خاتمة: البنائية والإنسانية
لم يكن ألتوسير هو الفيلسوف البنائي الوحيد الذي وجهت إليه تهمة إنكار الإنسان من أجل تأكيد نسق أو بناء يعلو عليه ويتجاوزه، فواقع الأمر هو أن البنائية - في شتى اتجاهاتها - معرضة لهذا الاتهام، وبعض ممثليها لا ينكره ولا يجد فيه ما يدعوه إلى اتخاذ موقف الدفاع عن نفسه. وفي البنائية - كمذهب - اتجاه عام إلى تأكيد طغيان النسق على الإنسان؛ بحيث يعجز الإنسان عن التحكم في نشأته أو في غايته، ولا يتبقى أمامه إلا إخضاع دراسة الإنسان للمعقولية والموضوعية الكاملة هو الذي بدا - في نظر الكثيرين - مهددا للإنسان نفسه؛ بحيث تبلورت حوله كل الانتقادات التي وجهت إلى البنائية من شتى الاتجاهات.
ولعل أبرز العناصر التي انصب عليها هجوم نقاد البنائية، هو نظرتها السكونية
Statique
إلى الإنسان وإلى تاريخه، فعلى قدر نجاح البنائية في التعبير «التكوين الثابت» للإنسان عبر العصور المختلفة، نجدها تخفق في تعليل التطور والتقدم، وتكاد تذهب إلى حد القول بأن الاعتقاد بالتقدم وهم، وبأن التحديدات التاريخية سراب خداع، ويترتب على هذه النظرة السكونية عجز البنائية عن تفسير «منشأ» البناءات التي تدور حولها أبحاثها، وعن تفسير كيفية الانتقال من مرحلة إلى أخرى، أو من بناء إلى آخر؛ ففي أبحاث ستروس - التي استهدفت الوصول إلى التكوين الثابت للعقل من خلال الدراسة الأنثروبولوجية للحضارة، نعجز عن تعليل كيفية ظهور هذا العقل أو نشوئه، ويبدو وكأن هذا العقل كان «هناك » على الدوام، كما نعجز عن تفسير تحول هذا العقل إلى صورته الحديثة التي أنتجت العلم وأنتجت البنائية ذاتها مظهرا من مظاهر العلم. وفي تحليلات ألتوسير ينصب التأكيد على فهم العناصر المتزامنة
synchroniques . أما الانتقال من أسلوب في الإنتاج إلى آخر، والطريقة التي تكون بها هذا الأسلوب في فترة تاريخية معينة، فهذا ما نعجز عن الاهتداء إليه في نطاق أبحاثه؛ أي إن ألتوسير بدوره لا يقدم تعليلا كافيا «لمنشأ» الظواهر التي يبحثها، أو «لنقاط التحول» التاريخية الحاسمة التي تطرأ عليها، والتي يتعين إذا شئنا تفسيرها أن نخرج عن النطاق الذي تقيد به ألتوسير، ونعود إلى البشر والإطار الذهني الذي كانوا يعيشون فيه. أما «فوكو» فكان إنكاره للتاريخ صريحا. بل إنه يتجنب كل ما له صلة بمقولات التغير والتحول، ولا يرى في كل مرحلة تاريخية إلا ثوابها فحسب، ويصل به الأمر إلى حد التشكيك في مفهوم «الإنسان» نفسه، من حيث هو مفهوم يصلح لإقامة دراسة علمية موضوعية، مؤكدا أن الإنسان ليس إلا «ثنية خفية
ride » في الرمال.
45
ومن النتائج الهامة التي ترتبت على إنكار مفهوم الإنسان، وإسقاط التاريخ من الحساب، هجوم بعض البنائيين على المفهوم الجدلي للعقل، واعترافهم بعقل واحد فقط هو العقل التحليلي، وقد ظهر ذلك واضحا في الفصل الذي خصصه ستروس لمهاجمة كتاب «نقد العقد الجدلي» لجان بول سارتر، فهو في هذا الفصل ينكر أن يكون هناك استخدام آخر للعقل غير الاستخدام التحليلي، ومن ثم فإن كل اتجاه إلى البحث عن منشأ الظواهر وتاريخها وتطورها هو اتجاه ثانوي، يمكن أن يضاف إلى العقل التحليلي. ولكنه لا يمكن أن يكون بديلا عنه، فما يسمى بالعقل الجدلي هو الجهد الذي يبذله العقل التحليلي عندما يريد أن يقوم بمغامرات، ويشيد الجسور ويعبرها، وينتقل من مواقعه. ولكنه ليس على الإطلاق «نوعا آخر» من العقل «يختلف» عن العقل التحليلي أو يحل محله، ويظل الطابع الدائم للعقل الإنساني هو التحليل الذي يكشف عن البناءات الثابتة، والذي يوصلنا هو وحده إلى المعقولية في فهم الظواهر.
على أن البعض الآخر من أنصار البنائية يأخذ على عاتقه مهمة الدفاع عن المذهب ضد هذه الاتهامات الموجهة إلى تصور البنائية للإنسان؛ ومن ثم للتاريخ والعقل الجدلي، وهم ينطلقون في دفاعهم هذا من مبدأين أساسيين: أولهما وجود سوء فهم لتلك المقولات التي تتهم البنائية بأنها تنكرها، وثانيهما إمكان التوفيق بين البنائية وبين تلك المقولات مفهومة بمعناها الصحيح.
ناپیژندل شوی مخ