أما الوجه الإيجابي فهو الإيمان المطلق بالعلم وبقدرته على تحسين أحوال البشر؛ ذلك لأن الدعوة إلى المعرفة النظرية - كما كانت سائدة في العصرين القديم والوسيط - كانت دعوة مستسلمة تفصل بين العلم وبين واقع حياة الإنسان. وكان بيكن هو الذي بعث الأمل الذي كان يبدو بعيدا عن التحقيق، وهو استخدام العلم أداة في يد الإنسان، تعينه على فهم الطبيعة، وبالتالي على السيطرة عليها.
ولقد عبر «فارنجتن» عن هذه الفكرة أوضح تعبير في كتابه عن «فرانسس بيكن»، وهو الكتاب الذي يمكن أن يعد إثباتا مطولا لرأي بيكن في ضرورة استخدام العلم في زيادة رفاهية الإنسان، وهكذا يقول في مستهل كتابه هذا: «إن قصة فرانسس بيكن إنما هي قصة حياة كرست لفكرة عظيمة. هذه الفكرة قد تملكته صبيا، ونمت مع التجارب المنوعة لحياته، وشغلته وهو على فراش الموت، والفكرة اليوم مألوفة متداولة ولكنها في عصره كانت تجديدا إبداعيا، تلك هي الفكرة القائلة: إن المعرفة ينبغي أن تثمر في أعمال، وأن العلم ينبغي أن يكون قابلا للتطبيق في الصناعة، وأن على الناس أن يرتبوا أمورهم بحيث يجعلون من تحسين ظروف الحياة وتغييرها واجبا مقدسا عليهم»
8
كما يقول قرب نهاية كتابه: «إن بيكن يدخلنا جوا ذهنيا جديدا، وعندما نحلل هذا الجو؛ نجد أن أهم عناصره ليس ما أحرزه من تقدم علمي، وإنما هو ثقته المتينة في قدرة العلم على تغيير حياة الإنسان.»
9
والواقع أن بيكن إذا كان قد أتى بجديد في تاريخ التفكير الفلسفي والعلمي، فإنما يكون هذا التجديد في المعيار الذي وضعه للعلم الصحيح: وهو قدرته على أن يثمر أعمالا؛ فالعلم العقيم ليس علما ، والعلم الذي يذهب ويختفي دون أن تتغير معه حياة الإنسان في شيء ليس علما، والعلم الذي هو مجرد تكديس للأفكار والآراء دون أن ينعكس تأثيره على أحوال الناس الفعلية ليس علما، وإنما العلم في رأيه هو ذلك الذي يمكن أن يثمر أعمالا ويؤدي إلى تغيير حقيقي في حياة الناس. وهذا يعني - بعبارة موجزة - أن العلم كما يدرس في معاهد العلم الموجودة ليس علما، وأنه لا بد من حدوث ثورة شاملة في نظرة الناس إلى العلم، إلى وظيفته وإلى طريقة تحصيله.
وهكذا اتجهت دعوة بيكن إلى القيام بأنواع جديدة من الدراسات العلمية التي ترتبط بحياة الإنسان ارتباطا وثيقا؛ بحيث يكون هذا العلم أساسا متينا تبنى عليه الفلسفة الجديدة، بدلا من ذلك الأساس الواهي القديم، وهو التجريدات اللفظية الخاوية؛ ومن هنا فقد كتب بيكن ملحقا لكتاب «الأورجانون الجديد»، بعنوان: «المدخل إلى تاريخ طبيعي وتجريبي
historiam naturalem et experimentalem ». وفيه يقول: «إن ما قلناه في مناسبات متعددة ينبغي أن يؤكد هنا مرة أخرى تأكيدا قاطعا، وأعني به أنه لو تجمعت العقول في كل الأزمان أو شرعت في التجمع من الآن فصاعدا، ولو عكف البشر جميعا أو شرعوا في العكوف على الفلسفة من الآن فصاعدا، ولم تعد الأرض كلها إلا معاهد وكليات ومدارس لأهل العلم، فمحال أن يتحقق الآن أو في المستقبل أي تقدم جدير بالبشر - في الفلسفة أو العلوم - دون تاريخ طبيعي وتجريبي كذلك الذي ندعو إليه. هذا على حين أنه لو جمع تاريخ كهذا ونظم مع إضافة ما سيكون ضروريا خلال عملية التفسير من تجارب كاشفة ومساعدة، فإن بحث الطبيعة والعلوم جميعا لن يقتضي عمل أكثر من سنوات قلائل، وإذن فلا مفر من تنفيذ هذه الخطة، أو التخلي عن الموضوع كله.»
وبغض النظر عما نجده من سذاجة في أواخر النص السابق، حين أعرب بيكن عن اعتقاده بأن مشاكل العلم يمكن أن تنتهي في سنوات قلائل لو تضافرت لحلها جهود العلماء، وهو اعتقاد ينم عن إيمان ساذج ببساطة الكون، بغض النظر عن ذلك، فإن بيكن كرس جزءا كبيرا من حياته ومن كتاباته للدعوة إلى تنظيم البحث العلمي بصورة تقترب كثيرا من صورته في العصر الذي ازدهر فيه العلم بعد وفاة بيكن. وهكذا رسم في أحد مؤلفاته المخلفة - واسمه «الأطلنطس الجديدة
New Atlantis » - خطوط مشروع لإنشاء نوع جديد من معاهد العلم، يسمى باسم «دار سليمان»، وهو مشروع اتخذه أنصار العلم الفني الصناعي الجديد أنموذجا لهم. وفي هذا المشروع عرض بيكن نوعا جديدا من التعليم، قد يرى فيه البعض انحدارا للعلم إلى مستوى الخبرة في الصناعات والحرف الفنية. ولكنه ينم في الواقع عن نزعة إنسانية هدفها ربط العلم بالحياة. وهكذا دعا بيكن إلى توزيع الأبحاث على العلماء، كل في ميدان اختصاصه، مؤكدا أهمية العمل الجماعي، أو ما يطلق عليه الآن اسم
ناپیژندل شوی مخ