ففكر سليم هنيهة وقال: لا أفهم هذه المصلحة التي تمكنك من ركوب هذا المركب الخشن فما هي؟ قلها لي فما أنا غريب عنك.
فتردد صديق هنيهة، وقال: إنك تطلب مني أن أبوح بسري. - لا بأس، أفما أنا مستودع كل أسرارك؟ - أقسم لي إنك لا تبوح بسري. - أقسمت لا تخف، قل. - لا يخفى عليك أن ليلى ابنة عمتي و... - نعم ما هي ابنة بطرس المراني، بل ابنة زوجته الثانية وما هي أخت نجيب لا من أبيه ولا من أمه، بل من كونها ربيت معه في منزل واحد كالأخت مع الأخ. - نعم، وهل تعرف أباها؟ - أعرف ما تعرفه أنت وهو أن أمها سارة عمتك كانت زوجة رجل يدعى حنا فرزدق، فترملت وليلى طفلة ثم تزوجت بطرس المراني، ولم تعد تلد وكان ابنه نجيب طفلا فربى الزوجان الجديدان الولدين كأخوين. - هذا ما تعرفه أنت ويعرفه كل واحد حتى بطرس المراني وابنه نجيب وليلى، ولكن الحقيقة غير ذلك. - ما هي؟ - هي أن عمتي سارة - رحمة الله عليها - لم تكن أرملة كما نظن، وحكايتها أنها كانت قبلا معلمة لأولاد الأمير إبراهيم الخزامي في دمشق فاستغواها هذا الزنيم، ولما كاد يشتهر حملها أعطاها ثلاثمائة جنيه وردها، فلما عادت إلى أخيها أبي وعلم بمصيبتها لم يقنع بالثلاثمائة جنيه كتعويض لها من رجل غني كذلك الأمير، فذهب إلى دمشق وناقش الأمير بالأمر، فأخذ منه ألف جنيه أخرى، واستكتبه وصية سرية من مقتضاها أن المولود الذي تلده سارة يرث حصة كأولاد الأمير على شرط ألا يظهر الوصية إلا بعد وفاة الأمير، وهكذا حفظ أبي الوصية معه ولم يطلع عليها أحدا حتى ولا عمتي المسكينة؛ لئلا يذاع سرها فيغضب إبراهيم الخزامي وتفسد الوصية، ثم انتقل حينذاك أبي بعائلته وعمتي إلى مصر وادعى أن أخته أرملة وألبسها ثوب حداد، واستعان بالفلوس التي حصلها من الأمير إبراهيم على تزويجها من بطرس المراني، فتزوجها هذا وهو يعتقد أنها أرملة واستعان بفلوسها في أشغاله التجارية، وصادف نجاحا؛ ولهذا تراه يحب ابنتها حتى الآن كحبه لابنه، وبقي هذا السر مكتوما حتى توفي أبي - رحمة الله عليه - ففتحت وصيته فوجدت فيها نص هذه الحكاية، والوصية التي أخذها من الأمير إبراهيم الخزامي، وهو ينصح لي بوصيته أن أتزوج ليلى لأكون شريكها بميراثها، وهو ميراث طائل؛ لأن للأمير إبراهيم ابنين فليلى ترث خمس الثروة والخمس يقدر بنحو مائة ألف جنيه، فهل ألام إذا سعيت إلى الزواج من ليلى بأي الوسائل؟
فبهت سليم لهذه الحكاية الغريبة وقال: لا والله لا تلام، إن مائة ألف جنيه ثروة طائلة وهي في يدك الآن. - وفي يدي وحدي؛ لأن ليلى لا تدري حتى الآن بشيء من ذلك، ولن تدري ولا أحد يدري غيرك. - وهبها درت فلا تصل يدها إلى الوصية. - لا أدعها تدري إلا بعد أن أعدم الحيل بإقناعها، فحينذاك أخبرها بالحقيقة بيني وبينها، وأقول لها: إن المائة ألف جنيه لا تكون لها إلا وهي زوجتي. - حسن. - ولكني قبل ذلك أود أن أستخدم كل الوسائل الأخرى لإقناعها، وأود أن أستعين بك يا سليم ولك مني الجزاء الذي تريده، ولا تظنني كاذبا إذا وعدتك بعشر ذلك المال جزاء. - إني صديقك على كل حال يا ابن العم.
إحياء الموتى
وفي ذات مساء كان يوسف ماشيا في جهات الأزبكية، فشعر بيد وقعت على كتفه فالتفت ورأى الشيخ الملتحي يقول له: لا أظنني غلطانا ، صديق السجن؟ - المسيو جورجي آجيوس؟ - أنا هو يا مسيو براق، توقعت لقاءك مرارا في قهوة الشيشة فلم تأت. - أتيت مرارا فلم أجدك. - لأننا لم نتفق على ميعاد، فأين تريد أن نجلس الآن إذا لم تكن مشغولا؛ لأني مشتاق إليك. - وأنا مشتاق إليك، نجلس في قهوة الشيشة. - ما أكرم خلقك يا مسيو يوسف، لا تريد أن تحرمني بقية لذاتي. - إنها لبشارة حسنة إذا كانت الشيشة بقية لذاتك، ومن بقي يسكر ويقامر. - تركت السكر والقمار للشبان الأغرار، وبقيت أحرص على ما بقي في هذه الشيبة من القوة؛ لأني صرت أحسب للآخرة حسابا. - نعم الحساب، بقي عليك واجب يا مسيو جورجي. - وهو؟ - هو أن تدل هؤلاء الشبان الأغرار على «الآخرة». - دعهم في غيهم يعمهون، لا يتعظ المرء إلا بنفسه، وإذا نصحتهم حولوا النصح إلى مسبة والصداقة إلى عداوة، وأنا لا أزال في حاجة إليهم، وفي صداقتهم نفع لي. - وأي حاجة لك معهم ولا شغل لهم إلا السكر والقمار؟ - لولا سكرهم وقمارهم لكنت في غنى عنهم؛ لأنهم وهم يبذرقون يضطرون إلى الاستدانة تارة والبيع من أملاكهم أخرى، وفي كلتا الحالتين يحتاجون إلى سمسار يتوسط بينهم وبين الدائن أو الشاري، فأنا هو ذلك السمسار.
فاختلج يوسف وقال ممتعضا: لا أريد لك هذه الوظيفة يا مسيو جورجي.
فاستغرب جورجي آجيوس وقال: عجبا لماذا؟ أعظم الدول إذا رامت أن تعقد قرضا أجنبيا وسطت سماسرة في الأمر، فالسمسرة ليست حرفة حقيرة أو دنيئة.
وهنا كانا قد وصلا إلى قهوة الشيشة، فجلسا وقال يوسف: ولكن سمسرتك لأولئك الأغرار غير شريفة، فكأنك تتوسط لهم في خرابهم، فلا أريدك وسيلة إلا للخير.
فضحك جورجي آجيوس وقال: إذا لم أتوسط أنا لهم فيتوسط غيري، وامتناعي أنا وغيري عن الوساطة بينهم لا يقيهم من الدمار؛ لأنهم قد تدمروا من قبل ونحن نساوم الآن على الأنقاض. - عجبا ألا يخطر لهؤلاء أن ثروتهم قد تفرغ قبل أن تفرغ أعمارهم. - كلا؛ لأن أعمارهم فرغت قبل أن فرغت ثرواتهم فهم الآن موتى، وما حاجة الميت إلى الثروة ؟
فأعجب يوسف من أجوبة جورجي أي إعجاب، وقال: وهل يعلم هؤلاء المساكين أنهم موتى؟ - ومتى كان الموتى يحسون حتى يعلموا؟ - إذا كانوا يحيون يعلمون، أفليس في وسعك إحياؤهم؟ - لم أوت قوة عمل المعجزات. - لا أنكر أن الأمر صعب يا مسيو جورجي ولكنه ممكن جدا، ألا تعتقد أنك أنت كنت ميتا فحييت؟
ناپیژندل شوی مخ