58

خرج أبو سفيان في جماعة من قريش يريدون العراق بتجارة، فلما ساروا ثلاثا جمعهم أبو سفيان فقال لهم: إنا من مسيرنا هذا لعلى خطر ما قدومنا على ملك جبار لم يأذن لنا في القدوم عليه، وليست بلاده لنا بمتجر، ولكن أيكم يذهب بالعير، فإن أصيب فنحن براء من دمه، وإن غنم فله نصف الربح؟ فقال غيلان بن سلمة: دعوني إذن فأنا لها، فلما قدم بلاد كسرى تخلق ولبس ثوبين أصفرين، وشهر أمره، وجلس بباب كسرى حتى أذن له، فدخل عليه وبينهما شباك من ذهب، فخرج إليه الترجمان وقال له: يقول لك الملك: ما أدخلك بلادي بغير إذني؟ فقال: قل له: لست من أهل عداوة لك، ولا أتيتك جاسوسا لضد من أضدادك، وإنما جئت بتجارة تستمتع بها، فإن أردتها فهي لك، وإن لم تردها وأذنت في بيعها لرعيتك بعتها، وإن لم تأذن في ذلك رددتها. قال: فإنه ليتكلم إذ سمع صوت كسرى فسجد، فقال له الترجمان: يقول لك الملك: لم سجدت؟ فقال: سمعت صوتا عاليا حيث لا ينبغي لأحد أن يعلو صوته إجلالا للملك، فعلمت أنه لم يقدم على رفع الصوت هناك غير الملك، فسجدت إعظاما له. قال: فاستحسن كسرى ما فعل، وأمر له بمرفقة توضع تحته. فلما أتي بها رأى عليها صورة الملك، فوضعها على رأسه، فاستجهله كسرى واستحمقه، وقال للترجمان: قل له: إنما بعثنا بهذه لتجلس عليها، قال: قد علمت، ولكني لما أتيت بها رأيت عليها صورة الملك فلم يكن حق صورته على مثلي أن يجلس عليها ولكن كان حقها التعظيم، فوضعتها على رأسي لأنه أشرف أعضائي وأكرمها علي. فاستحسن فعله جدا، ثم قال له: ألك ولد؟ قال: نعم. قال: فأيهم أحب إليك؟ قال: الصغير حتى يكبر، والمريض حتى يبرأ، والغائب حتى يؤوب. فقال كسرى: زه، ما أدخلك علي، ودلك على هذا القول والفعل إلا حظك، فهذا فعل الحكماء وكلامهم، وأنت من قوم جفاة لا حكمة فيهم، فما غذاؤك؟ قال: خبز البر. قال: هذا العقل من البر لا من اللبن والتمر. ثم اشترى منه التجارة بأضعاف ثمنها وكساه، وبعث معه من الفرس من بنى له أطما بالطائف، فكان أول أطم بني بها. (62) صورة كتاب أرسله الإسكندر إلى شيخه الحكيم أرسطو يستشيره فيما يفعله بأبناء ملوك فارس بعد أن قتل آباءهم وتغلب على بلادهم (جاهلي)

عليك - أيها الحكيم - منا السلام، أما بعد: فإن الأفلاك الدائرة، والعلل السماوية وإن كانت أسعدتنا بالأمور التي أصبح الناس لنا بها دائنين، فإنا جد واجدين لمس الاضطرار إلى حكمتك، غير جاحدين لفضلك والإقرار بمنزلتك والاستنامة إلى مشورتك والاقتداء برأيك والاعتماد لأمرك وفهمك؛ لما بلونا من إجداء ذلك علينا وذقنا من جنى منفعته، حتى صار ذلك بنجوعه فينا وترسخه في أذهاننا كالغذاء لنا، فما ننفك نعول عليه ونستمد منه استمداد الجداول من البحور، وتعويل الفروع على الأصول، وقوة الأشكال بالأشكال. وقد كان مما سيق إلينا من النصر والفلج، وأتيح لنا من الظفر والقهر، وبلغنا في العدو من النكاية والبطش ما يعجز القول عن وصفه، ويقصر شكر المنعم عن موقع الإنعام به. وكان من ذلك أن جاوزنا أرض سورية والجزيرة إلى بابل وأرض فارس، فلما حللنا بعقوة أهلها وساحة بلادهم لم يكن إلا ريثما تلقانا نفر منهم برأس ملكهم هدية إلينا وطلبا للحظوة عندنا، فأمرنا بصلب من جاء به وشهرته؛ لسوء بلائه وقلة ارعوائه ووفائه، ثم أمرنا بجمع من كان هناك من أولاد ملوكهم وأحرارهم وذوي الشرف منهم، فرأينا رجالا عظيمة أجسامهم وأحلامهم، حاضرة ألبابهم وأذهانهم، رائعة مناظرهم ومناطقهم، دليلا على أن ما يظهر من روائهم ومنطقهم وراءه من قوة أيديهم وشدة نجدتهم وبأسهم ما لا يكون معه لنا سبيل إلى غلبتهم وإعطائهم بأيديهم لولا أن القضاء أدالنا منهم، وأظفرنا بهم، وأظهرنا عليهم، ولم نر بعيدا من الرأي في أمرهم أن نستأصل شأفتهم، ونجتث أصلهم، ونلحقهم بمن مضى من أسلافهم؛ لتسكن القلوب بذلك إلى الأمن من جرائرهم وبوائقهم، فرأينا أن لا نعجل بإسعاف بادئ الرأي في قتلهم دون الاستظهار عليه بمشورتك. فارفع إلينا رأيك فيما استشرناك فيه بعد صحته عندك، وتقليبك إياه بجلي نظرك. والسلام لأهل السلام، فليكن علينا وعليك. (63) إجابة الحكيم أرسطو إلى الملك بعد ديباجة طويلة

إن لكل تربة لا محالة قسما من الفضائل، وإن لفارس قسمها من النجدة والقوة، وإنك إن تقتل أشرافهم تخلف الوضعاء على أعقابهم، وتورث سفلتهم منازل عليتهم، وتغلب أدنياءهم على مراتب ذوي أخطارهم، ولم يبتل الملوك قط ببلاء هو أعظم عليهم وأشد توهينا لسلطانهم من غلبة السفلة وذل الوجوه. فاحذر الحذر كله أن تمكن تلك الطبقة من الغلبة والحركة! فإنهم إن نجم منهم بعد اليوم على جندك وأهل بلادك ناجم، دهمهم منه ما لا روية فيه ولا بقية معه، فانصرف عن هذا الرأي إلى غيره، واعمد إلى من قبلك من أولئك العظماء والأحرار فوزع بينهم مملكتهم، وألزم اسم الملك كل من وليته منهم، واعقد التاج على رأسه وإن صغر ملكه؛ فإن المتسمي بالملك لازم لاسمه، والمعقود التاج على رأسه لا يخضع لغيره، فليس ينشب ذلك أن يوقع كل ملك منهم بينه وبين صاحبه تدابرا وتقاطعا وتغالبا على الملك وتفاخرا بالمال والجند، حتى ينسوا بذلك أضغانهم عليك وأوتارهم فيك، ويعود حربهم لك حربا بينهم، وحنقهم عليك حنقا منهم على أنفسهم، ثم لا يزدادون في ذلك بصيرة إلا أحدثوا لك بها استقامة، إن دنوت منهم دنوا لك، وإن نأيت عنهم تعززوا بك، حتى يثب من ملك منهم على جاره باسمك، ويسترهبه بجندك، وفي ذلك شاغل لهم عنك، وأمان لإحداثهم بعدك، وإن كان لا أمان للدهر، ولا ثقة بالأيام.

وقد أديت إلى الملك ما رأيته لي حظا وعلي حقا من إجابتي إياه إلى ما سألني عنه، ومحضته النصيحة فيه، والملك أعلى عينا، وأنفذ روية، وأفضل رأيا، وأبعد همة فيما استعان بي عليه، وكلفني تبيينه والمشورة عليه فيه. لا زال الملك متعرفا من عوائد النعم وعواقب الصنع، وتوطيد الملك، وتنفيس الأجل، ودرك الأمل ما تأتي فيه قدرته على غاية أقصى ما تناله قدرة البشر! والسلام الذي لا انقضاء له ولا انتهاء ولا غاية ولا فناء فليكن على الملك. (64) إن غدا لناظره قريب

أي لمنتظره، يقال: نظرته، أي انتظرته، وأول من قال ذلك قراد بن أجدع، وذلك أن النعمان بن المنذر خرج يتصيد على فرسه «اليحموم»، فأجراه على أثر عير، فذهب به الفرس في الأرض ولم يقدر عليه، وانفرد عن أصحابه، وأخذته السماء، فطلب ملجأ يلجأ إليه، فدفع إلى بناء فإذا فيه رجل من طيئ يقال له حنظلة ومعه امرأة له، فقال لهما: هل من مأوى؟ فقال حنظلة: نعم، فخرج إليه فأنزله، ولم يكن للطائي غير شاة وهو لا يعرف النعمان، فقال لامرأته: أرى رجلا ذا هيئة، وما أخلقه أن يكون شريفا خطيرا! فما الحيلة؟ قالت: عندي شيء من طحين كنت ادخرته، فاذبح الشاة لأتخذ من الطحين ملة. قال: فأخرجت المرأة الدقيق فخبزت منه ملة، وقام الطائي إلى شاته فاحتلبها ثم ذبحها فاتخذ من لحمها مرقة مضيرة، وأطعمه من لحمها، وسقاه من لبنها، واحتال له شرابا فسقاه، وجعل يحدثه بقية ليلته، فلما أصبح النعمان لبس ثيابه وركب فرسه ثم قال: يا أخا طيئ، اطلب ثوابك، أنا الملك النعمان، قال: أفعل إن شاء الله، ثم لحق الخيل فمضى نحو الحيرة.

ومكث الطائي بعد ذلك زمانا حتى أصابته نكبة وجهد وساءت حاله، فقالت له امرأته: لو أتيت الملك لأحسن إليك، فأقبل حتى انتهى إلى الحيرة فوافق يوم بؤس النعمان، فإذا هو واقف في خيله في السلاح، فلما نظر إليه النعمان عرفه، وساءه مكانه، فوقف الطائي المنزول به بين يدي النعمان، فقال له: أنت الطائي المنزول به؟ قال: نعم ، قال: أفلا جئت في غير هذا اليوم! قال: أبيت اللعن! وما كان علمي بهذا اليوم؟ قال: والله، لو سنح لي في هذا اليوم قابوس ابني لم أجد بدا من قتله، فاطلب حاجتك من الدنيا وسل ما بدا لك، فإنك مقتول، قال: أبيت اللعن! وما أصنع بالدنيا بعد نفسي؟! قال النعمان: إنه لا سبيل إليها ، قال: فإن كان لا بد فأجلني حتى ألم بأهلي، فأوصي إليهم وأهيئ حالهم ثم أنصرف إليك، قال النعمان: فأقم لي كفيلا بموافاتك، فالتفت الطائي إلى شريك بن عمرو بن قيس من بني شيبان، وكان يكنى أبا الحوفزان، وكان صاحب الردافة، وهو واقف بجنب النعمان، فقال له:

يا شريكا يابن عمرو

هل من الموت محالة؟

يا أخا كل مضاف

يا أخا من لا أخا له

ناپیژندل شوی مخ