شدت جفنيها لتفتح عينيها عن آخرهما، وظل المشهد كما كان، لم يتغير، تحسست بكفها جلبابها، فوجدته ناعما كالحرير، ومن فتحة الثوب سرت إلى أنفها رائحة المسك أو العطر الطيب.
ورأسها ثابت فوق عنقها، وعيناها أيضا ثابتتان، خشية أية حركة من الجفن، فيتغير المشهد أو يتلاشى كما كان يتلاشى.
واستطاعت رغم الثبات أن ترى بطرف عين الظل الممدود إلى ما لا نهاية، الشجر الأخضر، ومن بين جذوع الشجر البيت من الطوب الأحمر كالقصر، والسلم الرخام يقود إلى حجرة النوم.
ظلت ثابتة في مكانها لا تقوى على التصديق، ولا تقوى أيضا على التكذيب، ولا شيء يضنيها مثل تكرار الحلم، وأنها ماتت ثم صحت ووجدت نفسها في الجنة. وكان الحلم يبدو لها مستحيلا؛ لأن موتها يبدو كالمستحيل، وصحيانها بعد الموت أكثر استحالة، وذهابها إلى الجنة هو المستحيل الرابع.
ثبتت عنقها أكثر، وبزاوية عين حملقت في الضوء، لا زال المشهد هو هو لم يتغير، ولا زال البيت بالطوب الأحمر كبيت العمدة، والسلم العالي يقود إلى حجرة النوم، والحجرة غارقة في الضوء الأبيض، ونافذة تطل على الأفق البعيد، وسرير عريض تدور حول أعمدته ستائر من الحرير.
أصبح الأمر حقيقيا غير قابل للتكذيب، ولكنها لا تزال في مكانها تخشى الحركة وتخشى التصديق، فهل من المعقول أن تموت وتصحو بهذه السرعة، ثم تذهب إلى الجنة ؟
والشيء الذي لا تصدقه في كل هذا هو السرعة فقط، فالموت سهل، وكل الناس تموت، وموتها هي بالذات أسهل من موت أي أحد، فهي عاشت حياتها بين الموت والحياة، أقرب إلى الموت منها إلى الحياة. وأمها حين ولدتها رقدت عليها بكل ثقلها حتى ماتت، وأبوها ضربها على رأسها بالفأس حتى ماتت، وحمى النفاس بعد كل ولادة حتى البنت الثامنة، وضربة قدم الزوج في قاع بطنها، وضربة الشمس في النافوخ تحت عظام الرأس. حياتها كانت صعبة، والموت عندها أسهل، وأسهل منه الصحيان بعد الموت، فلا أحد يموت ولا يصحو، وكل الناس تموت وتصحو، إلا الحيوان، فهو حين يموت يظل ميتا.
وذهابها إلى الجنة أيضا وارد، وإذا لم تذهب هي إلى الجنة فمن يذهب؟ وفي حياتها كلها لم تفعل شيئا واحدا يغضب الله أو الرسول، حتى أطراف شعرها الأسود المجعد، كانت تلفها بفتلة من الصوف على شكل ضفيرة، والضفيرة تلفها بمنديل الرأس الأبيض، والرأس تلفه بالطرحة السوداء، ولا شيء يظهر من تحت جلبابها إلا طرف كعبيها، وفي كل حياتها منذ ولدت حتى ماتت لم تعرف غير كلمة حاضر.
قبل الفجر حين تلكزها أمها وهي راقدة، لتحمل السباخ فوق رأسها، لا تعرف إلا حاضر. وإذا ربطها أبوها في الساقية بدل البقرة المريضة لا تقول إلا حاضر. وزوجها لم ترفع عينيها في عينه مرة واحدة، وحين يرقد فوقها وهي مريضة بالحمى لا تنطق إلا حاضر.
وفي كل حياتها أيضا لم تسرق ولم تكذب، وإذا جاعت أو ماتت من الجوع فلا يمكن أن تمد يدها إلى طعام غيرها، وإن كان هو أباها أو أخاها أو زوجها. وكانت أمها تلف الطعام لأبيها في رغيف، وتجعلها تحمله إلى الحقل فوق رأسها، وطعام زوجها أيضا، كانت تلفه أمه في رغيف. وتراودها نفسها وهي سائرة في منتصف الطريق أن تتوقف تحت ظل شجرة وتفتح الرغيف، لكنها في كل حياتها لم تتوقف مرة واحدة، وفي كل مرة تراودها نفسها تستعيذ بالله من الشيطان، حتى يبلغ بها الجوع مداه، فتقطع من جانب الطريق عود سريس أو جعضيض، تمضغه تحت أسنانها كاللبان، ثم تبتلعه مع حفنة ماء تملؤها كفها من حافة الترعة وتشرب حتى ترتوي، ثم تمسح فمها في كم جلبابها، متمتمة بصوت خافت: الحمد لله، ثلاث مرات ترددها، الحمد لله، وخمس مرات في اليوم تركع، ووجهها على الأرض، وتشكر الله، وإذا أصابتها الحمى واحتقن رأسها بالدم كالنار لم تذكر إلا الله. وأيام الصيام تصوم، وأيام العجين تعجن، وأيام الدودة تلم الدودة، وأيام العيد ترتدي الحداد وتذهب إلى القرافة.
ناپیژندل شوی مخ