدان؛ ذلك لأن البحث في مناهج العلم أمر مشكوك في قيمته دائما، ويبدو أن بيكن ذاته قد وصل إلى هذه النتيجة، وأدرك أن العالم لا يخضع لمناهج يفرضها عليه الفلاسفة، وإنما هو يضع لنفسه مناهجه خلال عملية البحث العلمي ذاتها؛ ومن هنا فقد توقف عن إكمال «الأورجانون الجديد»، واتجه بذهنه إلى مشروعات أخرى أجدى من فرض المناهج على العلماء. والواقع أننا نستطيع أن نقول: إن الفارق الحقيقي بين القياس والاستقراء هو أن الأول يزيد من تأكيد أهمية المنهج الفلسفي، على حين أن الثاني يميل إلى الإقلال من هذه الأهمية ؛ فالقياس يعني مزيدا من الاهتمام بالألفاظ، أو تحليل المعرفة عن طريق التعامل مع كلمات، على حين أن الاستقراء يعني مزيدا من الاهتمام بالأشياء ذاتها والوصول إلى العلم بغير واسطة من الإجراءات والعمليات المنطقية. وبعبارة أخرى؛ فالأول يؤكد أهمية المنطق على حساب الطبيعة، والثاني يؤكد أهمية الطبيعة على حساب المنطق. وهكذا يبدو أن بيكن - حين دعا إلى استبدال الاستقراء بالقياس - لم يكن يدعو في واقع الأمر إلى إحلال نوع جديد من المنطق محل نوع قديم، وإنما كان يدعو إلى تنظيم جديد للمعرفة البشرية، يبتعد فيه الفكر عن عبودية المنطق ويرجع إلى المصدر الأصلي للمعرفة وهو الطبيعة؛ أي إنه في «الأورجانون الجديد» إنما يدعو إلى منطق يقضي على تقديس المنطق، واستدلال يقلل من أهمية الاستدلال.
وعلى هذا الأساس ينبغي البحث عن تأثير بيكن الحقيقي في نواح أخرى من تفكيره، وبالفعل كان لبيكن تأثير عظيم في الأجيال التالية، في أوروبا بوجه عام وفي بلاده بوجه خاص، على الرغم من مظاهر الضعف الأساسية في تفكيره: كاعتقاده بأن العالم بسيط ويمكن كشف جميع أسراره في فترة معلومة وعلى يد عدد محدد من العلماء، وكمعارضته لنظرية «كبرنك» الفلكية الجديدة، وعدم إدراكه الدلالة الحقيقة لأفكار كبلر وجاليليو العلمية، وقد لخص «أندرسن»
29
تأثير بيكن الأكبر في ثلاث نقاط: (1)
تحريره للعلم من حفظ المعارف وترديدها ومن طريقة النقل والرجوع إلى التراث التي كانت سائدة في أعظم الجامعات في ذلك الحين. (2)
ناپیژندل شوی مخ