فضحك جورجي قائلا: لا أعد هذا كيدا. - ماذا يفعل الأهل أعظم من ذلك. - يضطهدون حتى الموت. - لا أصدق ذلك. - كم مرة تزوج أبوك؟ - مرة واحدة. - لو تزوج بعد أمك زوجة أخرى لكنت تفهم وتصدق. - فهمت ... فهمت الآن يا جورجي، وقد صدق ظني؛ فقد بليت بكيد عدو، وألد الأعداء المرأة إذا عادت، إذن مصيبتك من زوجة أبيك. - نعم، والويل لمن يتزوج أبوه امرأة بعد أمه. - بالله ماذا استطاعت هذه الزوجة أن تفعل من الشر لك بوجود أبيك؟ - دهورتني ودهورت عائلتي. - عائلتك؟ - نعم، زوجتي وابني وجنين في بطن زوجتي. - بالله كيف تستطيع امرأة أن تفعل ذلك؟ - متى رامت المرأة شرا تخدمها الأقدار. - ماذا فعلت تلك الملعونة؟ - دست أناسا يختصمون معي، فادعوا زورا أني شتمت السلطان، وراموا أن يقتلوني، وما نجوت من بين أيديهم إلا بعد أن طعنت أحدهم طعنة بخنجر وهربت إلى منزل أبي، فأعطاني جوادا ومائة ليرة وقال: «اهرب.» فهربت إلى بلاد اليونان، وبعد ذلك صرت أكاتب أبي، فكان أخي يجاوبني عنه، ففي جوابه الأول قال لي: إن الذي طعنته مات، وإني إذا رجعت لا أسلم من القصاص، وفي جوابه الثاني قال لي: إن امرأتي ماتت مجهضة، وفي جوابه الثالث قال لي: إن ابني مريض مرضا خطرا، كل ذلك كان في بحر عامين، وبعد ذلك كنت أكتب فلا أنال جوابا، فتأكدت أن زوجة أبي دهورت كل عائلتي؛ لكي يخلو الجو لابنها، فقلت: أكون ملعونا إذا ذكرت وطني وأهلي بعد، وقد ضاق بي العيش في بلاد اليونان، فلما شبت الحرب بين تركيا واليونان تطوعت في جيش اليونان؛ بغية أن أقتل، ولكن الله أبى إلا أن يبقيني لأستتم شقائي.
وفي أثناء الحرب أبدلت نمرتي بنمرة جندي قتل جنبي اسمه جورجي آجيوس، فأعلنت نظارة الحربية اسمي بين القتلى، ولعل الخبر بلغ إلى أهلي واعتقدوا أني قتلت، فأنا الآن لست ذاك السوري الذي هرب مضطهدا، بل أنا جورجي آجيوس اليوناني، فهل تنسى منذ الآن هذه الحكاية؟ - أتعهد لك أني لا أذكرها لأحد. - تأكد أنك إذا ذكرتها لأحد حتى لفهيم ذكرت أسرارك التي أعرفها، وأصغرها سر هذا الزواج الكاذب، فحاذر يا جميل حاذر.
فضحك جميل، وقال: إذن لا تخف، إني أتعهد لك بألا أفوه بكلمة لأحد، إن قصتك يا جورجي مؤثرة جدا، أولا تعلم شيئا عن أهلك الآن؟ - لم أعد أسأل عنهم أبدا، ولا أريد أن أتقرب إلى من يعرفهم؛ لأن كرهي لهم شديد جدا. - إنك مظلوم يا جورجي. - ولهذا تعلمت أن أكون شريرا، وإلا ما كنت أوافقك على تمثيل دور الزواج. - ولكن لماذا تصر على كتمان أمرك. - هذا شأن من شئوني فلا تتداخل به.
وهنا انتهى الحديث وافترق المؤتمران على وفاق ولقاء.
ولا بد أن يكون القارئ قد فهم الآن أن جورجي آجيوس هذا هو نفسه الأمير خليل الخزامي، الذي اضطهدته ريمة زوجة أبيه، فهرب إلى بلاد اليونان، وهو أبو يوسف وأبو هيفاء أيضا.
حيلة كأنها صدفة
في اليوم التالي كانت هيفاء منهمكة بعض الانهماك بالاستعداد لزواجها، نقول: بعض الانهماك؛ لأن أمها كانت تهيئ كل شيء وتدبر كل أمر، فاشترت لها الحلي والملابس، ولكن بقي لهيفاء بعض أمور فانشغلت بها في ذلك النهار.
ولما كانت الساعة الثالثة سمعت قرب المنزل تطبيلا وتزميرا، فخرجت إلى الشرفة لترى ما الخبر، وخرجت أمها معها؛ لأنها لم تكن تفتر عن مراقبتها، فرأتا زمرة من الغوغاء يلاعبون قرودا في عرض الشارع.
فقالت نديمة: ألا تزالين ناقصة العقل تستفزك هذه الأضاحيك السخيفة، تعالي. - لقد مللت الشغل اليوم وأود أن أتنشق الهواء النقي وأستريح قليلا، فدعيني وبعد هنيهة أعود.
فعادت نديمة إلى الغرفة، وبقيت هيفاء مطلة، وما هي إلا هنيهة حتى نظرت يوسف براق يمر على اللاعبين، ووقعت عينها على عينه وكادت تفهم من نظرته أمرا، فتتبعته بنظرها حتى رأته توارى وراء الجدار الذي يسور الحديقة المجاورة، وقبل أن ترد نظرها رأت شيئا ارتمى من فوق الجدار إلى الحديقة، ولكنها لم تقدر أن تفهم ما هو، ثم ما لبثت أن رأت يوسف قد ظهر من وراء الجدار، وعاد من وراء اللاعبين وهي تتبعه بنظرها، وتومئ إلى جهة الجدار لتفهمه أنها رأت الشيء الذي ارتمى، ثم رأته توارى.
ناپیژندل شوی مخ