لقد أطلت ولكني لم أحدثك إلا بأيسر الحديث، لقد أطلت ولكني لم أحدثك عما رأيت، بل لم أحدثك عما لم أر، فإن ما رأيته لا يستحق الحديث، وإنما الذي يستحق الحديث هو هذه المعالم التي أقبلت زائرا لها. فلم أر منها عينا ولا أثرا، وسألت عن بعضها فلم أجد بين الناس الذين سألتهم من يعرف لها نبأ أو يروي عنها خبرا، هذه المعالم التي جئت لأراها والتي لم أرها، هي التي تستحق الحديث. لن أرسل إليك هذا الكتاب حتى أتمه، ولن أتمه الآن، فقد آن لي أن أروح إلى قريتنا حيث ينتظرني الحزن والسخط والبؤس والشقاء.
نعم لن أرسل إليك هذا الكتاب حتى أتمه، فما ينبغي أن أحتمل وحدي ثقل هذا الحزن وما أظن أن غيرك وغيري من الذين نشئوا في المدينة يحزنهم أن يعلموا بموت القناة أو بتغير ما ألفوا من المعالم أو بتفرق من ألفوا من الناس.
وأكتب إليك الآن من قريتنا وقد بلغتها مع الليل فألهاني ما شهدت فيها بعض الوقت عما كان يملأ نفسي من الحزن والحسرة، ولو أنك رأيت للهوت كما لهوت، ولما استطعت أن تمنع نفسك من ضحك ينفذ إليه حزن غير قليل، فقد رأيت أهل الدار وقد ملكهم جزع غريب لم يحكموا فيه عقلا ولا روية، وإنما اندفعوا فيه اندفاعا، افتقدوني وجه النهار فلم يجدوني وانتظروني حتى انتصف النهار، وهم يظنون أني قد خرجت لبعض ما يخرج له الشباب من النزهة والتماس التروض والعبث في الحقول، ولكني لم أعد مع الظهر، ولم أعد مع العصر، فلم يشك أحد في أني لم أخرج لنزهة ولا لتروض وإنما فررت منهم فرارا، وعدت إلى القاهرة أنتظر فيها يوم الرحيل.
وتستطيع أن تصور لنفسك ما ملأ نفس الشيخين من هذا الحزن العنيف الذي يملؤه السخط والغضب، وتملؤه الرقة والرحمة في وقت واحد، لقد كنت ابنا عاقا يرتحل دون أن يودع أبويه، فكنت خليقا أن أثير السخط والغضب والموجدة، ولكني كنت ابنا يرتحل إلى بلد نازح، فكنت أثير الرحمة والحب والحنان، وكانت غريبة هذه الدموع التي كانت تنحدر من عيني أمي، لا يعرف الناس أهي دموع الغيظ والحنق أم هي دموع الوجد والحنين، وكانت غريبة هذه الألفاظ التي كانت تنطلق متصلة على لسان أبي، لا يعرف الناس أصدرت عن أب ينكر على ابنه عقوقه وجحوده وقسوة قلبه الغليظ أم صدرت عن أب ينفطر قلبه حزنا لأن ابنه قد سافر إلى بلد مجهول، وهو لا يعرف متى يعود ولا كيف يعود.
ثم كانت غريبة هذه العواطف التي ثارت في نفسي حين بلغت الدار فرأيت الشيخين راضيين يظهران السخط، ومسرورين يتكلفان الحزن، ومبتهجين يتصنعان الاكتئاب، ففي قلبهما إذا عطف علي، هذا الغضب الذي أراه وأتأذى له ليس إلا مظهرا من مظاهر هذا العطف، ولونا من ألوان هذا الحب، وصورة من صور هذا الحنان، وإذا فسأسافر إلى هذا البلد الغريب وأنا واثق بأن الذي سيصحبني في هذا السفر هو الحب والعطف والحنان لا السخط والغضب والموجدة. ولعل خروجي إلى المدينة لم يكن شرا كله وإنما كان فيه بعض الخير، على كثرة ما أثار في نفسي من الآلام الملحة الباقية، فلأول مرة عدت إلى القرية استطعت أن أظفر من أبوي بساعات فيها هدوء وطمأنينة وحديث متصل مختلف، كأن عودتي إليهما من الرحلة القصيرة التي انقضت قد ألهتهما عن تلك الرحلة الطويلة التي لم تبتدئ بعد، وكان أكثر حديثنا عن المدينة التي زرتها، وعما تغير من معالمها ومن تفرق من أهلها، وكان الشيخان يتحدثان إلي في ذلك كله حديثا هادئا مطمئنا يغشاه حزن خفيف، وتتردد فيه ذكريات مؤثرة، ولكن قوامه الرضى بما كان والسخط على ما هو كائن والأمل فيما سيكون، وكانت أحاديثهما متممة لما رأيت وما علمت، ومتممة في الوقت نفسه لتشييد هذا المعبد الحزين الذي أقمته في نفسي لهذه الحياة المنقضية وهذه العهود الماضية ولهذه الذكريات التي ستبقى ما بقيت.
نعم كانت أحاديثهما متممة لتشييد هذا المعبد الحزين الذي أقمته في نفسي والذي يجب أن تقيم مثله في نفسك لذلك العهد الذي مضى إلى غير رجعة ومات إلى غير نشور، ولا بد من أن أتم لك ما تم في نفسي من تشييد هذا البناء المظلم الحزين الذي ستتردد فيه الذكريات حائرة مضطربة كما تتردد هذه الطير التي تألف الظلمة في البيت المظلم الحزين.
وماذا تريد أن أقص عليك من أمر المدينة؟ لم يبق فيها شيء مما كنت تعرفه وتألفه، ماتت القناة فمات من حولها كل شيء، فأما حديقة المعلم فتستطيع أن تلتمسها في نفسك، واجتهد إن استطعت أن تستحضر ما بقي من صورتها وأن تثبته، فإني أخشى أن يعبث الزمان بالصورة كما عبث بالأصل، وأما بيتكم فلن تراه إلا في الخيال يقظان أو في الحلم نائما، وكذلك هذه البيوت الحسان التي كانت تقوم على شاطئ القناة والتي كنت تحب أن تدخل بعضها لتتحدث إلى محمود وعثمان، ولتسمع لعزيزة وأمينة، وقد مضى أهلك إلى أقصى الصعيد، وهبط أهل عزيزة وأمينة إلى القاهرة، فتستطيع أن تلقاهم إن شئت فقد كنا نسمع أنهم كانوا يقيمون في بولاق قبل أن ينقلهم العمل إلى مدينتنا.
وأنت تعلم من غير شك أن عم حسنين قد انتقل إلى السودان بعد أن عصف الموت ببيته فأذوى منه غصونا وأذبل زهرات، لكنك تجهل أن «حسن كوزو» قد رحل إلى عزبة «المكسرين» وأنت لا تعرف عزبة «المكسرين» فهي قطعة من الأرض منحتها الحكومة لعمال الدائرة السنية الذين عجزوا عن العمل، فهم يقضون فيها ما بقي لهم من حياة.
فأما سيدنا فقد ارتحل إلى حيث لا يئوب المرتحلون وسبقته حماته الشمطاء ذات اللسان الحاد الذي لم يكن يعرف السكون، واستأنفت زوجه الشابة حياتها سعيدة مع ذلك الذي كان يدور حول بيتها كما كان يدور الأحوص حول بيت أم جعفر، وفقدت عالية أم غريب زوجها الضرير، ثم انتقلت مع أبنائها إلى حيث لا يعلم أحد، وطارت أم محمود مع غوي من أهل المدينة، ذهب بها إلى حيث لا ينكر الناس عليه غوايته، ولقيت زنوبة من دهرها شرا ونكرا، فخانها زوجها جهرة بعد أن كان يخونها سرا، وآثر عليها بنت أخيها الفتاة. ثم مضى الدهر في تنكره لها ومكره بها ففقدت بصرها، وعاشت أعواما لا ترى النور، ثم رأفت بها الأيام فأخرجتها من هذا العالم الذي لا يكمل الصفو فيه.
أتريد أن تعلم أكثر مما علمت وأن تحزن أكثر مما حزنت؟ فقد هدم الكتاب هدما، وذهب ما كان حوله من الأشياء ومن كان حوله من الناس.
ناپیژندل شوی مخ