في حديث الشعر
شمشون
القاذورة
الأفعى
في هيكل الشهوات
سدوم
الخيال النقي
عهدان
الشهوة الحمراء
شهوة الموت
حديث في الكوخ
الصلاة الحمراء
الدينونة
الطرح
في حديث الشعر
شمشون
القاذورة
الأفعى
في هيكل الشهوات
سدوم
الخيال النقي
عهدان
الشهوة الحمراء
شهوة الموت
حديث في الكوخ
الصلاة الحمراء
الدينونة
الطرح
أفاعي الفردوس
أفاعي الفردوس
تأليف
إلياس أبو شبكة
في حديث الشعر
لا أكتب هذه المقدمة لأحدد الشعر، أو لأعلم الشاعر كيف ينبغي له أن يشعر، وأي طريق يجب عليه أن يسلك ليصل إلى هيكل النور الأسمى، أو لأجيء بنظرية أتعصب لها وأعلن لأجلها حربا؛ فالشعر كائن حي تحتشد فيه الطبيعة والحياة، فلا يقاس ولا يوزن، والنظريات مذاهب وأغراض، لا تعيش إلا على هامش الأدب، كما يعيش العرض على هامش الجوهر، أو كما يعيش الديكتاتور الزائل على هامش الأمة الأزلية.
وقد تصح النظريات أو المذاهب في كتاب سياسي، أو وصية سياسية موجهة إلى شعب له أوضاعه الخاصة، وحدوده المقررة، وثقافته، وجنسيته؛ ولا تصح في شعر يعبر عن الحياة؛ فالحياة لا جنسية لها ولا أوضاع ولا حدود، وهي أوسع من أن نضع لها حدودا ومقاييس، والدائرة الغير المحدودة لا تنحصر في الحدقة الضيقة.
ليس للفكر حد ولا تخوم، فكيف نضع للحياة حدا وهي هدف الفكر؟!
كيف نحدد هذه القوة المتحولة في اللانهاية، هذه القوة المجهولة؟!
ورب قائل إن الإنسان دائم الشوق إلى معرفة المجهول، وهذا صحيح، على أن الشوق إلى معرفة المجهول لا يلزم العقل البشري إلا عندما يقتنع الإنسان بأن إدراكه الحسي للعالم الخارجي لا يكشف له حقايق الأشياء التي يراها ويلمسها، ويضطر إلى الاعتراف بأن إدراكاته الذاتية ليست سوى تأثيرات لسبب خارجي يجهل حقيقته، ولكن الجاهل لا تمر في خاطره أية شبهة بشهادة حواسه الذاتية، ويعتقد كل الاعتقاد أن الأشياء التي يراها ويلمسها هي الحقايق بعينها.
ولا يمكن تحويله عن هذا الاعتقاد؛ لأن نظريته في مبحث المعرفة تمثل أحط دركة من المادية التافهة؛ ولأنه يصر على إدراكه ما لا يدرك - بل يحس - على إدراكه الحقيقة المطلقة، ورؤيته إياها من وراء المظهر المتحول في الحياة.
كيف نستطيع إدراك ما لا يدرك بل يحس؛ لنقيده في دائرة ضيقة من اصطلاحاتنا البيانية، ثم نوزعه مذاهب وطبقات هي سياسة الشعر لا طبيعته؟ أليس من الخرق أن نحاول بلغة وضعية تحديد لغة المجاز والكناية، لغة الروح، لغة الحس الوجداني العميق؟!
وقد يعمد بعض هواة النظريات إلى تحديد الشعر بالطريقة الفلسفية، وفي هذا دليل على شك هذا البعض في الشعر نفسه: في جوهر الحياة؛ فالمرء لا يلزم جانب التفلسف إلا عندما يخالجه الشك، مزعزع الاعتقاد بمطابقة المدارك الحسية لحقيقة الأشياء المدركة، وهذا الشك الفلسفي ينم في حد ذاته على الاعتراف بعجز الوسائل العلمية وقصورها، وهذا الاعتراف يرغمنا في نهاية الأمر على التسليم بأننا لن نتمكن من معرفة حقايق الأشياء بوسائلنا المحدودة، وأن ضعف وسائلنا ناجم عن طبيعة تكويننا الناقص ... وعندئذ يصبح المجهول في نظرنا السر الغامض؛ أي الحد الأخير الذي يقف عنده الذكاء البشري.
هذا هو الشوط الذي تجتازه الفكرة الفلسفية عندما تصدر عن الشك، لتخلص إلى الشوق لمعرفة المجهول. وإذا أضفنا إلى هذه البيانات التأثير المخيب لتقلب الحياة في هذا العالم، ندرك في الحال أن من العبث والجهل الضائع التشبث في البحث عن الحقيقة المطلقة الثابتة وراء مظهر الوجود المتقلب، وعندئذ يغمرنا هذا الإدراك بكآبة عميقة، فنفهم السبب الحقيقي لذلك التشاؤم العميق الذي يستولي عادة على الشعراء.
إذن ثمة حقيقة غامضة من العبث البحث عنها لتحديدها، وقد قال الأب بريمون: «إن كل قصيدة مدينة بطابعها الشعري لتألق هذه الحقيقة الغامضة.» وربما أراد الأب بريمون أن يعني بهذه «الحقيقة الغامضة» الوحي، وهو في ذلك لم يجئ بنظرية، بل عبر عن شيء يجهله ولكنه يشعر به، خلافا لبول فاليري الذي تعمد الإتيان بنظرية عندما قال: «إذا آمن الشاعر بالوحي، قتل الإبداع.»
فإذا كان الوحي حالة من حالات النفس عند تأثرها المباشر بقدرة خارقة، وشئنا أن ننكر هذه الحالة، أنكرنا جوهر النفس ذاته؛ أنكرنا مبدأ الحياة. وأية غضاضة على الشاعر أن يكون وسيطا لهذه القدرة الخارقة؟ فالأنبياء كانوا يتسقطون كلام الله، والقدرة الخارقة ليست منفصلة عن الإنسان؛ فهي جوهر نفسه، فإذا أرسل الشاعر نظره في معرض الطبيعة، واجترت عيناه مشهدا من مشاهد هذا العرض، ثم خبزه على نار هذا الجوهر؛ فيكون قد أعطاك من نفسه، والنفس هي المصهر الداخلي الخفي لكل ما يحيط بالإنسان. فإذا كانت النفس مفطورة على الصفاء، وتهيأت لها العوامل الثقافية المكملة، تنقي الشعور من أدرانه، وتقوم بهذا العمل من تلقائها، فلا تكلفك إجهادا ولا تعملا ... شأن المعدة الصحيحة تهضم الطعام، وتتولى توزيع الدم النقي في الجسد وإخراج الفاسد منه.
قلت إن القدرة الخارقة ليست منفصلة عن الإنسان؛ فهي جوهر نفسه، فعلى هذا الجوهر تنصهر المرئيات، وتشترك في هذا العمل جميع الحواس؛ إذن فالقدرة الخارقة التي يتأثر بها الشاعر هي نفسه، والنفس قوة لم يدرك كنهها لتحد، فكيف ننفي الوحي الشعري ما دامت النفس مصهر الشعور؟!
ويقول فاليري أيضا إن الشاعر من يستطيع النظم ساعة يشاء، وليس الشاعر وقفا للمصادفة، وإنه لمن الخطل القول بأن الشاعر منفعل لا فاعل، ومتسقط ما يلقى عليه.
كأني ببول فاليري يريد أن ينزل الشاعر منزلة النجار أو الحداد يقبل على عمله ساعة يحين موعد العمل أو ساعة يريد العمل، فيكون فاعلا لا منفعلا، وهذا أبعد حدود الخطل وامتهان فاضح لجوهر الشعر، وأيان هو هذا الشاعر الذي يصطنع العاصفة اصطناعا ليعطيك كل ساعة إنتاجا، كالنجار يعطيك الخزانة في الوقت المتفق عليه؟!
أيان هو هذا الشاعر الذي لا يتأثر بما حوله ومن حوله، فلا هجر حبيب يؤثر فيه فيحرك شعوره، ولا موت صديق أو صديقة ولا نكبة عزيز، ولا كارثة أمة ولا فرح شعب، لا الظفر ولا الانكسار، لا الذل ولا الكرامة، لا ربيع الطبيعة ولا شتاؤها، لا صيفها ولا خريفها؟!
وأية غضاضة على قريحة الشاعر، إذا هي مرت بساعات خدر؟ أفيكون الشاعر ملتزم أشغال في يده مقياس الزمن لإنجاز عمله؟! ألا يتفق للقريحة أن تمر في ساعات خدر، فلا ترى ما تراه في ساعات اليقظة الروحية، ولا تحس ما تحسه في ساعات التأثر والانفعال؟ وإلا ففيم لا يترك الشعراء من الروائع إلا ثلاثا أو أربعا، لا تسلخ من العمر أكثر من سنة؟ قال أحد الشعراء الخالدين: إذا أحصي الوقت الذي وقفته على نظم قصائدي، فلا يعدو تسعة أشهر.
وقال فاليري أيضا: إن الشاعر الموهوب من يختار اللفظة الصالحة لإحداث الرعشة النفسية وإحياء العاطفة الشعرية.
على أن الشاعر الحقيقي لا طاقة له على اختيار اللفظة؛ فله من شعوره الزاخر ما يصرفه عن هذه الألهية، وعندي أن الشعر ينزل مرتديا ثوبه الكامل، وهذا الثوب جزء من الشعور لا يتجزأ، وقدر ما تكون ثقافة الشاعر من الرقي والذوق الموسيقي في روحه يكون البيان راقيا في شعره، وهذه اللفظة التي يريدنا بول فاليري على أن نختارها تتكاتف العناصر الروحية فينا على اختيارها، فلا تكلفنا هذا العناء، أو تصرفنا عما تراه بصائرنا خلال الأحلام والرؤى، فكل ما يكتسبه المرء يصهره جوهر نفسه - القدرة الخارقة - فيصير عضوا فيه.
سوى أن فاليري ما لبث أن نقض نظريته في الوحي الشعري في محاضرة له عن «إلهامات البحر المتوسط»، وفي هذا دليل على فساد النظريات في الأدب؛ فقد وصف الشاعر الفرنسي الزوارق الماخرة عباب بحر الروم والجيف الحمراء، تتركها الأسماك المقبورة، وأهرام البرتقال المصدر من إسبانيا، ودلل على إقطاعات الروح البشرية والأساليب التي تتكون منها هذه الإقطاعات، وعلى تطور النور الناشئ والسماء والشواطئ، وأثر هذه المشاهد في روحه.
وشاء أن يحدثنا عن جميع العوامل والمؤثرات التي كان لها الفضل الأكبر في تكوين مخيلته وإحساسه، فأخبرنا أن جمال البحر جذبه في صباح يوم، وفيما هو يغتسل ويمتع الطرف والروح بتموج النور على سطح الماء، إذا بمشهد تقز له النفس يعترض نظره؛ فقد رأى على مقربة منه، في قعر الماء الصافي الشفاف، أشياء حمراء بلون الورد الخفيف أو الأرجوان العميق، وعلم بكثير من المقت أنها كتل فظيعة من أحشاء الأسماك التي طرحها الصيادون في البحر، ولم يقو على الهرب مما رأى، ولا على تحمله؛ لأن عاملين في نفسه كانا يتنازعان الشعور بالجمال الحقيقي الغريب في فوضى هذه الألوان الأصلية، وفيما هو مستسلم إلى المقت والرغبة في الاستفادة، يتقاسمه عامل الهرب وعامل التحليل، كان يفكر فيما يستطاع استنتاجه من هذا المشهد، ثم انتقل بالفكر إلى ما في شعر القدماء من الوحشية والدم، وتذكر أن الإغريق ما تورعوا عن وصف أفظع ما تقع عليه العين ... وأن الأساطير الإغريقية وشعر الملاحم والمآسي طافحة بالدم، ولكن الفن أشبه ما يكون بسطح الماء الصافي الذي رأى خلاله تلك الأشياء الفاحشة.
وانتقل بول فاليري إلى الدور الذي مثله البحر المتوسط، بما اتصف به من الخصائص المادية في تكوين الفكر الأوربي الذي حرر العالم البشري بأسره، ومما قاله إن طبيعة البحر المتوسط والعلاقات التي قررها أو فرضها كانت أساس التكوين النفساني والفني، هذا التكوين المدهش الذي استطاع ببضعة قرون أن يميز الأوربيين من سائر الخلق، والزمن الحاضر من الأزمان الغابرة، فأقوام البحر المتوسط هي التي خطت الخطوات الأولى الواثقة؛ لإيضاح الأساليب والبحث عن الظواهر الطبيعية باستخدام قوى الفكر.
وبعد أن وصف الشاعر مواقع البحر المتوسط ومزاياه الطبيعية، انتهى إلى القول بأن إبداع الشخصية البشرية ورفعها إلى مستوى من الرقي والتطور الأكمل، كانا من مبتدعات هذه الشواطئ، ويتضح لنا من هذا أن فاليري أصبح مؤمنا كل الإيمان ب «الوحي الشعري»؛ بدليل أن البحر والشمس والسماء هي مصدر تكوينه وتثقيفه، وأن طبيعة البحر المتوسط كانت أساس التكوين النفساني والفني الذي ميز الأوربيين من سائر الخلق ...
ولن أعمد هنا إلى مجادلة هذا الرأي في تمييز الأوربيين من سائر الخلق؛ فلكل في تمييز عنصره مدلول يخالف به الآخر؛ بل أقصر الكلام على الوحي الشعري من غير أن أذهب مذهب العرب القدماء في أن الوحي يلقن من فم شيطان، وأن الشياطين تسترق السمع وتلقيه على الألسنة.
فالوحي يتولد «على صفاء المزاج الطبيعي وقوة مادة النور في النفس» - على حد قول المسعودي - وأضرب مثلا على ذلك هذا الغدير الصافي؛ لا تشقى العين في رؤية السماء وغيومها وسحبها ونجومها ماثلة في قعره، كأن هذه السماء وما عليها هاتف في أعماق نفس الغدير، وللطبيعة الحكم المطلق في تصريف النفس البشرية، وأثرها الكامل في الحس، وليس في المبروءات النفسية والجسدية ما لا تحكمه الطبيعة.
وفي الطبيعة أسرار لطيفة لا يدركها الحس مهما دق، بل يشعر بها إذا قويت النفس، والنفس مهما قويت لا تستطيع قهر الطبيعة لاقتناص سرها اللطيف إلا إذا تجردت من أدران هذا العالم، وهذا مستحيل.
إذا تجردت النفس من هذه الأدران بلغت النسبة النورانية الكاملة، بلغت مستوى الطبيعة، بلغت ذات الله، والنفس النقية هي الله.
على أن للنفس هنيهات تصفو فيها، فينعكس عليها من الطبيعة جمال محجوب، وهذا الجمال يهتف في النفس أسرارا تنطق لسان الشاعر الثقيف بمعان شريفة، وعبثا نحاول معرفة هذه الأسرار، فهي من الغموض واللطف بحيث تدق على أدق حس، ويكفي أن نسمع من هذه الأسرار ما ينطق ألسنتنا، ويفتح أذهاننا لمشاهد نراها بأم العين.
وربما أراد الأب بريمون بقوله: «إنه لا حاجة لفهم معنى الشعر، فالسحر المنبعث عن موسيقاه يؤثر في النفس تأثيرا مباشرا»، ربما أراد بقوله هذا أن يعبر عن تأثر النفس بانعكاس الجمال المحجوب في الطبيعة عليها، ويظهر أن هذا الجمال الغامض إنما هو موسيقى الطبيعة، تعزف على أوتار النفس معزوفات غامضة من نوع ذلك الجمال.
على أن هذا، وإن يكن حقيقيا، لا ينبغي جعله أساسا للشعر؛ فالموسيقى هي عنصر من الشعر لا كله، وهذا العنصر غامض ككل شيء يسمع ولا يرى، ومن الخرق الفاضح أن نكتفي من الشعر بموسيقاه، ونقدم فيه وصف ما لا يوصف على سائر عناصره؛ فللشعر عناصر متساوية يجب أن تجري كلها في حلبة واحدة، فلا تنحط الفكرة عن الموسيقى أو الصورة عن الفكرة.
ومن الخرق أيضا أن نتخذ الشذوذ قاعدة للشعر، فنذهب مثلا مذهب الأب بريمون القائل: إن الشعر الجميل يخلو أحيانا من المعنى، أو إذا انطوت أجزاؤه على معنى لا ينطوي عليه في مجموعه؛ فالشعر إذا اقتصر على الموسيقى لا يلبث أن يشيع الملل حتى في الأذن، ولا بد هنا من القول إن الشعر يرافق جميع وجوه التفكير؛ فالشاعر قد يطرق باب الفلسفة ولا ينحط عن الشعر، على أن هذا الشاعر ليس بأبي العلاء المعري مثلا؛ فأبو العلاء يقتحم الفلسفة في شعره، فيناقش فيها كالمعلم العالم، ولا يلزم المزاج الفني فيلمع إلى الفكرة التي تبدو له بتعبير يستخدم فيه جميع أنواع المجازات والاستعارة والرموز، بحيث يحدث التأثير النفساني المنشود.
وقد يطرق الشاعر أيضا باب الزراعة ولا ينحط عن الشعر؛ كما فعل فرجيل في «الجيورجيات»؛ فقد نظم هذا الشاعر قصيدته هذه ليحمل الرومانيين على تعشق الأرض نزولا على رغبة أوغسطس، على أنه سير معارفه الزراعية في موكب من الألفاظ الموسيقية، حمله من عذوبة الحنان ورائع الوصف ما أدرج قصيدته في عداد الروائع الشعرية الخالدة.
وما أقوله عن فرجيل أقوله عن جميع الشعراء الأقدمين والمتأخرين، الذين استخدموا مواهبهم لاكتشاف كنوز الطبيعة والحياة، فالطبيعة هي قيثارة الشاعر، وعبثا يحاول الشاعر البحث عن أوتاره في غير هذه القيثارة، والشاعر الحقيقي هو تاريخ عصره ملحنا؛ فلولا الشعر ما عرف تاريخ العرب في الجاهلية، ولولاه ما عرف تاريخ الفروسية والكرامات في الرومان، ولولاه ما عرف تاريخ الإغريق، ولما أراد الكاتب الفرنسي إتيان باسكيه وضع كتاب عن الحياة الوطنية في القرون الوسطى، اضطر إلى قراءة الملاحم الشعرية
Les chansons de geste .
قرأت أخيرا مقالا للكاتب الفرنسي إدمون جالو عن شاعر عظيم من شعراء القرن الثاني عشر يدعى شوتا روستافيلي، عاش تحت السماء التي أظلت الفردوس الأرضي، وجبل أرارات الذي وقف عليه فلك نوح، يقول إدمون جالو إن لهذا الشاعر الذي اكتشف أخيرا قصيدة أو ملحمة رائعة، هي أمدوحة للإنسان كما كيفته أواخر القرون الوسطى، في قوته، وشعوره بالشمم والعدل، وسذاجته على عتبة الانبعاث، قال: «حالما نقرأ هذه القصيدة «إنسان في جلد نمر»، نقع في ذهول حيال هذه السكرة الشرقية، ذلك أننا - نحن الغربيين المساكين - فقدنا عادة التشنج الكلامي، ونكاد نختنق في هذا الجو من البخور والألوان.» ونحن الشرقيين فقدنا بدورنا ذلك التشنج الكلامي، ونكاد نذوب في هذا الجو من البخور والألوان الغربية، هذا الجو الذي اجتاحت غيومه السامة بلدان الشرق مندفعة بقوة الاجتياح السياسي.
وإني لأتساءل ماذا ترانا نستطيع بهذا القاموس الضيق، هذا القاموس المستورد نتشبث فيه للتعبير عن أعمق حقايق النفس، فنرفع الكلفة بيننا وبين اللغة، ولا نتورع عن سلوك مهامه غائمة كأننا في حلم؟ وقد يخيل إلينا ونحن نسلك هذه المهامه أننا نسير في الطريق الشعري السوي، بينا نحن في الحقيقة لا نحاول إلا الخروج عن أنفسنا، مستعبدين لنظريات خاطئة، بل مضرة تحرر منها حتى مبدعوها أنفسهم؛ فبول فاليري، الذي جاءنا بمشاريع نظريات خلقت في الأدب العربي جيلا مضعضعا، لم يحد عن صراط ماليرب، ولم يتمرد على القاعدة الكلاسيكية في النظم. وإني لأجد في شعر فاليري أبياتا كثيرة يستطاع دسها في شعر لامارتين، كما أني أجد في شعر البرناسيين، أمثال غوتيه وبودلير، ما يستطاع نسبته إلى شعر أعدائهم الرومانطيقيين؛ كلامارتين وهوغو وفينيي، وشعر الرمزيين؛ كفيرلين ومالارمي.
قلت في مستهل هذا الحديث إني لا أكتب هذه المقدمة لأحدد الشعر، أو لأجيء بنظرية أتعصب لها، وأعلن لأجلها حربا؛ بل أكتبها لأرد صادرا إلى مصدره، لأرد الشعر إلى الطبيعة أمه، فمنذ اليوم الذي تأزمت فيه المشادة بين أدباء الغرب، وطلعت وحوش النظريات من أوجارها، يكشر بعضها في وجه البعض الآخر؛ التوى الشعر عن قصده، وأصبح زيا يتلون بتلون الأهواء، ولكن النفس لا تخطئ؛ لأنها معكس ومصهر لحقايق أبدية هي الطبيعة والحياة، ففيما المدارس الشعرية منصرفة إلى التطاحن، إذا بطائفة من مبدعي هذه المدارس ترتفع عن الفرضيات الزائلة إلى المصدر الأبدي؛ فرأينا بودلير البرناسي يصدر عن نفسه ويلتقي فرلين الرمزي على صعيد واحد، ورأينا جميع الشعراء الحقيقيين من زعماء المدارس يتفلون في الأودية المظلمة، ويجتمعون أنقياء على قمة واحدة هي الشعر.
فالمدارس الشعرية سجون ونظرياتها قيود، والشاعر لا يعيش في جو العبودية هذا، فالطبيعة هي جوه الفسيح تتكيف إحساساته بتكيف المظاهر المتقلبة فيه، وإذا خرج الشاعر من هذا الجو خرج من نفسه وكذب على نفسه.
إلياس أبو شبكة
شمشون
ملقيه بحسنك المأجور
وادفعيه للانتقام الكبير
إن في الحسن - يا دليلة - أفعى
كم سمعنا فحيحها في سرير!
أسكرت خدعة الجمال هرقلا
قبل شمشون بالهوى الشرير
والبصير البصير يخدع بالحس
ن وينقاد كالضرير الضرير
ملقيه فالليل سكران واه
يتلوى في خدره المسحور
ونسور الكهوف أوهنها الحب
ب فهانت لديه كالشحرور
وعنا الليث للبوءة كالظب
ي فما فيه شهوة للزئير •••
شبق الليث ليلة فتنزى
ثائرا في عرينه المهجور
تقطر الحمة المسعرة الشه
هاء منه كأنه في هجير
يضرب الأرض بالبراثن غضبا
ن فيصدي القنوط في الديجور
ووميض اللظى يغلف عيني
ه فعيناه فوهتا تنور
ونزا من عرينه تتشظى
حمم من لظاه في الزمهرير
واللهاث المحموم من رئتيه
يشعل الغاب في الدجى المقرور
فسرى الذعر في الذئاب ففرت
وترامى إلى عشاش النسور
فانشقي فورة الحرارة من جس
ن تردت من كهفها المخدور
تنضح اللذة الشهية منها
خمرة من جمالها المأثور
فتنث العبير في مخدع اللي
ل فتشهى حتى عروق الصخور
فتلاشى اللهيب في سيد الغا
ب أمير المغاور المنصور
والعظيم العظيم تضعفه أن
ثى فينقاد كالحقير الحقير
ملقيه ففي أشعة عيني
ك صباح الهوى وليل القبور
وعلى ثغرك الجميل ثمار
حجبت شهوة الردى في العصير
ملقيه فبين نهديك غامت
هوة الموت في الفراش الوثير
هوة أطلعت جهنم منها
شهوات تفجرت في الصدور
ملقيه ففي ملاغمك الحم
ر مساحيق معدن مصهور
يسرب السم من شفافتها الحر
رى إلى ملمس الردى في الثغور •••
خيم الليل - يا دليلة - في الغاب
وأغفى حتى الشذا في الزهور
فانشقي فورة الحرارة من جس
مي وغذي قواك من إكسيري
أنت حسناء مثل حية عدن
كورود الشارون ذات العطور
وكغفر الوعل الوديع وإن كن
ت تناجين عقربا في الضمير
لست زوجي بل أنت أنثى عقاب
شرس في فؤادي المسعور
فاشتهي كل ليلة مخلبي الدا
مي على خز جسمك المخمور •••
وأتى الصبح ضاحك الوجه يرغي
زبد النور في ضحاه الغرير
أين شمشون يا صحاري يهوذا
أين حامي ضعيفك المستجير
أين قاضيك دافع الضيم طاغي ال
مستبدين صائن الدستور؟
أعورت شهوة من الحب عيني
ه وكم أعور الهوى من بصير!
إن قاضي المستعبدين لعبد
وقضاة عور قضاة العور •••
حفلت قاعة العقاب بجمع
من سراة المسودين غفير
هم رموز الشقاق والفتن الحم
راء والغدر والزنى والغرور
أقبلوا يشهدون مصرع شمشو
ن على لذة الطلا والزمور
بؤرة تعبق القذارة منها
سترت بالشفوف والبرفير
أيدين الخاطي جناة صعالي
ك ويقضي الفجور ذنب الفجور؟
وسرت خمرة الوليمة في الحف
ل لتقديس ساعة التكفير
وكأن النسيم شوق للخم
رة فانسل من شقوق الخدور
ولنقر الدفوف صوت غريب
يتحدى صوت العقاب الأخير
وإذا قينة تخالجها السك
ر على مشهد من الجمهور
فتثنت تضاجع الجو نشوى
من تلوي قوامها المحرور
رقصة الموت - يا دليلة - هذي
أم تراها اختلاجة في الخمور؟
وصغا الجمع للأسير ينادي
ه بشتى مطاعن التحقير: «هيه شمشون أيها الفاجر الزن
ديق يا عبد يهوه المقهور
أحكيم من العتاة تذري
شعره قينة من الماخور؟»
فتلوى شمشون في القيد حتى
حل فيه روح الإله القدير
فنزا نزوة الوميض من الغل
ل ودوى كنافخ في صور:
بددي يا زوابع النار أعدا
ء إلهي ويا جهنم ثوري
وتنفس يا موقد الثأر في صد
ري وأغرق نسل الريا في سعيري
وامصصي يا دليلة الخبث من قل
بي فكم مرة مصصت قشوري
وارقصي إنما البراكين تغلي
تحت رجليك كالجحيم النذير
وتغني بمصرعي فكثيرا
ما سمعت الفحيح في المزمور
أصبح الليث في يديك أسيرا
فاطرحيه سخرية للحمير
واجعلي الغل رمز كل صريح
واليواقيت رمز كل غدور
إن أكن سقت في غرامك شرا
فالبرايا مطية للشرور
غير أني أجني من الجيف الجر
داء - مهما قذرت - شهد قفير
هيكل الإثم لم أبح لك ذلي
شبح الرق لم أسلمك نيري
فاسقطي يا دعائم الكذب الجا
ني وكوني أسطورة للدهور
محق الله في شر ظلامي
فلتضئ في الحياة حكمة نوري
إن تكن جزت الخيانة شعري
في ضلالي فقوتي في شعوري
1933
القاذورة
حلمت بدنيا ليتها لا تبدد
لذائذ أحلامي ولا كان لي غد
أضن بإنشادي على الناس سحرها
وهل في الورى أذن إذا قمت أنشد
وأوقظت مذعورا إلى شر هاجس
كأني روح في جثام مشرد
نفيق من الحلم الشهي إلى رؤى
كوابيس في يقظاتنا تتسرد
فألفيت دنيا من فواجعها الورى
على بابها لوح من الرق أسود
قرأت عليه أحرفا خطها اللظى
يروعك منها اثنان «سجن مؤبد»
فطوفت في غمر من الليل والخنا
يعربد والأرجاس ترغي وتزبد
وللحمأ الغالي نشيش ورغوة
كأن الورى مستنقع يتنهد
وأغمدت في صلب الدجنة ناظري
وفي كل جفن لي من الهدب مبرد
فأبصرت أطباقا تعمدها يد:
أصابع من عظم وتصبغها يد
صباغ يفور الخزي منه ملاصقا
إذا علقت فيها النواظر تجمد
وشاهدت في الأطباق مفسدة الورى
تمور بها الديدان سكرى تعربد
مقاذر تمشي في الحياة طروبة
تغني وأصداء القبور تردد
هم الناس في الدنيا تهاويل حنطت
بكيت عليهم في جحيمي وعيدوا
وما هذه الدنيا، يذرى رمادها
لريح الفنا، إلا جحيم مرمد
تلاشت به النيران غير بقية
تشب لها في شهوة الطين موقد
ففي طبق مستنقع في صقيعه
نمت حشرات فاجرات توقد
نساء أقلت في الصدور مراضعا
على فمها الوردي للإثم مورد
عواهر أفنت في الفجور شبابها
فما روحها إلا عجوز تقود
مراضعها فطساء فهي ضفادع
على ما بها من شهوة النار تجلد
وداعا عذارى الحب في خيم الهوى
جمالك محظور وعدنك موصد
فقدتك حتى في أغاني مزهري
وكان لشعري منك ما يتجود
ألا أغلقي الفردوس في وجه شاعر
يضم طنابير الجحيم وينشد
لئن تك نار البغض تلظى بعينه
ففي قلبه النوار للحب مزود
يحس فراديس الحياة بروحه
وليس يرى إلا جحيما يهدد
كما يثبت الصفصاف في عاصف الدجى
وللأفق وجه هابط الغيم أربد
وللريح في الغابات زعق كأنه
صدى الجن في وادي الجحيم يزغرد
كذلك يبقى في دجى النفس ثابتا
جمال له في قبة النفس فرقد
وفي طبق واد تكدر ماؤه
فلا عشبة تنمو ولا غصن ينقد
ولا تسمع الأرواح في شعفاته
خليا يغني أو هزارا يغرد
فثمة جرذان ترى النور آفة
فتؤثر أوجار الظلام وتلبد
ملوك يقاضون النفوس إلى السما
وينهي بأيديهم ضمير مدود
على فمهم سفر السماوات مشرع
وفي روحهم سيف الجحيم مجرد
إذا ما لحاهم مؤمن فهو فاجر
وإن ند من أغلالهم فهو ملحد
وثم خفافيش مواليد بؤرة
إذا غار فيها سيد بان سيد
سلاطين حفت بالسياط عروشهم
فسيدهم - هول الصعاليك - مجلد
ترى منهم العاتي يقيء نخاعه
صباغا على شسع الغزاة ويسجد
وثم جرادات عطاش غوارث
ينكرها وهج الجناح فتمرد
محبرة الأردان مفجوعة الحشا
توابيت يطليها لجين وعسجد
لها في مقاصير السماء مطامح
وليس لها في مسلك الجو مقود
تفرش فيه وقح الوجه والسما
لأنسرها، لا للصراصير، مصعد
قياصرة عور الملاحم زيفت
يواقيت في تيجانهم وزمرد
مجانين تستاف البلى من خيالهم
يناط بهم من نسل عبقر سؤدد
مواليد فردوس أراغوا نفوسهم
فلم يبق للوجدان فيهن مولد!
عذيرك من نور الفراديس عبقر
ومغناك في متن السماك مشيد
وتشعل في عينيك نار نقية
بمقدسها طيف السماء مجسد
وصدغك مدهون بزيت مطهر
وبالبلسم الشافي هواك مضمد
رأيتك تمشي في المساخر شاعرا
وتاجك محطوم عليك مكمد
وروحك ممسوخ ونورك ذاهل
وشعرك بالغل الدنيء مصفد
وشاهدت أشباح السماء كئيبة
عليك بأسواط الأراجيف تطرد
ففيم أزغت النفس عن نهج قدسها
فصارت مغارا سافلا وهي معبد
1934
الأفعى
أجيبيه أني ما أزال مقربا
بنفسي إلى نجم يقال له الشعرى
وأني لم أنسل في سرب الدجى
بغاء لألقيه على دعري سترا
ولم أغش أخدار النساء من الكوى
فأجعل سيين المغارة والخدرا
وما رغت من زوج فدارجته على
ولائي وفي هذا الولا بغية نكرا
فلما قطرت الصدق خبثا بصدره
قطرت له في نسله قطرة أخرى •••
أقول لها أعراق زوجك لم تزل
وفي قلبه عطف الأبوة لم يبرى
ولم يبر إحساس الرجال بصدره
فحبك يجري منه في الجهة اليسرى
أقول لها ثوب العفاف تذكري
ففي ساعة الإكليل لم يك مغبرا
لبست رداء العرس أبيض ناصعا
فمن أين جاءت هذه اللطخة الحمرا ؟ •••
رسائلك الحمقاء أصبحن في يدي
أعيذك بالشيطان من هذه البشرى
لقد أيبس التكفير أزهار عهرها
فسلمت المجنون أحلامك الخضرا
لقد ندمت، لكن سترجع، إنني
لمحت عليها من ندامتها طمرا
ستملكها ما شئت بعد فلا تخف
وتمتصها حتى تصيرها قشرا
ستحفر مصقول الرخام بجسمها
شفاهك حتى تبرز الأعظم الصفرا
ستمزج بالسم الذعاف دماءها
لتجعلها للموت مصلا فيجترا
وترمي بها في حمأة الويل والخنى
سقاطة عار تلهم الخوف والذعرا
أجل سيراك الليل بعد تضمها
ويبصرك المصباح تعصرها عصرا
وسوف ترى فيك المآثم نعجة
قد التصقت في بطنها حية سمرا
ستملكها ما شئت بعد فلا تخف
فإن ابنها لما يزل يجهل الأمرا
صغير بريء العين يرضى بلعبة
فيرقد مغبوطا بذي الهبة الكبرى
ينام ولا يدري بأن سخافة
تلهى بها كانت لموبقة سعرا
1929
في هيكل الشهوات
ما لي أرى القلب في عينيك يلتهب!
أليس للنار - يا أخت الشقا - سبب؟
بعض القلوب ثمار ما يزال بها
عرف الجنان ولكن بعضها حطب •••
ذكرت ليلة أمس فاختلجت لها
والليل سكران مما سحت السحب
ذكرتها غير أن الشك خالجني:
إن النساء إذا راوغن لا عجب
فهن من حية الفردوس أمزجة
يثور فيهن من أعقابها عصب •••
أخاف في الليل من طيف يسيل على
موجات عينيك حينا ثم يغترب
طيف من الشهوة الحمراء تغزله
خمر الليالي وفي أعماقه العطب
ووجهك الشاحب الجذاب ترهبني
ألوانه يتشهى فوقها اللهب
ما زلت تغتصبين الليل في جهد
حتى تجمد في أجفانك التعب
وما السواد الذي في محجريك بدا
إلا بقايا من الأحشاء تغتصب
وحق طفلك لم أشمت بإمرأة
زلت بها قدم أو غرها ذهب
فرب أنثى يخون البؤس هيبتها
والبؤس أعمى، فتعيا ثم تنقلب •••
لي مهجة كدموع الفجر صافية
نقاوتي والتقى أم لها وأب
فكيف أختلس الحق الذي اختلسوا؟!
وكيف أذأب عن لؤم كما ذئبوا؟!
لي ذكريات كأخلاقي تؤدبني
فلا يخالجني روغ ولا كذب!
أبقى لي الأمس من غلواي عفتها
ولم يزل في دمي من روحها نسب
وحق روحك يا غلوا ولو غدرت
بي الليالي وأصمت قلبي النوب
إن كنت في سكرة أو كنت في دعر
ومر طيفك مر الطهر والأدب
وأنت يا أم طفل في تلفته
سؤل العفاف وفي أجفانه لعب
صبي الخمور فهذا العصر عصر طلا
أما السكارى فهم أبناؤه النجب
لا تقنطي إن رأيت الكأس فارغة
يوما ففي كل عام ينضج العنب!
صبي الخمور ولا تبقي على مهج
موج الشباب على رجليك يصطخب
أما أنا - ولو استسلمت أمس إلى
خمر الليالي - فقلبي ليس ينشعب
قد أشرب الخمر لكن لا أدنسها
وأقرب الإثم لكن لست أرتكب
وفي غد إذ تنير الطفل ميعته
وتهرمين ويبقى ذلك الخشب
قولي له جئت في عصر الخمور فلا
تشرب سوى الخمر واشحب مثلما شحبوا
قولي له هذه الأيام مهزلة
وليس إلا لمن ينشى بها الغلب
قولي له عفة الأجساد قد ذهبت
مع الجدود الأعفاء الألى ذهبوا
قولي لطفلك ما تستصوبين غدا
فكل أمر له في حينه خطب
ولكن اليوم صبي الخمر وانتخبي
من الملذات ما الآثام تنتخب
ولا تخافي عذولا فالعذول مضى
والعصر سكران يا أخت الشقا تعب
طريقه الشك أنى سار يملكه
وحلمه الشهوات الحمر والقرب!
1929
سدوم
مغناك ملتهب وكأسك مترعه
فاسقي أباك الخمر واضطجعي معه
لم تبق في شفتيك لذات الدما
ما تذكرين به حليب المرضعه
قومي ادخلي يا بنت لوط على الخنى
وازني فإن أباك مهد مضجعه
إن ترجعي دمك الشهي لنبعه
كم جدول في الأرض راجع منبعه!
لا تعبئي بعقاب ربك إنه
جرثومة من نارك المتدفعه
في صدرك المحموم كبريت إذا
لعبت به الشهوات فجر أضلعه
في صدرك الدامي مناجم للخنى
أورثتها نار الذراري المزمعه
فبكل صقع من ضلوعك قسمة
خلع على لهب الشباب موزعه •••
إيه سدوم بعثت من خلل اللظى
حمراء في شهواتك المتشرعه
في كل جيل من لهيبك سنة
سكرى محطمة عليه مخلعه
عقبت بي الذكرى إليك فأشعلت
قلبي وأجفاني رؤاك الموجعه
شاهدت من خلل اللهيب حدائقا
كانت نواضر في الفصول الأربعه
نشقت من الفردوس عبقة سحره
ومن السماء طيوبها المتضوعه
خضراء طاهرة الغراس كأنها
بصفاء عدن لا تزال مبرقعه
وكأن من تكفير آدم نفحة
فيها ومن صلوات حواء دعه
ورأيت غدرانا مراضع تربة
بأجنة الزهر الندي مرصعه
ومراوح الفجر الجميل على الذرى
يلقى عليها كل طير مخدعه
ورأيت حورا في شفوف زنابق
بيضاء من لبن الجنان مشبعه
نفخ الصبا بنهودها فتكورت
وتبسمت عن وردة مترفعه •••
ماذا فعلت، سدوم، أين جواذب
كانت على تلك الخدور مجمعه؟
فيم استحال لبانك النامي إلى
خمر بكاسات الفجور مشعشعه
ذوبت خمرك لا ليصبح طاهرا
لكن ليستهوي النفوس فتجرعه
وجعلت غرغرة الأفاعي كأسه
ليذوق منها كل قلب مصرعه •••
سكرت بك الدنيا سدوم فكلها
زمر على طرق الحياة متعتعه
وأثرت حنجرة الفجور فأطلقت
حمما على نغم الجحيم موقعه
أغنية حمراء أنشدها الخنى
مزقا على أوتارك المتقطعه •••
أسدوم هذا العصر لن تتحجبي
فبوجه أمك ما برحت مقنعه
كانت منكرة كوجهك عندما
هبت عليها من جهنم زوبعه
قذفتك صحراء الزنى بحضارة
ثكلى مشوهة الوجوه مفجعه
بؤر مسترة الفساد بخدعة
نكراء بالخز الشهي مرقعه •••
أسليلة الفحشاء نارك في دمي
فتضرمي ما شئت أن تتضرمي
أنا لست أخشى من جهنم جذوة
ما دام جسمي، يا سدوم، جهنمي
طوفت بي ميتا بأروقة اللظى
فحملت تابوتي وسرت بمأتمي
وعصبت بالشبق المجمر جبهتي
فرفعتها في عصري المتهكم
علمتني لغة النبوءة عندما
فجرت ألغام السموم بمنجمي
مهلا كلانا يا سدوم مسلح
فلظاك في جسمي وثأرك في فمي
سيرت قلبي في المهازل شاعرا
وذررت مسحوق العظات بمرقمي
فكأن غضبة أنبيائك عندما
أحرقت عاشت في اللظى المتكلم
أبغي هذا العصر خمرك فاغرفي
واسقي ذراري الورى واستسلمي
وبمضجع الغرباء نامي حقبة
ثم اعدلي عنه لآخر وارتمي
وتمرغي ما شئت في حمأ البلى
حتى يجف بك الرضاع وتهرمي
حتى تضاجعك الأفاعي في الدجى
ويصير حسنك مخدعا للأرقم
حتى يفور الدود منك وينثني
يمتص جيفة عرضك المتهضم
حتى يدب الموت فيك وتمحي
ذرية المهد الأثيم المجرم
1931
الخيال النقي
يا ابنة الإثم هذه شفتايا
فارشفي منهما رحيق الخطايا
واعصري ما استطعت قلبي فقلبي
لم يزل فيه من غرامي بقايا
وتوقي إحدى زواياه لا تق
سي فلي حرمة بإحدى الزوايا
إن في قلبي البغي خيالا
من عفاف ما فاجرته البغايا
إن تكن حفنتي المدماة ملكي
فخيال العفاف ملك سوايا
1929
عهدان
أولا تراهم يرتدون
الليل حتى منتهاه
يستنزفون دم الشباب
ويرقصون على قواه؟
هذا فتى كانت تمو
وج بالجواذب وجنتاه
كان الندى يطفو على
آماله وعلى صباه
كانت أزاهير الربى
بالأمس تسكر من شذاه
وذرى الجبال إذا رأت
ه تقول: «ما أعلى ذراه!»
ماذا دهاه اليوم؟ ألش
شهوات تعرف ما دهاه؟
أما الجمال فإنه
لم تبق تعرفه دماه
ولكم سمعت الورد ين
كره فيسأل: «من تراه؟»
والفجر أصبح يعرف الد
دنيا جميعا ما عداه •••
عهدان: عهد هوى نقي
ي مات في شرف وجاه
وهوى يعربد في دمي
وتنش في كأسي دماه
لم أدر من هي أمه
العرى، ولم أعرف أباه
بحر من الشبهات مر
آة لأهوال الحياه
ألهم صخرته الصغي
رة والمساخر شاطئاه •••
لا تطعم الحب اللجا
م ودعه يدلج في سراه
دعه فأم الطفل تم
لكه كما ملكت سواه
لسريرها خلجاته
ولمرشفيها مرشفاه
ونساء هذا العصر إن
أحببن أطعمن الشفاه
أما قلوب العاشقا
ت فإنها وآخجلتاه!
1929
الشهوة الحمراء
أطفئ ضياك وأظلم مثل إظلامي
وخلني في كوابيسي وأحلامي
فرب نيرة - يا ليل - توقظني
إلى العفاف فأنسى عبء آثامي
أحس في جسدي شوقا يعذبني
ففي دمي سورة كالخمر في جامي
لم يبق في حفنتي نار لغير هوى
يودي بجسمي كما أودى بأجسام
حبي النقي كإيماني القديم مضى
وهم هذيت به من بعض أوهامي! •••
أترى الغصن مذ يمر عليه
عاصف الريح كيف تذوي زهوره
هكذا القلب حين تلبسه الآ
ثام يقسو وقد يجف شعوره •••
يا حسرة الليل كم توحين من حلم
ميت لقلب بغي أخت آلام
أو قلب أرملة جار الزمان على
عفافها فأماتت قلبها الظامي
مهما يكن سبب استسلامها أهوى
في النفس أم كان إنقاذا لأيتام
فلتقض شهوتها حتى يهدمها
ما كان في صدرها من عهرها الدامي
وتنجز الشهوة الحمراء دورتها
فيمحي رحم من بين أرحام! •••
أميرة الشهوة الحمراء، إن دمي
من نسلك الهادم المهدوم فاحترمي
خلقت تحترفين الموت فاقتربي
مني فإني احترفت الموت من قدم
حملت منجله في العهر منتقما
من النساء فهاتيه لتنتقمي!
هاتي من العهر أشكالا ملونة
نمهر بها بعضنا بعضا وننهدم
لقد تعبت من الأحلام في جسد
مل العفاف بألوان من الألم ••• «ولنعاط الهوى لعل عصيرا
من ثمار الشفاه والأكباد
أو لعل الآثام تشرب منا
ما تبقى من طهر ماء العماد» •••
إنا اتحدنا ليوم واحد وغدا
يأتي فيخلفني قوم بحبهم
سيعشقونك يوما يغنمون به
ما غادرت منك ساعاتي لليلهم
وسوف تنسين - يا أخت الدما - فمهم
كما نسيت - على رغم الدماء - فمي!
عشرون قلبا شربت الحب من دمها
وما شبعت ولم يشبعك شرب دمي
إذن فسوف تظل النفس جائعة
حتى يجف دم في غلفها النهم؟ •••
سترجعين ولكن مثل آمالي
جوفاء مشلولة في جسمك البالي
سترجعين مدماة مشوهة
أدنى إلى الموت مني رغم أثقالي
سترجعين كطيف مر في حلمي
ليلا فذكرني في الحلم أهوالي
سترجعين ولا أقصيك عن جسدي
حتى تحل الليالي الحمر أوصالي
حتى يحل وباء الخلد في كبدي
ويعلق العار من بعدي بأذيالي! •••
غير أني - ولي يراع مدمى -
سوف ينقى ذكري وتنقى دمائي
ستقول الأجيال كان شقيا
فليقدس في جملة الأشقياء •••
ويرفع الحب لي في كل زاوية
من القلوب ضريحا خالدا عالي
أما الشباب ففي أقصى سلالته
لن ينتسي كيف كانت في الهوى حالي
سينظر الغد في أمسي ويغفره
لأن قلبي - كنفسي - غير محتال
وكلما ذكر اسمي مر في فمه
ذكر التي صقلت للموت أغلالي
ذكر التي اختصرت عمري بشهوتها
وخلدت عهرها الدامي لأجيال •••
أجل ستذكرك الأعقاب والحقب
ما دام في الأرض من صلب الزنى عقب!
لا مثلما ذكر الإفرنج «لورهم»
ولا كما ذكرت «عفراءها» العرب
بل مثلما ذكرت روما قبائحها
في مقلتي «مسلينا» وهي تضطرب
هذا هو الليل فاسقي السم هاتفة
لعل في الناس قوما بعد ما شربوا
وسرحي يدك الصفراء فوق هوى
يسيل في محجريه الجهد والتعب •••
ولتكن هذه الإشارة رمزا
لاصفرار على الملذات مرا
لونيها بالاصفرار إلى أن
يختم الموت نزعها المستمرا
أطفئ ضياك فإن النور يذكرني
أمسي وتقلق روحي هذه الشهب
قد يوقظ النور أعيادا مقدسة
تشع من خلل الماضي وتلتهب
أطفئه يا ليل واغمرني بحالكة
من الظلام فأنسى حين أحتجب
أشقى بلذتي الحمراء في جسدي
وأمحي، لا هوى يبقى ولا وصب
خربت قلبي وأطعمت الوحوش دمي
في كل مخلب وحش منهما خرب
1929
شهوة الموت
ناقم على السماء
حاقد على البشر
ساخط على القضاء
ثائر على القدر
غير قطرة المساء
لا أحب في السحر
صرت أمقت الصفاء
صرت أعشق الكدر
غير مشهد الدماء
لا أحب في الصور
ناقم على السماء
والبشر! •••
جملي لي الجسد
واسكبي لي الرحيق
لا تفكري بغد
قد يجي ولا نفيق
ما لنا وللأبد
إن سره عميق
الهوى إذا اتقد
كان للبلى طريق
فلنمت يدا بيد
ولنغيب البريق
بين شهوة الجسد
والرحيق
1929
حديث في الكوخ
سمعتني أقول شعرا شقيا
يستفز الآلام في سامعيه
فتلاشت وتمتمت في سكون ال
ليل: «ألله! ما الذي يشقيه؟»
ثم أخفت في ضفة العين دمعا
شاء سر الوقار أن تخفيه •••
قلت: «في مقلتيك خمر العذارى
فهي إكسيرك الذي تحجبينه
ما خمور الكئوس مهما تلظت
كخمور القلب الذي تعصرينه
تسكبين الشعر الطروب من العي
ن وفي النفس غير ما تسكبينه
إن فيها آيات حزن أليم
ورموزا من الليالي حزينه!» •••
وتمادى السمار في خمرة الكأ
س وكل منهم سها كأخيه
وعزيف الأوتار يمزج بالخم
ر عصيرا أرق من شاربيه
قلت: «في مهجتي فراغ رهيب
فاعصري فيه فلذة تملئيه!» •••
فأمالت عني عيونا سكارى
وأمالت إلي قلبا شقيا!
وأذابت من مقلتيها رحيقا
جرعته الشجون في مقلتيا
ثم قالت: «خبرت حب البغايا
فنظمت العذاب شعرا بغيا!»
فتبينت كل ما أضمرته
حين مالت عني ومالت إليا •••
وتراءى في رفرف الليل مولو
د عليه غلالة من أبيه
فأطلت من كوة الكوخ واللي
ل يزف الضحى إلى ساهريه
قلت: «فيما تفكرين؟» فقالت: «في سكون الدجى وفيما يليه!» •••
واشرأبت من الكوى الأعناق
وأذابت بريقها الأحداق
واستفاقت من نومهن العذارى
حائرات والعاشقون استفاقوا
الخليون أومئوا بيديهم
وبطرف اللواحظ العشاق
واستفاق الجميع من نشوة الخم
رة حتى الآمال والأشواق •••
قلت: «فيما تفكرين؟» فقالت: «في يراع سحر الهوى من ذويه
في يراع علمته الحب حتى
صرت أهواه صرت من عاشقيه!»
فذكرت الماضي وقلت لقلبي:
إنها - يا شقي - تهواك فيه •••
أيها الفجر يا حبيب الشقيي
ن ويا مشعل الهوى والشباب
أيها الشاطئ المسر إلى المو
ج حديث العشاق والأحباب
أيها الكوخ والعيون السكارى
بخمور لم تمتزج بعذاب
لا تجسي قلبي فلم يبق فيه
من بناء الماضي سوى أخشاب •••
وانصرفنا وقبل أن أتوارى
عن جمال الشاطي وعن ساكنيه
قلت للمرأة التي آلمتني
حين قالت الله ما يشقيه؟!: «لي قلب أفرغته فاتركيه
في الهوى فارغا ولا تملئيه!»
1929
الصلاة الحمراء
رباه عفوك إني كافر جان
جوعت نفسي وأشبعت الهوى الفاني
تبعت في الناس أهواء محرمة
وقلت للناس قولا عنه تنهاني
ولم أفق من جنون القلب في سبلي
إلا وقد محت الأهواء إيماني
رباه عفوك إني كافر جان •••
لكم دعتني إلى الفحشاء أميال
وأنذرتني تجاريب وأهوال
إن التجاريب للألباب موعظة
لكنها لأولي الإضلال إضلال
تلك الليالي المواضي لا يزال لها
بين الخرائب في عيني أطلال
واحسرتاه! وقلبي لا يزال له
في لذة العار أوطار وآمال •••
لما استفاقت عيوني
في ذلتي وهواني
عزمت أن أتعرى
من شهوتي فثناني
وقال لي: «الحكم حكمي
والأمر طوع بناني
لا تستطيع التغني
في الحب عن سلطاني
والحب لا يتغذى
إن لم يكن شهواني!»
فلم أجد لي مفيضا
يوما من الإذعان
فصرت أغذوه عارا
والنفس في تيهان
وصار يسكر روحي
بنغمتي خفقان
بنغمة من لهيب
ونغمة من دخان
حتى ظننت نعيمي
في ذلك البركان
رباه عفوك إني كافر جان •••
وطأت لي كنف الدنيا فقلت قفي
يا نفس في منهل اللذات وارتشفي
ومال مذهب طبعي عن سجيته
حتى تقلب في بطل وفي صلف
وغاب عني أني عشبة نبتت
على جوانب إبريق من الخزف
على جوانب إبريق إذا نظرت
عين إلى عتقه انحطت على تلف •••
فخارة ذات نتن
قديمة كالزمان
مرت قرون عليها
فحال لون الدهان
ومهد النتن فيها
مسارب الديدان
فخارة دنستها
خواطر الإنسان
تخاصمت جانبيها
مظالم الأديان
كأنما الدين فيها
ضرب من الويل ثان
كم مرة أوعدتها
ثوائر الغليان
وكم تفجر فيها
بالأمس من بركان
تبقى قرونا طوالا
وتمحي في ثوان
خزافها ذو حنان
حينا وذو سلطان
ينهى ويأمر بالصا
عقات والنيران
ديدانها مسكرات
بخمرة التيجان
والتاج، لو هي تدري
معنى من البهتان
رباه عفوك إني كافر جان •••
فخارة جبلت بالدمع والطين
من عهد قايين أو من قبل قايين
نيرون أضرم فيها جمر مقلته
تلك البراكين من أجفان نيرون
تبادرتها من الديدان طائفة
أبطال حرب من الغلب المجانين
ما كان إسكندر فيها سوى شبح
يحجب الشمس عن عيني ديوجين •••
ما كان جنكيز إلا
شرارة في الكيان
تضرمت وتوارت
بين الرماد الفاني
رب المغول إله الن
نيران والعصيان
ثارت عليه كما ثا
ر سنة النيران
والنار تمحق إلا الت
تذكار في الأذهان
أبقت لفارس ذكرى
كسرى أنوشروان
وقوضت ما بناه
من شاهقات المباني
لم تبق إلا بقايا
خورنق النعمان
تلك البقايا عظات الز
زمان للإنسان
تلك البقايا رموز
لسخريات الأماني!
أين الذي شيدته
جلائل الرومان؟
حلم من المجد أبقى
أسطورة في اللسان
شرع المقدر ألا
يبقى سوى الخسران
أما الكمال فحلم
في هجعة النقصان
يرقى إليه رويدا
على متون الزمان
على الإرادة والتض
حيات والعرفان
حتى إذا حك كان ال
كلام للطوفان
وكان للنار رأي
وللدمار يدان!
أم الزلازل طوا
فة بكل مكان
آثارها باقيات
وقفا على الأجفان
والناس، واحسرتاه!
اثنان مختلفان
أعمى له مقلتان
في العقل مبصرتان
ومبصر أظلمته
عينان لا تريان •••
ترى مشيئتك العليا تناديني
بثورة النار في تلك البراكين؟!
رباه هل ينتهي حلمي ببارقة
من اللهيب ويخبو الطين في الطين؟!
وهل أرى زاحفا في الليل ملتهبا
بجمرة السخط في أيدي الشياطين؟!
أدعوك والظلمة الحمراء تحرقني
فلا تجيب وتلوي لا تنجيني؟!
أعرضت عنك غداة القلب ضللني
كأن شهوة قلبي عنك تغنيني
وحين أوقظت من سكر الهوى خجلا
بحثت عنك وكاد العار يخفيني
فلم تمل قلبك الرحمن عن ألمي
وقلت: «تطلبني بين المساكين؟» •••
لكنني عدت بعد الت
تكفير عن تيهاني
إلى ذنوب جسام
كثيرة الألوان
ملوثات بدمع
مخضبات بقان
وقلت للقلب: «أطلق
في الموبقات عناني
طيف الإله بعيد
وعينه لا تراني»
وقيل يوم عصيب
ينقض قبل الأوان
تنفذ النار فيه
والحكم للديان
فرحت أسأل نفسي الد
دفاع عن كفراني
فلم أجد من يحامي
عني سوى بهتاني
رباه عفوك إني كافر جان
21 نوار 1928
الدينونة
حول خيالك عني
ولا تخيم عليا
فليس أهلك مني
ولا اللظى من يديا
لم أغش في النفس مأثم
ولم أنادم رجالك
إبليس، ليست جهنم
داري فحول خيالك •••
قيثارتي لم ألطخها بأقذار
على طوافي بها في بؤرة العار
عذراء تتهم العرى بكارتها
في كل خمارة أصغت لأوتاري
وكل قاذورة ترقى بعورتها
إلى لسان ذريف الخبث سيار
تنكر الخفر الممسوخ في دمها
بزخرف عاقر في منطق عار
أوتار قيثارها الموبوء فاجعة
كأنها حية لاذت بقيثار
أفعى أصيبت بحمى المجد فانقلبت
من كهفها مزقا سكرى على الغار
إبليس، خذ هذه العرى فإن بها
ما في جحيمك من زفت ومن نار
خذها إليك وعقمها فلا حبلت
أنثى من الإنس بالكبريت والقار •••
كم شاعر خبثت فيه عرائسه
فراح يملي بأنياب وأظفار!
من المواخير أوحين الجمال له
معرف الشهوة السفلى بأزهار
وجئنه بأكاليل مفجعة
نمت سموما على حافات أوجار
تاج من الدرك الأدنى يطوف به
على الخفافيش في أشلاء أطمار
تسير في ركبه الأقزام حاشية
قامت لتأييده في ملكه الهاري
تهتكت سخريات الخلود به
فصاح تلك على الأجيال آثاري
لا يضمر الحب إلا في محاجره
فعينه للهوى والقلب للثار
إبليس، خذه وعقمه فلا نشأت
من صلبه أسرة شوهاء في دار •••
كم عاشق راغ من عذراء طاهرة
علت من الملأ الأعلى بأنوار!
باكورة الحب أبقى في مراشفها
ثدي السماء رضاع الفاطر الباري
حتى إذا أدنأت فيه وفاجرها
وقام يطرحها عن جسمه الضاري
أهوت على يأسها واليأس ينخزها:
إما الضريح وإما العار فاختاري
وكم ولي رعى شعبا فأهلكه
ترغي على زهده أرياق عشار
وحاكم سفلت فيه وداعته
فأظهرت حملا في قلب جزار!
إبليس، خذهم جميعا في براقعهم
وارفع جناحك عن أبكار أوتاري
خذهم إليك فلا عادت سلالتهم
وعقم النار يا إبليس بالنار •••
حول خيالك عني
ولا تخيم عليا
فليس أهلك مني
ولا اللظى من يديا
لم أغش في النفس مأثم
ولم أنادم رجالك
إبليس، ليست جهنم
داري فحول خيالك •••
وما سرى في مقاصير اللظى خبر
حار اللهيب به واستسألت سقر
إن الورى أطلقوا ريحا إلى سقر
تقود للنار قوما دانه البشر
حتى أطلت من الأشباح طائفة
في هودج يتنزى تحته الشرر
بله العيون ضخام كلما وغلوا
في مسرب من دياميس اللظى صغروا
تجرهم بومة حمراء في يدها
فأس على جانبيها صور الدعر
فثار ثائر أهل النار كلهم
وجيشت زمر في إثرها زمر
تدفقت من سراديب الجحيم إلى
إيوان إبليس حيث الجن قد سكروا
وكان في موكب الأشباح ذو بطر
يفح في شفتيه حية ذكر
عليه قيثارة ثكلى مخلعة
وصولجان من الأحلام منكسر
يلقي على غرف النيران أخيلة
من ثوبه الأحمر القاني فتستعر
فما أصاخ إلى الأنغام يعزفها
رهط من الجن حتى مسه خدر
وصاح: «ما هذه الرؤيا؟ وأين أنا؟»
فقال إبليس: «مهلا هذه سقر
حملت قيثارة في الأرض كاذبة
من الحقيقة لم ينبض بها وتر
وريشة من جناح البوم ما رسمت
إلا خفافيش بالديباج تستتر
فأنت لي وجحيمي لي أوزعه
على الألى أنشدوا شعرا وما شعروا»
وكان في موكب الأشباح ذو صلف
في كفه سلع في عينه قذر
يجر ذيل قوانين مشوهة
من الفضيلة لم يعلق بها أثر
فقال إبليس: «أطرق، إن من سفلت
يداه في الأرض لا يعلو له بصر
فأنت لي وجحيمي لي أوزعه
على الألى أقسموا للشعب وابتهروا»
وكان في موكب الأشباح ذو خطل
يرغي ويزبد لا يبقي ولا يذر
في مقلتيه براكين مرمدة
وفي الجبين خيال الله يندحر
فقال إبليس: «أقصر لم تكن غضبا
في منطق الرسل الآيات والسور
فأنت لي وجحيمي لي أوزعه
على الألى ما جزوا إلا ليثئروا» •••
وكانت الخمر ترغي في مقاصفها
والجن تعزف والنيران تنفجر
إذا بصوت من الأرض التي صفحت
يقول للنار: «أهل الأرض قد غفروا»
1933
الطرح
رحم الأم لعنة أنت منه
في دمائي كانت وفي أعراقي
أم عقاب لما تسحق من حب
بي في لذتي وفي أشواقي؟
حملت أمك القنوط إلى وج
هي وكنت الرجاء في أعماقي
جئت في سحنة المسوخ فلم حط
طمت حلما نما على أحداقي
ألأني بذلت حبي ولم أط
عمك منه سوى الفتات الباقي؟
عشت في مقلتي ساعة هول
حجرت غصتي على إشفاقي
وأرتني كأنني في جثام
عالما فيك موحش الآفاق
فرأيت المسخ المخيف على أك
مل حسن والقزم في العملاق
ولسان الثعبان في قبلة الصد
ديق والسم في الشراب الواقي
وسمعت الفحيح في النغم العذ
ب وصوت العدو في الميثاق
كم نفوس رأيتها تلفظ الإث
م فيرقى منها إلى الأرياق
لذة الإثم كيف تمقتها النف
س ويحلو عصيرها في المذاق؟
كم فتى يسعر الجحيم بعيني
ه وفي القلب للسماء مراق
ولقد ينصر الجحيم فيردي
بعضه ما ببعضه من خلاق
وسمعت الحياة تهتف في نف
سي فيصدي الهتاف في أبواقي: «أهلك المائتون في رحمي الحب
ب وسموا الزلال في ترياقي
فطرحت الأقزام في أسواقي
عبرا للدمار في العشاق
ورأيت الفردوس لفت أفاعي
ه غصوني وكمشت أوراقي
وتراءت لي الطبيعة دنيا
من كمال نسيقة الأذواق
فرأيت الجماد شبعان حبا
كل صدر عليه ثدي ساق
إن في الحب صورة الله لكن
أين في الخلق صورة الخلاق؟»
1938
ناپیژندل شوی مخ