21
وما القياس إلا طريقة لإقناع الخصم وقهره عن طريق الحجج اللفظية؛ على أن هدف البحث العلمي ليس قهر الخصوم، وإنما قهر الطبيعة ذاتها. وليس السيطرة على الألفاظ، وإنما السيطرة على مجرى الحوادث؛ ومن هنا كان القياس منهجا عقيما كل العقم بالنسبة إلى أي علم يرمي إلى كشف حقائق الكون وإخضاعها لسيطرة الإنسان، وغاية ما يمكن أن ينتفع به من القياس، هو استخدامه أداة لنشر الحقائق وإقناع الأذهان بها، لا لكشف الجديد منها.
22
ولعل أكبر عيوب القياس في نظر بيكن، هو أنه يشجع الإنسان على التعميم السريع؛ إذ إن قضايا المنطق الصوري تتخذ عادة صبغة عامة تبدو معها منطقية على كل الظواهر المنتمية إلى مجال البحث، مع أن الوصول إلى أي حكم عام ينبغي أن يكون عملية شاقة متدرجة يمارسها الذهن بحذر شديد وبعد بحوث طويلة. وهكذا فإن الاتجاه إلى التعميم المتسرع في القياس هو في واقع الأمر مظهر من مظاهر اتجاه أعم في الذهن البشري، يطلق عليه بيكن اسم استباق الطبيعة
anticipation of nature ، والمقصود منه الانتقال بسرعة من معلومات جزئية إلى أعم النتائج التي تتخذ مبادئ يقينية تستمد منها حقائق متوسطة تطبق على المجالات المختلفة؛ ذلك لأن لدى الذهن ميلا طبيعيا إلى استخلاص نتائج متسرعة، وإلى التعجيل بالتعميم، حتى لو كان ذلك الذهن من النوع المدقق الفاحص، ولو ترك الذهن وحده دون منهج يضبط خطواته، فإن اقتصاره على العمل بقواه الخاصة يؤدي به إلى الوقائع في خطأ التعميم السريع حتما،
23
ولا شك أن تأكيد بيكن لهذا الميل إلى تجاوز الذهن لذاته، يذكر المرء بما سيقوله «كانت» فيما بعد عن ميل الذهن إلى تجاوز حدود التجربة والخوض في مسائل ميتافيزيقية لا ضباط لها، ولا دليل على صحتها أو بطلانها، فعمل بيكن في هذا الصدد هو نوع من نقد العقل؛ أعني أنه نقد للعقل العلمي كما كان سائدا في عصره.
24
وفي مقابل «استباق الطبيعة»، يقول بيكن بطريقة أخرى سليمة للبحث العلمي، هي «تفسير الطبيعة
interpretation of nature » وهي الطريقة التي يلخص بها جهوده في ميدان المناهج العلمية، والتي يرى أنها هي الكفيلة بكشف القوانين العلمية الجديدة، وقهر الطبيعة بدلا من قهر الخصوم. وفي هذه الطريقة يبدأ الذهن بدراسة الجزئيات وملاحظتها، ثم يصعد تدريجيا - بحذر شديد - حتى يصل إلى نتيجة عامة. ولكن التعميم في هذه الحالة لا يكون مطلقا كما كان الشأن في الطريقة القديمة. ومن المؤكد أن الأذهان لا تقبل على هذه الطريقة بسهولة، إذ إنها تقتضي مجهودا أشق، فضلا عن أنها لا ترضي الخيال؛ لأنها لا تقدم إليه مكافأة سريعة، ومع ذلك فلا أمل في تقدم العلم إن لم تستطع الأذهان ترويض ذاتها بحيث تصبر على البحث التدريجي الشاق بدلا من أن تكتفي بإرضاء ذاتها عن طريق استباق الطبيعة.
ناپیژندل شوی مخ