وإذن، فعلى المستوى النظري كان تقدم العلوم الرياضية، وزيادة دقة التعبير الكمي عن قوانين الطبيعة، مرتبطا أوثق الارتباط بالعصر الجديد، تقوم فيه الحسابات الرياضية بدور هام في معاملات السوق، وعلى المستوى التطبيقي انتفع العصر الصناعي الجديد من الرياضيات التطبيقية كثيرا في صنع الآلات، فضلا عن انتفاعه من العلوم الطبيعية والكيماوية في تسخير طاقات جديدة لخدمة الإنسان، وسرعان ما اقتنع رجال الصناعة بأن السبيل إلى زيادة إنتاجهم وتحسينه والإقلال من مصروفاتهم هو اتباع الأساليب العلمية؛ أي ما يعرف بأساليب الترشيد، فضلا عن إدخال الآلية على نحو متزايد، وبالاختصار فإن نفس الروح التي كانت تدفع الرأسمالي إلى مزيد من الاستثمار والنشاط الاقتصادي، كانت تدفع المكتشف إلى ارتياد آفاق جديدة، والعالم إلى كشف قوانين جديدة، والمخترع إلى ابتداع تطبيقات جديدة؛ إذ إن الجميع كانوا يسعون إلى زيادة قوة الإنسان وإحكام سيطرته على الطبيعة. (7)
وأخيرا، فلا بد لنا أن نشير إلى سمة أخرى هامة من سمات هذا العصر، ترتبت على التحول الأساسي الذي طرأ على حياته الاقتصادية، هي نمو النزعة الفردية في مجالات الأخلاق والأدب والفن. وليس من الصعب أن نجد تعليلا لهذه الظاهرة في ضوء ظروف العصر؛ ذلك لأن الشخص الناجح في العصر الجديد لم يكن يدين بنجاحه لأسرته أو لقبه الوراثي، ولم يعد الانتماء إلى جماعة معينة هو أساس التفوق. بل إن كل شيء أصبح يتوقف على الجهود الخاصة التي يبذلها كل فرد. وكان ذلك العصر حافلا بأمثلة الأشخاص العصاميين الذين تمكنوا بجهودهم الخاصة من أن يصلوا إلى مكان الصدارة في المجتمع وخاصة في المجال الاقتصادي، ومن شأن هذا الاتجاه أن يزيد من شعور الفرد بقدراته الخاصة، ويجعله أقدر على تحدي السلطة بكافة أنواعها بحيث لا يعود معتمدا على عامل «الانتماء» بقدر ما يعتمد على عامل الكفاح الفردي، وإلى هذه الظاهرة ترجع مختلف مظاهر التحرر من السلطة في ذلك العصر؛ أعني سلطة الفلاسفة القدماء (مثل أرسطو)، وسلطة رجال الدين، وسلطة الإقطاع الوراثي، وسلطة العادات والتقاليد الاجتماعية المرتبطة به، وقد انعكس ذلك في مجال الفكر على شكل كثرة من الاتجاهات الفكرية المستقلة التي تتسم بقدر كبير من الخصوبة والاستقلال، على عكس اتجاهات العصور الوسطى التي كانت متقاربة متجانسة إلى حد بعيد، كما انعكس في ميدان الأدب والفن على شكل أعمال تسعى إلى استكشاف العمق الباطن للفرد، والاهتمام بمشكلاته وأحاسيسه الخاصة، على خلاف الاتجاهات السابقة التي كان الفن يقتصر فيها على خدمة قضية دينية أو سياسية معينة دون أدنى اهتمام بالعنصر الفردي. وهكذا فإن الفنان أو الأديب «الفرد»، الذي يعبر عن نفسه من حيث هو فرد، ويطلب إلينا أن نهتم به على أساس أنه إنسان متميز عن كل من عداه، قد ظهر لأول مرة في ذلك العهد. وربما قال البعض: إن ظهوره كان رد فعل على النزعة العقلانية اللاشخصية المتطرفة التي كان يتسم بها العصر الجديد. ولكن الأرجح أنه كان متمشيا مع مقتضيات عصر فتحت فيه أمام الفرد آفاق لا نهائية، وازداد فيه الإنسان ثقة بنفسه وشعورا بكيانه، وأزيلت فيه الحواجز التي كانت تحول دون تحقيقه لأمانيه في النجاح والارتقاء إلى أعلى درجات السلم الاجتماعي. (3-2) الرأسمالية المكتملة
كانت المرحلة المبكرة من العهد الرأسمالي مرحلة كفاح ضد قوى الإقطاع المادية وقيمه المعنوية، وإذا كنا قد أكدنا من قبل مزايا هذه المرحلة وسماتها الإيجابية، فذلك لأنها تمثل بالفعل تقدما ملموسا بالقياس إلى المرحلة السابقة عليها؛ فهي قد دفعت بالبشرية خطوات واسعة إلى الأمام، حين أكدت سيادة العقل على كل النزعات اللاعقلية المضطربة الغامضة التي كانت تسود في العصور الوسطى. وحين أطلقت طاقات الإنسان ليستكشف الطبيعة جغرافيا ويفهمها علميا ويستغلها اقتصاديا.
على أن هذا النمط الجديد من أنماط العلاقات الاجتماعية - أعني النمط الرأسمالي - كان ينطوي على عناصر سلبية أساسية لم تظهر بوضوح في مرحلته المبكرة؛ وذلك أولا لأن جميع سماته لم تكن قد ظهرت مكتملة بعد، وثانيا لأنه كان في معركة مع علاقات اجتماعية أكثر منه تخلفا بكثير، وعندما تم له الانتصار في هذه المعركة، واكتملت خصائصه بحلول العصر الصناعي وسيادة الإنتاج الآلي، أخذت العناصر السلبية في نمط الإنتاج الرأسمالي تبرز إلى السطح بوضوح كامل، وظهرت العيوب المعنوية والفكرية للنظام الرأسمالي على نحو لا يدع مجالا لأي شك. (أ) خصائص الرأسمالية المكتملة
ولكي ندرك هذه العناصر السلبية يتعين علينا أن نبدأ بتحديد الطابع الذي تميزت به المرحلة الرأسمالية في عهد اكتمالها: (1)
فالرأسمالية المكتملة قد تحددت معالمها عندما بدأت تظهر طبقة عمالية متميزة، ترك أفرادها الطوائف الحرفية القديمة التي كانت راعية لهم، أو هاجروا من الريف بلا حماية، وأصبحوا واقعين وقوعا تاما تحت رحمة صاحب العمل، دون أن تكون لهم أية فرصة للارتقاء في سلم المجتمع، على عكس الصانع الحرفي التقليدي الذي كانت لديه على الأقل فرصة الارتقاء إلى مرتبة «متعهد الأعمال» (المقاول) أو «الصانع الماهر» (المعلم)، وحتى في الحالات التي لم يكن يتحقق فيها هذا الارتقاء، كانت هناك علاقات شخصية متينة تربط الصانع بزملائه وبصاحب «الورشة» التي يشتغل بها. أما في ظل الرأسمالية المكتملة فقد تحول العمل من خدمة شخصية إلى سلعة لا شخصية، لا يرتبط فيها العامل بصاحب العمل إلا من حيث إن الأول يقدم قوة عمل معينة، والثاني يدفع أجرا معينا. وفيما عدا ذلك لا تقوم بين الاثنين أية علاقة؛ فالعامل في هذه الحالة شخص مجهول، أو هو على الأصح «قوة» لها طاقة معينة، ولا يهتم صاحب العمل على الإطلاق بالشخص أو الإنسان الذي يبذل هذه القوة. بل إن العلاقة بينهما تصبح تجريدية تماما، ولا تصطبغ بأية صبغة إنسانية. وهكذا فإن التوسع في استخدام الآلات في العصر الصناعي قد تولدت عنه نزعة آلية عامة أثرت في تقدير الإنسان ذاته، فأصبح العامل مجرد ترس في آلة الإنتاج الضخمة المعقدة قابل للاستبدال شأنه شأن أي جزء أصم في أية آلة. (2)
وفي مقابل ذلك تراكم رأس المال وازدادت الثروات ضخامة في أيدي أصحاب الأعمال، الذين أصبحوا يلجئون إلى التخطيط الدقيق ويعملون على ترشيد الإنتاج بحثا عن أفضل الوسائل التي تكفل تحقيق أقصى قدر من الربح وأعظم قدر من الإنتاج. (ب) السمات المعنوية للرأسمالي
والواقع أن الطريقة التي أصبح أصحاب الأعمال ينظرون بها إلى عالم الاقتصاد كانت طريقة متميزة عن كل ما عداها، ولا يمكن فهمها إلا في ضوء العصر الجديد؛ ذلك لأن المحور الذي كان يدور حوله النشاط الاقتصادي من قبل كان على الدوام هو الإنسان، بلحمه ودمه وبحاجاته ومطالبه. أما في عصر الرأسمالية المكتملة فقد حلت محل الإنسان تجريدات لا شأن لها به كالعمل والسوق والربح، وعلى حين أن الإنسان ظل - بمعنى ما - مقياس كل شيء حتى في العصر الرأسمالي المبكر، فإن البحث عن الربح والسعي إلى التوسع في الأعمال الاقتصادية أصبح الآن هو الغاية القصوى. بل إن الأعمال - كما لاحظ بعض الكتاب - قد أصبح لها وجود مستقل حتى عن أصحابها أنفسهم: فمن الممكن أن يكون أصحاب شركة معينة أشخاصا غير موثوق بهم، أو ذوي سمعة سيئة، ومع ذلك يظل اسم شركتهم أو الناتج الذي ينتجونه يحوز ثقة العملاء وإعجابهم؛ أي إنه يصبح شيئا مستقلا عن أصحابه، ويصبح للأعمال الاقتصادية وجود موضوعي لا صلة له بالإنسان الموجود من ورائها، وتتحول إلى كيان قائم بذاته، وكل ما يهتم به صاحب العمل هو أن يزيد هذا الكيان المستقل صحة ونموا وازدهارا.
إن من الشائع أن يوصف الرأسمالي بأنه شخص لا هم له سوى أن يحصل على مزيد من الربح، ومن المؤكد أن هذا الوصف صحيح إلى حد بعيد. ولكن ينبغي أن نكون على شيء من الحذر حين نتحدث عن سعي الرأسمالي إلى الربح؛ فالهدف الأكبر للرأسمالي هو أن تتوسع أعماله وتزداد نموا. وليس الربح إلا وسيلة لتحقيق هذه الغاية، وهنا قد يكون من المفيد أن نفرق بين لفظين يستخدمان في الأغلب بمعنيين مترادفين، هما الكسب والربح؛ فالكسب هو البحث عن مزيد من الأموال لكي ينتفع بها الشخص ذاته، أو من يحيطون به في حياته. أما الربح فهو البحث عن مال أكثر يخصص أساسا للعمل نفسه، ولتوسيع نطاق الصناعة أو التجارة، بهذا المعنى يكون الكسب شخصيا عينيا، والربح لا شخصيا مجردا، وقد لا يكون من الخطأ أن نقول في ضوء هذه التفرقة: إن كبار الرأسماليين يبحثون عن الربح قبل الكسب، بدليل أن الكثيرين منهم لا يعيشون - حتى وهم في قمة النجاح - حياة شديدة الترف. بل إن بعضهم قد يصل به الاستغراق في أعماله إلى حد إهمال حياته الشخصية وممارسة نوع خاص من الزهد (وإن كان الترف الشديد - بطبيعة الحال - موجودا بدوره لدى كثير من الرأسماليين)؛ ذلك لأن الموضوع الرئيسي لاهتمام أمثال هؤلاء الرأسماليين هو نجاح الأعمال ذاتها.
ولا يمكن القول: إن هناك نقطة يتوقف عندها هذا النجاح؛ فكل توسع يجلب رغبة في مزيد من التوسع؛ بحيث كان «فيرنر زومبارت
ناپیژندل شوی مخ