في إنجلترا، والبرجماتية
في الولايات المتحدة. ولكن الواقع أن كلا من هذين المذهبين الأخلاقيين إنما كان تعبيرا عن الطابع العملي لعصر التصنيع، وعن نوع من الأخلاق يقوم بحساب كل فعل تبعا لمقدار المنفعة المترتبة عليه، أو لمدى نجاحه العملي، بغض النظر عن أية قيمة كامنة في هذا الفعل؛ ومن هنا كانت هذه الاتجاهات في الأخلاق تعبيرا صادقا عن أشد نزعات المجتمع الرأسمالي تطرفا، وحقيقة الأمر في موقف هذا المجتمع من الأخلاق هو أنه لا يأخذ منهم إلا بالقدر الذي يكفي لمساعدة النظام القائم على المضي في طريقه بنجاح؛ فنحن نجد بالفعل - لدى كثير من الرأسماليين - قدرا معينا من الفضائل كالأمانة والانضباط والدقة ومراعاة المواعيد. ولكن هذه الفضائل لا تكتسب قيمتها إلا لأنها تفيد الرأسمالي وتحقق مصالحه، فقد تبين له بطول التجربة أن من مصلحته أن يكون في معاملاته أمينا دقيقا، وأن يسدد ديونه في مواعيدها، وأن يكون نظام حياته منضبطا، ومعنى ذلك أن كل هذه الفضائل ليست مقصودة لذاتها. بل إنه يراعيها لما فيها من منفعة، وأبلغ دليل على ذلك أنه إذا كان الممكن تحقيق نفس المنفعة عن طريق مجرد التظاهر بالأمانة، فإن الرأسمالي لا يتردد في سلوك هذا السبيل.
ويتضح تجاهل الرأسمالية للأخلاق في أساليب الدعاية والإعلان التي أصبحت جزءا لا يتجزأ من هذا النظام؛ فالمبدأ السائد في ميدان الإعلان هو زيادة البيع أيا كانت الوسائل المؤدية إلى تحقيق هذه الغاية. وهكذا يلجأ المعلن إلى الصراخ والتهويل أمام عملائه، ويجذب أنظارهم بلافتات صارخة، ويعمد إلى الشهادات الكاذبة والمنطق المغلوط، ويلجأ إلى أحدث أساليب علم النفس ليبث في نفوس الناس إيحاء واقتناعا لا أساس له، ولا يتورع في سبيل ذلك عن أن يفسد أذواق الناس ويسلبهم القدرة على الحكم الموضوعي السليم؛ فالإعلان لا يتجاهل أصول الأخلاق واحترام الآخرين فحسب. بل إنه يتنافى في كثير من الأحيان مع أبسط مقتضيات الروح الجمالية.
وأخيرا، فإن طبيعة المنافسة الرأسمالية تشكل في حد ذاتها دليلا بالغا على مدى اللاأخلاقية الكامنة في هذا النظام؛ فهي تعامل الرأسماليين بعضهم مع بعض لا يتورع أحدهم عن اتباع كل الأساليب من أجل سحق الآخر، ولا يقف أي وازع في وجه رغبته في التوسع، ومن أشهر الأمثلة في هذا الصدد: جون روكفلر، مؤسس أسرة الرأسماليين الأمريكيين المشهورة، الذي قال: إنه على استعداد لدفع مليون دولار كمرتب لأي موظف تتوافر فيه صفات معينة، أهمها ألا يكون لديه أي نوع من تأنيب الضمير، وأن يكون على استعداد لسحق ألوف الضحايا دون أن تطرف له عين. (2)
لا يستطيع أحد أن ينكر أن الحضارة الرأسمالية قد أحرزت انتصارات ومكاسب لم تتوصل إليها أية حضارة سابقة، فقد عرفت كيف تسيطر على العالم المادي كما وكيفا، وتسخر الطبيعة لخدمة الإنسان، ووفرت للناس سلعا وخدمات على نطاق لم يعرف له من قبل نظير، وكافحت الأمراض والكوارث الطبيعية بكفاءة نادرة، وأبدعت عددا هائلا من روائع الفن والأدب، وتمكنت من إحراز تقدم هائل في الميدان العلمي، بفضل تطبيق مبدأ تقسيم العمل الذي أحرز نجاحا كبيرا في الميدان الاقتصادي، على النشاط الذي نبذله من أجل معرفة العالم الطبيعي والمجتمع بطريقة عقلية.
ولكن على الرغم من هذا النجاح في شتى الميادين، فقد كانت هناك نقطة ضعف كبرى للنظام الرأسمالي، هي ارتباطه الوثيق بالحرب، فليس يكفي أن يقال: إن النظام عاجز عن منع الحرب، أو إن الحرب مرض يصيب جسم الرأسمالية بسبب انتقال العدوى إليه من مصدر خارجي. بل إن الحرب تنتمي إلى صميم بنائها وتركيبها الباطن. والواقع أن الرأسمالية بما تثيره من حروب لا تنقطع، تهدد بالقضاء على ما أنجزته هي ذاتها، وما أنجزته كل الحضارات السابقة من تقدم. وهكذا فإن القوة الكبرى التي اكتسبها العالم خلال المرحلة الرأسمالية هي التي تهدد بالقضاء على ما أنجزته هي ذاتها. وفي هذا النزوع إلى تحطيم الذات يكمن الضعف الأكبر للرأسمالية، وتناقضها القاتل، وقد أصبحت مظاهر تقدم الرأسمالية في الآونة الأخيرة، هي ذاتها مظاهر فنائها؛ إذ إن هذا التقدم بلغ قمته في أسلحة الدمار الشامل التي تهدد العالم في كل لحظة بالهلاك.
ولسنا نود أن نخوض في تفاصيل العلاقة بين النظام الرأسمالي وبين الحرب؛ إذ إن هذا البحث خارج عن نطاق مهمتنا في هذا الفصل، إنما الذي نود أن نشير إليه هو الآثار المعنوية المخربة التي تحدثها حالة الحرب أو حالة التهديد المستمر بقيام الحرب. وحسبنا أن نشير إلى تلك الأنانية المفرطة وبلادة الحس الزائدة التي تثيرها الحروب المستمرة في نفوس أفراد الشعوب التي تمارس هذه الحروب. ومن المعروف أن الاستعمار مرتبط ارتباطا وثيقا بالرأسمالية، وأنه - في صورته المباشرة وغير المباشرة أو التقليدية والجديدة - هو السبب الأول لظاهرة الحرب في العالم المعاصر، ولسنا في حاجة إلى الوقوف طويلا عند تأثير الاستعمار في الشعوب التي تعاني من ويلاته؛ لأننا في هذه المنطقة من العالم نعرف الكثير - من تجربتنا المباشرة - عن هذا الموضوع. ولكن للمشكلة وجها آخر، هو أن الاستعمار يولد في الشعوب التي تمارسه نوعا من الأنانية يجعلها لا تعبأ بالفقر والظلم والاضطهاد والقتل الجماعي الذي يلحق بالشعوب الواقعة تحت قبضتها، بل وتسعى في كثير من الأحيان إلى تبرير السلوك الاستعماري الشائن والدفاع عنه كما لو كان أمرا مشروعا. وهذا لا يمنع - بطبيعة الحال - من ظهور جبهات داخلية تعارض الاستعمار داخل الدول الاستعمارية ذاتها، وهي ظاهرة مشرقة تمثلت بوضوح في فرنسا خلال حرب التحرير الجزائرية، وتتكرر حاليا في الولايات المتحدة على صورة معارضة شعبية واسعة النطاق ضد حرب فيتنام.
ومن خلال ظاهرة الحرب نستطيع أن نعلل كثيرا من مظاهر الانحلال الفكري والمعنوي التي انتابت العالم الرأسمالي منذ القرن التاسع عشر، التي ظهرت واضحة - بوجه خاص - خلال القرن العشرين، فقد انتشرت في ذلك العالم فلسفات اليأس والتشاؤم، والاتجاهات التي تؤكد أن المصير المحتوم للحضارة الغربية هو التدهور والانحلال، وبينما كانت الرأسمالية في بداية عهدها متفائلة مؤمنة بقدرة الإنسان على التقدم المستمر، نراها في مرحلة اكتمالها تعود مرة أخرى إلى روح التشاؤم المظلم التي حاربتها في البداية، وتشيع فيها الأفكار التي تضع الإنسان في طريق مسدود لا مخرج منه.
وقد شاعت في القرن العشرين - وبعد الحرب العالمية الثانية بوجه خاص - اتجاهات في الفكر والفن والأدب تجمعها كلها صفة هي تلك التي اصطلح على تسميتها «باللامعقول». وليس من الصعب أن ندرك الروابط التي تجمع بين هذه الاتجاهات، بما فيها من زعم بأن كل ما في الحياة عبث غير مفهوم، وبأن العالم التطور والتاريخ لا يسير نحو أية غاية معقولة، بل كل شيء فيه يفتقر إلى العقل ويستحيل فهم سببه أو الغاية منه، وبين حالة اليأس التي تنتاب الإنسان في المجتمع الرأسمالي، وشعوره بأن كل جهد يبذله عبث لا طائل وراءه، والأهم من ذلك كله إحساسه بالخطر يهدد كيانه في كل لحظة من جراء حربين عالميتين راحت ضحيتهما ملايين الناس، فضلا عن عشرات الحروب «الصغيرة» التي أزهقت أرواحا كثيرة وسببت دمارا هائلا، في مثل هذا المجتمع الذي تحل عليه الحرب - كما لو كانت لعنة لا يملك منها خلاصا - يكون من الطبيعي أن تصبح الاتجاهات الفكرية والفنية السائدة هي اتجاهات تؤكد عجز العقل وسيادة التشاؤم حتمية التدهور والانحلال.
ولقد ترتب على ذلك تزييف لطبيعة الحياة في المجتمع الحديث، وقع فيه عدد غير قليل من كبار مفكري المجتمعات الرأسمالية، فأدانوا التقدم التكنولوجي ذاته، ونظروا إليه كما لو كان هو أصل الشرور التي تعانيه البشرية، وتحسروا على «عهد ما قبل التصنيع» الذي كانت فيه البشرية بريئة من آثام الصناعة وأطماعها، الخطأ الأكبر الذي وقع فيه هؤلاء المفكرون هو أنهم ظنوا أن الشرور الناجمة عن تنظيم معين للمجتمع الصناعي، هو التنظيم الرأسمالي، تسري على كل شكل من أشكال هذا المجتمع، أو هي جزء لا يتجزأ من طبيعة عصر التقدم التكنولوجي ذاته؛ ومن هنا كانت حملتهم على التصنيع، واعتقادهم بأن الحروب والأزمات وانعدام الأمان كامنة في طبيعة المجتمع الصناعي ذاته، مع أن هذه الشرور لا ترجع في الواقع إلا إلى أسلوب الحياة الرأسمالية في هذا المجتمع. (3)
ناپیژندل شوی مخ