وفي مارس 1961م اشتركت في فريق الترجمة في مؤتمر دولي لأول مرة في حياتي وكان الأجر اليومي للمترجم التحريري خمسة جنيهات (مهما بلغ عدد الصفحات المترجمة أو عدد الساعات)، وسبعة جنيهات للمترجم الفوري، ارتفعت بقرار استثنائي عام 1964م إلى ثمانية للتحريري وعشرة للفوري (في مؤتمر منظمة الوحدة الإفريقية في يوليو 1964م ومؤتمر قمة عدم الانحياز في أكتوبر 1964م)، وكنت قد ترجمت عددا من الكتب آنذاك تقاضيت عن بعضها خمسة وعشرين جنيها، والبعض الآخر ثلاثة وأربعين (فنون الجنس البشري، الرجل الأبيض في مفترق الطرق، درايدن والشعر المسرحي، حول مائدة المعرفة)، وكان أكبر أجر تقاضيته عن ترجمة شكسبير «حلم ليلة صيف، 1964م؛ وروميو وجوليت، 1965م » وهو خمسون جنيها كاملة!
ودار الزمان وعدت إلى القاهرة بعد عشر سنوات في إنجلترا عملت أثناءها بالترجمة بعض الوقت، وعرفت مدى تقدير الأجانب للمترجم وفئات أجور الترجمة في أوروبا وفي العالم العربي (حتى البلدان الفقيرة منه)، ولكنني وجدت نفس القانون «القرار الجمهوري» مطبقا في مصر! ولم أعجب أول الأمر؛ فقد كانت القوة الشرائية للجنيه لا تزال معقولة ولكن السبعينيات الأخيرة أثبتت ضرورة التغيير، وبالفعل صدر قرار جمهوري جديد عام 1978م يضاعف الأجر ثلاث مرات، فوصل أجر الكلمة إلى ستة مليمات للمترجم وثلاثة مليمات للمراجع. ومضت السنون وارتفع أجر المترجم في المؤتمرات الدولية إلى 25 جنيها في اليوم، ثم إلى خمسين ثم إلى مائة، ولا تزال الأجهزة الحكومية حتى هذه اللحظة تعمل بقرار عام 1978م!
لقد أوصت لجنة الترجمة بالمجلس الأعلى للثقافة منذ ما يزيد على ثلاثة أعوام بأن يكون أجر الكلمة ستة قروش، ووافق جميع المسئولين على هذه التوصية التي ظلت تتصاعد حتى وصلت إلى الباب الذي لا يلجه إلا مسئول أكبر! ولعدة أعوام توقفت حركة الترجمة أو كادت - إلا ما يتم بمبادرات فردية أو عن طريق أجهزة غير حكومية - وما زلنا في هيئة الكتاب نكافح كفاح المستميت لإقناع المترجمين الأكفاء بالترجمة وهم عنا عازفون؛ فمن ذا الذي يقبل ملاليم السبعينيات ونحن على مشارف التسعينيات؟ وكيف تقنع مترجما ضليعا أن يقنع بجنيهات معدودة وأمامه أبواب الأمم المتحدة ودور النشر الأجنبية تدفع له الأجر المجزي العادل؟
وتتمثل خطورة الوضع الحالي في أمرين: أولهما عدم تقدير قيمة الترجمة باعتبارها نشاطا ثقافيا أساسيا وتجاهل دورها في إثراء الفكر العربي، بحيث تخلفنا سنوات بل وعقودا طويلة عن علوم العصر وآدابه وفنونه، ويكفي أن نذكر كلمة التخلف مرة ثانية حتى نتصور فداحة استمرار هذا الحال. أما الثاني فهو أن نعتمد على ما يأتينا من ترجمات منشورة في بلدان أخرى - ترجمات سيئة تفتقر إلى الدقة، وتتسم بركاكة في الأسلوب وانحطاط في العربية، ولا غرو إذ يقوم بها غير المتخصصين وتنشرها دور لا تبغي إلا الربح ولا تأخذ في اعتبارها إلا متطلبات السوق أولا وأخيرا، فنجد أننا مضطرون إلى شرائها «مفوضين أمرنا لله» رغم ارتفاع أسعارها وعدم تلبيتها لمطالب قرائنا.
إن مشروع الألف كتاب «الثاني» الذي تصدره الهيئة العامة للكتاب يعمل جاهدا على سد الفجوة في الترجمة، ولكن العقبة الأساسية لا تزال الملاليم، و«ملاليم» في اللغة نكرة ممنوعة من الصرف في المصارف والحياة! فمتى تستبدل بها القروش المصروفة؟
رحلة الذات في الزمن
كنا قد شاهدنا لتونا مسرحية «أيام زمان» للكاتب الإنجليزي «هارولد بنتر» حين قررنا نحن الأربعة - سمير سرحان وزوجته نهاد جاد، وأنا وزوجتي نهاد صليحة - الرحيل في اليوم التالي من لندن إلى مدينة برايتون على ساحل القنال الإنجليزي، وبالفعل تقابلنا في صباح اليوم التالي في محطة القطار، وبعد ساعة أو بعض ساعة كنا على الشاطئ نسير صامتين وقد استغرق كل منا في تأملاته عن المسرحية. كنت قد انتهيت من كتابة ثلاثة فصول من رسالة الدكتوراه (في صيف 1971م)، وكان الفصل الثالث يتناول مسرحية للشاعر الإنجليزي الأشهر «وليم وردزورث» هي «سكان الحدود» التي تأثر فيها بالشاعر الألماني «شيلر»، وكانت نقطة انطلاقي في تحليلها هي تغير صورة الذات في الزمن، وهي الفكرة التي لم يتطرق إليها «شيلر» في مسرحية «اللصوص» وتطرق إليها كولريدج في مسرحية «الندم».
وبعد ساعة من الصمت وتأمل البحر الذي كان ساجيا صامتا؛ قالت نهاد جاد: «ألا يحاول بنتر في مسرحيته أن يفعل مثل شاعرك «وردزورث»؟ إن الصراع في المسرحية يكمن في التناقض بين صور الشخصيات في الحاضر وصورها في الماضي.» وكأنما سطع الضوء فجأة فأنار جوانب المسرحية المحيرة. كنت أتصور أنها مسرحية صراع بين مفهوم الذات لدى الشخصية المحورية، ومفهومها لدى الشخصيات الأخرى بعد مضي فترة يتعرض فيها هذا المفهوم للتغير. ورغم أنني لم أكن قد ابتعدت كثيرا عن تفسير نهاد جاد؛ فإن كلماتها الموجزة حسمت الأمر.
لم تكن نهاد جاد تزعم أنها ناقدة محترفة، على كثرة ما كتبت من نقد بديع، ولم تكن تدعي لنفسها صفة الكاتب المسرحي المحترف، على عظمة ما كتبت من مسرح، وكانت دائما تقول إنها ممن يكتبون من باب الهواية - من باب عشق الأدب وعشق الفن - دون أن تجعل منه مهنة أو حرفة، ودون أن تستخدم مناهج نقد المحترفين ، أو تسعى لمحاكاة صنعة المحترفين، وإن كنت أعتقد دائما أن الفن الصادق ابن الهواية وأن أصدق الفنانين هم الهواة.
وطلبت من نهاد جاد أن تقول المزيد عن «أيام زمان»، ولكنها لم تضف إلا عبارات محدودة مست جوهر المسرحية ونفذت إلى أعماقها، وإن بدا صوتها ونحن نسير على شاطئ البحر كأنما يأتي من بعيد؛ كانت تتأمل السفن التي تكاد تختفي خلف الأفق، والمد وهو يعلو خلف الصخور، وتعلق بين الحين والحين على حوارنا دون أن تشارك فيه برأي قاطع.
ناپیژندل شوی مخ