ادب او ژوند

محمد عناني d. 1443 AH
72

ادب او ژوند

الأدب والحياة

ژانرونه

لا تشتر العبد إلا والعصا معه

إن العبيد لأنجاس مناكيد

والقصيدة مشهورة ومعروفة لكل من قرأ التراث العربي؛ ولذلك فهي تدل دلالة أكبر من مئات القصائد وعشرات الأسماء التي يوردها الثعالبي في يتيمة الدهر، على فساد القيم التي نستقيها من التراث الأدبي فندرجها في الحاضر دون وعي بأنها تاريخ باد وانقضى! إن الشعر جميل ولا شك، ولكنه كاذب! وربما كان أعذب الشعر أكذبه، وربما كان أعذب التراث كذلك - ولكن مرامنا الآن مفهوم القوة وصورة المرأة، ولكل منهما حديث مستقل.

مفهوم القوة

إلى عهد قريب كان مفهوم القوة المادية بشريا؛ أي يعتمد على الإنسان نفسه جسما ونفسا، وما زال هذا المفهوم قائما إلى حد ما في ريف مصر حيث يفرح الأب بأبنائه الذكور باعتبارهم مصدر قوة يسمونها في الريف «عزوة»، وما زالت بعض البلدان تفرح بكثرة الرجال باعتبارهم مورد قوة ومصدر منعة، ولكن الحال قد اختلف في بلدان العالم المتقدمة على مدار القرن العشرين الذي يوشك أن يطوي صفحته، فأصبحت القوة لا تقاس بضخامة الجسم ولا بالعضلات المفتولة ولا بالكثرة العددية، بل أصبحت تقاس بمعايير جديدة تستند إلى ما أتت به العلوم الحديثة من فنون القتل والدمار، وما تعتمد عليه من معلومات يحصل عليها من يريد الغلبة بشتى الطرق المشروعة وغير المشروعة، وأصبح معيار القوة هو إمكان تدمير آلات الحرب الجبارة، أو كشف خطط القتال لإفسادها قبل وقوعها، وإدراك النوايا لإحباطها ومنع تحقيقها، فتلت الحرب الساخنة ألوان من الحرب الباردة، استخدمت فيها فنون التهديد وفنون الإرهاب والتخويف؛ أي فنون الحرب النفسية والضغوط الاقتصادية، وكل هذا بإيجاز في إطار العلوم الطبيعية الحديثة التي لم يكن آباؤنا وأجدادنا يحيطون بشيء منها.

وفي إطار المعاني الجديدة للقوة، اختلف معنى الشجاعة، واختلف معها عدد لا يحصى من القيم التي كان أجدادنا يحرصون عليها؛ مثل الشهامة والمروءة، والنجدة والرحمة، فإذا كان مفهوم القوة تجرد من المنازلة الجسدية المباشرة حيث كان الأبطال يلتقون في حومة الوغى ويلتحمون في القتال المباشر؛ فإن الشجاعة أصبحت قيمة نفسية تتحول إلى تدبير علمي مجرد من هذه القيمة النفسية ذاتها؛ أي إن الذي يضع خطة قذف مكان ما بالقنابل قد يكون خلوا من الشجاعة، بل قد يكون جبانا رعديدا، بل إن واضع خطط الحرب قد يفتقر هو نفسه إلى العنصر البشري بإطلاقه، فقد يكون حاسبا آليا أصم، وقد يتكون من مجموعة من الآلات الحاسبة التي يديرها شيخ هرم خائر القوى، أو امرأة لا شأن لها بالضرب والطعان! القائد السياسي الذي يتخذ قرار الحرب لا يستطيع اليوم أن يتصور وهو في مكتبه محاطا بمستشاريه وأعوانه مدى المعاناة التي يمكن أن يتعرض لها من لا ناقة له ولا جمل في تلك الحرب! فأمامه أرقام وخلفه أرقام، وعن يمينه أوراق وعن شماله أوراق، وينطبق نفس القول على المقاتل الذي يطلق النار على العدو؛ فهو يركز اهتمامه على آلة من حديد ونحاس، والعدو في نظره ليس إنسانا بقدر ما هو هدف محدد أمر بتدميره! وهكذا فإن غياب عنصر التلاحم البشري والاشتباك الجسدي قد حول مفهوم القوة إلى أشكال تجريدية يدركها العقل ويعيها دون أن تصل إلى أعماق النفس فتهزها وتثيرها.

ولذلك فالإنسان العربي الذي نشأ في كنف التراث وتشربه حتى تمكن منه، لا يستطيع مهما كان الحال أن يرى صورة القوة القديمة حية مجسدة ويظل مفهوم الشجاعة المرتبط بهذه الصورة القديمة حائرا لا يقر به قرار؛ وهو من ثم لا يستطيع أن يفهم ما يرتبط بمفهوم الشجاعة من شهامة تتجلى في لحظة العفو عند المقدرة، أو من مروءة تتجلى في تقديم العون لأسير وقع في الميدان، أو من نجدة تدفعه إلى غوث ملهوف أعلن توبته، وما إلى ذلك؛ فالعربي ابن اليوم في أعماقه عربي من أبناء الأمس، وعندما نشهد سلوكا محيرا لابن اليوم فينبغي أن نغوص إلى الأعماق حتى نسأل الإنسان الكامن في داخله عن سر هذا السلوك!

وأنصع مثل على المواجهة بين الماضي والحاضر نجدها في كتاب الشيخ أحمد الرمال بن زنبل، وعنوانه وقعة الغوري والسلطان سليم وما جرى بينهما، وقد وضعه في القرن السادس عشر الميلادي؛ أي العاشر الهجري، ونشر جزء منه في أوائل القرن العشرين في الأستانة، ثم نشر بأكمله في القاهرة عام 1962م بتحقيق عبد المنعم عامر. ويدور الكتاب برمته عن مفهومين للقوة وما يتصل بها من قيم؛ إذ ينعي المؤلف في ثنايا الكتاب على العثمانيين ضعفهم وجبنهم وخورهم ونقص همتهم، ويعلي من شأن المماليك لتحليهم بصفات الأجداد مما أشرت إليه آنفا، وتتجسد المقابلة بين المذهبين في اللقاء بين كرتباي الوالي وبين السلطان سليم بعد أن قبض عليه وأتي به أسيرا، ويورد لنا الشيخ الرمالي جانبا من الحوار بينهما وما يقوله الأمير كرتباي بالحرف الواحد، وفيما يلي جانب منه: «اسمع كلامي وأصغ إليه حتى تعلم أنت وغيرك أن منا فرسان المنايا والموت الأحمر؛ فأمر عسكرك أن يتركوا ضرب البندق فقط، وها أنت معك مائتا ألف فارس من جميع الأجناس، وقف مكانك وصف عسكرك، ويخرج لك منا ثلاثة أنفار: عبد الله والفارس الكرار السلطان طومان باي والأمير علان. وانظر بعينك كيف يفعل هؤلاء الثلاثة تبقى تعرف روحك إن كنت ملكا أو يصلح لك أن تكون ملكا، فإن الملك لا يصلح إلا لمن يكون من الأبطال المجنورة، كما كان عليه السلف الصالح رضي الله عنهم، فانظر في التواريخ» (ص58 من طبعة القاهرة).

ثم يستمر قائلا في سياق مهاجمته: «استخدم البنادق بدلا من السيوف.» «وهذه هي البندق التي لو رمت بها امرأة لمنعت بها كذا وكذا إنسانا، ونحن لو اخترنا الرمي بها ما سبقتنا إليه، ولكن نحن قوم لا نترك سنة نبينا محمد، ويا ويلك كيف ترمي بالنار على من يشهد لله بالوحدانية ولمحمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة؟!» (نفس المرجع.)

وهذه الأفكار الخاصة بفلسفة الحرب والحكم لدى المماليك ليست مجرد أفكار عابرة يمكن تصحيحها وتصويبها حتى تستقيم الحياة، ولكنها ظواهر للعيش في الماضي بعد أن تغير الزمن واخترعت البندقية، وكان لا بد أن تستجيب أذهان المماليك للتغير، ولكن تفكيرهم ظل مقصورا وخصوصا فيما يتصل بمفهوم الحكم؛ فهم يتصورون أنه لا بد أن يقوم على الغلبة؛ أي على القوة الغاشمة كما يشرح ذلك ابن خلدون في المقدمة باعتبار أن الغلبة أول مراحل الملك، ومعنى ذلك باختصار: أن المماليك وقفوا في تفكيرهم عند المرحلة الأولى، ولم يكملوا قراءة ابن خلدون الذي كان قد توفي في مطلع القرن السابق (الخامس عشر)! ومعنى إساءة فهمهم للتراث ترحيبهم بسيادة منطق القوة والاستبداد والقهر مما يتناقض مع الإشارة في نفس الفقرة إلى السلف الصالح وإلى سنة النبي عليه الصلاة والسلام! ومعناه إذن فساد التفكير أي فساد المنهج، وفساد المنهج يؤدي إلى الخطأ القاتل الذي يرتكبه المماليك في رفضهم استخدام البنادق، وانظر ما كان من شأن السلطان الغوري الذي يمتدحه الجميع اليوم باسم التراث ويترحمون على أيامه. يقول الشيخ الرمال: «وقد جاء بهذه البندقية رجل مغربي للسلطان الملك الأشرف قانصوه الغوري، رحمه الله تعالى، وأخبره أن هذه البندقية ظهرت من بلاد البندق، وقد استعملها جميع عساكر الروم والعرب، وهي هذه، فأمره أن يعلمها لبعض مماليكه ففعل، وجيء بهم فرموا بحضرته فساءه ذلك. وقال للمغربي: نحن لا نترك سنة نبينا ونتبع سنة النصارى، وقد قال الله:

ناپیژندل شوی مخ