في هذا الجو ظهرت البائية لكي تدخل طرفا ثالثا في الصراع الفكري الذي سيطر على الثقافة الفرنسية في الستينيات، فأضافت وقودا جديدا إلى لهيب المعارك الدائرة بين المثقفين. وكان لظهورها دوي كبير، لا لأنها أتت باتجاه جديد فحسب، بل أيضا لأن التقابل بين الوجودية والماركسية - كما قلنا من قبل - كانت قد خفت حدته. وكان لا بد من ظهور خصم جديد يثير المعركة الفكرية مرة أخرى.
على أن البنائية كانت لها جذور فلسفية أقدم كثيرا من العصر الذي ظهرت فيه، وأهم هذه الجذور - في اعتقادي - هو فلسفة كانت؛ فالبنائية - مثل فلسفة كانت - تبحث عن الأساس الشامل، اللازماني، الذي ترتكز عليه مظاهر التجربة، وتؤكد وجود نسق أساسي ترتكز عليه كل المظاهر الخارجية للتاريخ. وهذا النسق سابق على الأنظمة البشرية؛ بحيث تستند إليه تلك الأنظمة زمانيا ومكانيا؛ أي إن هذا النسق «قبلي
a priori » بمعنى مشابه لما نجده عند كانت. ولقد ظهر لدى البنائيين - على اختلاف اتجاه تخصصاتهم - ميل واضح إلى فكرة النسق الشامل، ووضع أطر أو قوالب أساسية تندرج ضمنها الكثرة الموجودة في الواقع. بل إن هذه الأطر والقوالب لها عندهم طبيعة عقلية، حتى لو اتخذت مظاهرها أشد الصور حسية، كذلك تدعو البنائية بدورها إلى نوع من الثورة الكبرنيكية مماثل لذلك الذي دعا إليه كانت؛ إذ تؤكد أهمية العلاقات الداخلية والنسق الكامن في كل معرفة علمية، وتسعى إلى تجاوز المظهر الذي تبدو عليه المعرفة من أجل النفاذ إلى تركيبها الباطن، وهي بدورها تترفع على النظرة التجريبية، وتؤكد أن تقدم المعرفة لا يتم عن طريق وقائع تجريبية يضاف بعضها إلى البعض، وإنما يتم عن طريق إعادة النظر في قوالب أو صور أو عمليات موجودة بالفعل. ولكنها تتخذ مظهرا جديدا في كل عصر. وأخيرا فإن البنائية تتشابه مع فلسفة كانت في نقطة أساسية، هي أنها بدورها تستهدف أن تجعل من دراسة الإنسان موضوعا لعلم دقيق، وتحاول أن تهتدي إلى السر الذي جعل العلوم الأخرى تسير في طريق العلم الراسخ؛ لكي تطبقه على العلوم الإنسانية والاجتماعية، وإن كان التركيز عند كانت ينصب على العلوم الرياضية والطبيعية، على حين أنه كان في حالة البنائيين ينصب على علوم أخرى، أهمها علم اللغة.
والواقع أن علم اللغة كان مصدرا من أهم مصادر البنائية، وهو مصدر كان معترفا به صراحة في كتابات البنائيين، على حين أن تأثير فلسفة «كانت» في تفكيرهم كان ضمنيا في أغلب الأحيان، ولهذا الارتباط بين البنائية وبين اللغويات مبررات قوية؛ إذ لا يوجد «بناء» بالمعنى الصحيح إلا لما هو لغوي، وجميع المجالات المعروفة لا يصبح لها بناء إلا حين تتخذ طابعا لغويا.
3
وفضلا عن ذلك فإن للغة بالذات ميزات خاصة جعلت النموذج اللغوي يحتل مكانة خاصة في تفكير البنائيين؛ ذلك لأن اللغويين - منذ أيام العالم السويسري المشهور «دي سوسير
Ferdinand de Saussure » في أوائل القرن العشرين - درسوا عناصر اللغة والسمات المميزة لعلاقاتها بوصفها أنساقا لا علاقة لها بالعالم الذي تعبر عنه أو تدل عليه، فكانوا بذلك يطرحون مشكلات بنائية خالصة ويضربون مثلا يحتذى للعلوم الإنسانية الأخرى التي لم تكن قد وصلت بعد إلى مرحلة الاستقلال عن مضموناتها واكتشاف تركيباتها الخالصة،
4
أي إن نجاح اللغويات - وهي قبل كل شيء علم إنساني - في بلوغ مرتبة العلم المنضبط كان عاملا مشجعا للباحثين في الميادين الأخرى للدراسات الإنسانية والاجتماعية على الاقتداء بهذا العلم الناجح في منهجه. وفي الهدف الذي يرمي إلى تحقيقه. ولقد عبر ليفي ستروس عن هذه العلاقة بين اللغويات وسائر العلوم الإنسانية تعبيرا صريحا واضحا: إننا (يقصد علماء الأنثروبولوجيا) نجد أنفسنا - إزاء علماء اللغة - في وضع حرج، فطوال سنوات متعددة كنا نشتغل معهم جنبا إلى جنب، وفجأة يبدو لنا أن اللغويين لم يعودوا معنا، وإنما انتقلوا إلى الجانب الآخر من ذلك الحاجز الذي يفصل العلوم الطبيعية الدقيقة عن العلوم الإنسانية والاجتماعية، والذي ظل الناس يعتقدون طويلا باستحالة عبوره. وهكذا أخذ اللغويون، يشتغلون بتلك الطريقة المنضبطة التي تعودنا أن نعترف باستسلام أنها وقف على العلوم الطبيعية وحدها، مما ولد في نفوسنا قدرا من الأسى، وكثيرا من الحسد؛ إذ أردنا أن نكون صرحاء؛ فنحن نود أن نتعلم من اللغويين سر نجاحهم، فهلا يمكننا أن نطبق بدورنا على المجال المعقد لدراساتنا - كمجال القرابة والتنظيم الاجتماعي والدين والفلكور والأدب - تلك المناهج المنضبطة التي يتحقق عالم اللغة في كل يوم من فعاليتها؟
5
ناپیژندل شوی مخ