وكم كانت دهشتي عندما انتقلت إلى القاهرة عام 1954م وكتبت أحد موضوعات الإنشاء التي كنت أجيدها فوجدت أحد زملائي في الفصل وهو الأستاذ أحمد السودة يسخر منه باعتباره إنشاء! كان أستاذنا الدكتور عبد الرءوف مخلوف قد انتهى من رسالة الماجستير آنذاك، وكانت عن كتاب العمدة لابن رشيق، وكان من المعجبين باللغة التي أكتبها - ولم أفهم سر اعتراض صديقي على الإنشاء! أولسنا مطالبين بالإنشاء؟ وهل الأدب سوى إنشاء؟ لم أكن أدري حين ذاك أن طه حسين قد نقض ذلك قبل نيف وثلاثين عاما في مقدمته لكتاب «فجر الإسلام» لأحمد أمين، ولم أكن أدري أن في الدنيا أدبا يستخدم لغة مشتركة تتجاوز البلاغة والفصاحة، وتستخدم مفردات أخرى ومعايير أخرى، ولا تقوم على عبقرية البيان وحدها!
وعندما دار الزمان وتخصصت في الأدب الإنجليزي حدث عكس ما كنت أتوقع؛ إذ وجدتني أعود إلى الأدب العربي فأجد العجب! إن روائع أدبنا العظيم يحجبها عن عيوننا تراث هائل من كتابات عصر الانحطاط وهو عصر طال فأمعن في الطول! أمامي الآن كتاب يتضمن رسائل بديع الزمان الهمذاني يقول في مقدمته الناشر: إنه أعظم ما تفتحت عنه قريحة السلف. وأذكر أنني كنت مطالبا منذ عدة سنوات بإعداد عروض لبعض كتب التراث التي حددت سلفا لي - وكان من بينها كتاب الأبشيهي، وعنوانه «المستطرف في كل فن مستظرف» - ووجدتني أكتشف كيف سادت فكرة الإنشاء قرونا وقرونا حتى انحصر الأدب في التمارين اللغوية، وحيث ولدت هذه الفكرة معايير خاصة تشكل في مجموعها مؤسسة أدبية لها قوانينها وقواعدها، بحيث حجبت عن عيون دارسي العربية «اللغة الأدبية المشتركة» - لغة الإنسان - التي يتكلمها الناس في كل مكان، بغض النظر عن لغة الألفاظ التي تختلف من بلد إلى بلد!
إن الواحات التي أرتادها اليوم في هجير الحياة هي واحات هذه اللغة المشتركة، تلك التي لم تمنع الأدب الروسي مثلا من أن يصبح أدبا إنسانيا عالميا؛ لأنه يستخدم تلك اللغة رغم أننا نقرؤه بالإنجليزية! وما زلت أذكر اليوم الذي قرأت فيه قصة تشيخوف «العنبر رقم 6» في ترجمتها الإنجليزية لأول مرة ذات يوم من أيام الصيف عام 1963م، ولم أستطع أن أصبر على انفعالي بها فأهرعت إلى منزل صديقي سمير سرحان، ودفعت إليه بالكتاب في ساعة مبكرة من ساعات الصباح وتركته وخرجت، وفي المساء التقينا في مقهى بالجيزة (امتدت إليه يد الهدم الآن) وكان قد أصابه نفس انفعالي فلم نتبادل أي حوار. كان كل ما قاله هو إنه سيحتفظ بالكتاب؛ ليقرأ بقية القصص، غير آبه باعتراضي على ذلك! وسرنا على النيل في صمت ذلك المساء، وقد استغرق كلا منا ذلك الحذق الخارق الذي يتميز به تشيخوف لحالة في تصويره من حالات النفس البشرية وهي تنزلق من عالم الأسوياء إلى عالم المجانين. وأعتقد أن هذه الواحة كانت قد بعثت إلي الحياة عندما رأى صديقي بعد عشرين عاما الإعداد المسرحي الذي قام به سمير العصفوري لهذه القصة، وأخرجها لمسرح الطليعة بعنوان «في زنزانة المجانين». كانت صورة العمل الأدبي قد اختلفت؛ فهي الآن مسرحية وهي باللغة العربية، بل وبلغة المسرح التي لم تكن تستخدم الألفاظ كثيرا، ولكنها كانت عملا أدبيا إنسانيا عاملا يستخدم «اللغة المشتركة»!
إن طريقنا إلى العالمية لا بد أن يتجه إلى اكتشاف هذه اللغة المشتركة في أدبنا العربي القديم والحديث، بعد أن نتخلص نهائيا من فكرة المساواة بين البلاغة القديمة والأدب!
عن الأجيال الأدبية
تواصل الأجيال
في فترة لم يبعد العهد بها دار حوار هادئ في الصحف القومية حول ما أطلق عليه البعض صراع الأجيال الأدبية، وأعترف إنني عندما اشتركت في هذا الحوار الذي نادرا ما احتد أو احتدم مع بعض الشوامخ من كتاب العصر وأساتذته، كنت منساقا بحماس شباب يوشك أن يولي، وغير مدرك لخطأ منهجي كنت قد وقعت فيه قبل ربع قرن في سياق دراستي للشاعر الإنجليزي «جون كيتس» وهو ما أسماه أستاذنا الدكتور مصطفى سويف «الخلط بين العمر الزمني والعمر الفني».
عاد إلى ذهني ذلك الخطأ، وعادت المناقشة التي دارت بيننا بتفاصيلها الدقيقة ذات مساء أثناء رحلة إلى أسوان، وكان في المقصورة معنا د. رشاد رشدي ود. لطيفة الزيات ود. فاطمة موسى، وكنا نحن الثلاثة - «سمير سرحان» و«عبد العزيز حمودة» وأنا - ما زلنا معيدين نحضر لدرجة الماجستير حين تطرق الحديث إلى التفتح المبكر لعبقرية الشاعر كيتس الذي كتب أروع قصائده وهو في أوائل العشرينيات (وتوفي في الخامسة والعشرين) ومدى علاقته بمعاصريه من جيل الرومانسيين الأوائل، وأذكر حماسي لفكرة الهوة بين الأجيال متأثرا بما قرأته عن تأثر كيتس بميلتون وشيكسبير، لا بوردزورث وكولر بدج - وكيف نبهني د. سويف إلى ضرورة الفصل بين العمر الزمني الذي يربط بين المعاصرين وبين العمر الفني الذي يمتد عبر الأجيال؛ ليقيم وشائج بين أدباء الماضي والحاضر، وأذكر الآن أن هذه الفكرة قد صاحبتني إلى إنجلترا حين قرأت كتابا من تأليف العالمة النرويجية «ثورا بالسليف» يرصد تأثير وردزورث على كيتس، وكيف أنني انتقدته في ضوء الخطأ الذي كنت قد وقعت فيه قبل عامين!
وربما لم أكن ملوما وحدي على هذا الخطأ الذي عدت إليه في الكهولة؛ إذ استدرجني وزملائي إليه مقال مثير للكاتب الكبير (والمشاغب الأكبر) يوسف إدريس، أشار فيه إلى أنه ينتمي إلى آخر جيل عبقري تخرجه مصر! وشجعني على أخذ كلامه مأخذ الجد ما نشر من أحاديث للمسرحي العظيم نعمان عاشور وشيخ الفلاسفة زكي نجيب محمود - غير واع بأن الخطأ المنهجي يخفي أيضا تصورا خاطئا لا يصح لي أن أقبله - فالتسمية قد تعني ما يسمى في اللغات الأوروبية بالفجوة بين الأجيال، أي عدم قدرة جيل ما على تفهم جيل لاحق أو ثورة جيل جديد على الأنماط الفكرية للجيل الذي سبقه، ولكن هذا المفهوم الاجتماعي الصرف لا يمكن تطبيقه على الأدب إلا في أضيق الحدود؛ لأن تاريخ الأدب لا تتحدد مراحله أو مدارسه أو حركاته أو اتجاهاته بالتقسيمات الزمنية، وما التواريخ التي نضعها إلا حدودا مصطنعة تعين الدارس على رصد الظواهر وتذكرها، وإذا كانت القرون حدودا زائفة فما بالك بالأجيال؟! ولقد سبق لي أن عرضت في «الأهرام» نظرية «الدورات الأدبية» التي يفضي بعضها إلى بعض ويأخذ بعضها برقاب بعض، ومعنى هذا بطبيعة الحال ضرورة النظر إلى الأدب باعتباره كائنا يتمتع بحياة دائمة متواصلة، وإن اختلفت أشكاله وتعددت صوره، ومعناه أيضا أن حركة ما من الحركات الأدبية لا تنتهي تماما عندما تحل موجة جديدة، حتى وإن بدت مناقضة لها في اتجاهها الفكري أو في أشكالها الفنية، بل إنها حتى حين تناقضها تزيد من الوعي بها حتى تكتمل الدورة ويحين موعد عودة الحركة الأولى، بينما نرى أن ما كان موجة جديدة قد أصبح اتجاها قديما يظل كامنا حتى يحين موعد بعثه.
ومعنى هذا أيضا أن الاتجاه الأدبي - أيا كان لونه - لا يموت أبدا، بل يظل يومض خلال الرماد حتى تعود وقدته الأولى، ولكنه حين يعود يكون قد تلون بما ساد المجتمع من اتجاهات أخرى تؤثر في لون اللهب الجديد وتتحكم في حدة ضرامه. ولنضرب مثلا لهذا بضربين من ضروب الرومانسية؛ الأول عربي عريق، والثاني أوروبي حديث. أما الأول فقد صاحب تاريخ الأدب العربي على امتداده، يلتهب في كل فترة من فترات الفوران الاجتماعي والفكري، ويخبو في كل فترة خمود وثبات وجمود، وهو كلما عاد اختلفت صورته، حتى حين كان يبدو لغير المتمعن أنه «إحياء» أو «بعث» للماضي وحسب. وأما الثاني فقد صاحب كل نهضة فكرية في أوروبا، وارتبط أحيانا بالثورة والتحرر أو بالمثالية أو الفردية أو بالنزوع إلى الخيال، ولكنه كان دائما يستند إلى ما استند إليه الاتجاه العربي من إيمان بقدرة الذهن على قهر الظواهر وبقدرة القلب على استيعاب الوجود.
ناپیژندل شوی مخ