الادب الصغير
الأدب الصغير
خپرندوی
دار صادر - بيروت
الأدب الصغير
بسم الله الرحمن الرحيم
قال ابن المقفع:
أما بعد، فإن لكل مخلوق حاجة، ولكل حاجة غاية، ولكل غاية سبيلا. والله وقت1 للأمور أقدارها، وهيأ إلى الغايات سبلها، وسبب2 الحاجات ببلاغها.
فغاية الناس وحاجاتهم صلاح المعاش والمعاد3، والسبيل إلى دركها4, العقل الصحيح, وأمارة5 صحة العقل اختيار الأمور البصر6، وتنفيذ البصر بالعزم.
مخ ۱۱
الأدب ينمي العقول
وللعقول سجيات وغرائز1، بها تقبل الأدب، وبالأدب تسمى العقول وتزكو.
فكما أن الحبة المدفونة في الأرض لا تقدر أن تخلع يبسها، وتظهر قوتها، وتطلع فوق الأرض بزعوتها وزيعها2، ونضرتها ونمائها، إلا بمعونة الماء الذي يغور إليها في مستودعها، فيذهب عنها أذى اليبس والموت، ويحدث لها بإذن الله القوة والحياة، فكذلك سليقة3 العقل مكنونة في مغرزها من القلب: لا قوة لها، ولا حياة بها، ولا منفعة عندها، حتى يعتملها4 الأدب، الذي هو ثمارها، وحياتها، ولقاحها.
وجل الأدب بالمنطق، وجل المنطق بالتعلم، ليس منه حرف من حروف معجمه، ولا اسم من أنواع أسمائه، إلا وهو مروي، متعلم، مأخوذ عن إمام سابق، من كلام أو كتاب.
وذلك دليل على أن الناس لم يبتدعوا أصولها، ولم يأتهم علمها إلا من قبل العليم الحكيم.
فإذا خرج الناس من أن يكون لهم عمل أصيل، وأن يقولوا قولا
مخ ۱۲
بديعا، فليعلم الواصفون المخبئون أن أحدهم، وإن أحسن وأبلغ، ليس زائدا على أن يكون كصاحب فصوص1؛ وجد ياقوتا، وزبرجدا ومرجانا، فنظمه قلائد وسموطا2 وأكاليل، ووضع كل فص موضعه، وجمع إلى كل لون شبهه، وما يزيده بذلك حسنا، فسمي بذلك صانعا رفيقا، وكصاغة الذهب والفضة، صنعوا منها ما يعجب الناس من الحلي والآنية، وكالنحل؛ وجدت ثمرات أخرجها الله طيبة، وسلكت سبلا؛ جعلها الله ذللا3، فصار ذلك شفاء وطعاما، وشرابا منسوبا إليها، مذكورا بها أمرها وصنعتها.
فمن جرى على لسانه كلام يستحسنه, أويستحسن منه، فلا يعجبن إعجاب المخترع المبتدع، فإنه إنما إجتباه كما وصفنا.
الاقتداء بالصالحين:
ومن أخذ كلاما حسنا عن غيره، فتكلم به في موضعه, وعلى وجهه، فلا ترين عليه في ذلك ضؤولة4، فإنه من أعين على حفظ كلام المصيبين، وهدي للاقتداء بالصالحين، ووفق للأخذ عن الحكماء، ولا عليه أن لا يزداد، فقد بلغ الغاية، وليس
مخ ۱۳
بناقصه في رأيه, ولا غامطه1 من حقه أن لا يكون هو استحدث ذلك وسبق إليه. فإنما إحياء العقل الذي يتم به, ويستحكم: خصال سبع: الإيثار بالمحبة، والمبالغة في الطلب، والتثبت في الاختيار، والاعتياد للخير، وحسن الرعي، والتعهد لما اختير واعتقد، ووضع ذلك موضعه قولا وعملا.
أما المحبة فإنها تبلغ المرء مبلغ الفضل في كل شيء من أمر الدنيا والآخرة حين يؤثر بمحبته, فلا يكون شيء أمرأ2, ولا أحلى عنده منه.
وأما الطلب، فإن الناس لا يغنيهم حبهم ما يحبون, وهواهم ما يهوون عن طلبه وابتغائه, ولا تدرك لهم بغيتهم, ونفاستها في أنفسهم، دون الجد والعمل.
وأما التثبت والتخير، فإن الطلب لا ينفع إلا معه وبه, فكم من طالب رشد, وجده والغي معا، فاصطفى منهما الذي منه هرب، وألغى الذي إليه سعي، فإذا كان الطالب يحوي غير ما يريد، وهو لا يشك في الظفر، فما أحقه بشدة التبين وحسن الابتغاء!
وأما اعتقاد الشيء بعد استبانته، فهو ما يطلب من إحراز الفضل بعد معرفته.
مخ ۱۴
وأما الحفظ والتعهد، فهو تمام الدرك؛ لأن الإنسان موكل به النسيان والغفلة؛ فلا بد له إذا اجتبى1 صواب قول أو فعل من أن يحفظه عليه ذهنه لأوان حاجته.
وأما البصر بالمواضع، فإنما تصير المنافع كلها إلى وضع الأشياء مواضعها، وبنا إلى أهل كله حاجة شديدة, فإنا لم نوضع في الدنيا موضع غنى وخفض2, ولكن بموضع فاقة وكد، ولسنا إلى ما يمسك أرماقنا3 من المأكل والمشرب بأحوج منا إلى ما يثبت عقولنا من الأدب الذي به تقاوت العقول, وليس غذاء الطعام بأسرع في نبات الجسد من غذاء الأدب في نبات العقل, ولسنا بالكد في طلب المتاع الذي يلتمس به دفع الضرر, والغلبة, بأحق منا بالكد في طلب العلم الذي يلتمس به صلاح الدين والدنيا.
ما وضع في هذا الكتاب:
وقد وضعت في هذا الكتاب من كلام الناس المحفوظ حروفا فيها عون على عمارة القلوب, وصقالها, وتجلية أبصارها، وإحياء للتفكير وإقامة للتدبير، ودليل على محامد الأمور, ومكارم الأخلاق إن شاء الله!
مخ ۱۵
انظر أين تضع نفسك
الواصفون1 أكثر من العارفين، والعارفون أكثر من الفاعلين.
فلينظر امرؤ أين يضع نفسه؛ فإن لكل امرئ لم تدخل عليه آفة نصيبا من اللب يعيش به، لا يحب أن له به من الدنيا ثمنا, وليس كل ذي نصيب من اللب بمستوجب أن يسمى في ذوي الألباب, ولا يوصف بصفاتهم, فمن رام أن يجعل نفسه لذلك الاسم والوصف أهلا، فليأخذ له عتاده2, وليعد له طول أيامه، وليؤثره على أهوائه, فإنه قد رام أمرا جسيما لا يصلح على الغفلة، ولا يدرك بالمعجزة، ولا يصير على الأثرة3, وليس كسائر أمور الدنيا وسلطانها ومالها وزينتها التي قد يدرك منها المتواني ما يفوت المثابر, ويصيب منها العاجز ما يخطئ الحازم.
جماع الصواب, وجماع الخطأ:
وليعلم أن على العاقل أمورا إذا ضيعها, حكم عليه عقله بمقارنة الجهال.
فعلى العاقل أن يعلم أن الناس مشتركون, مستوون في الحب
مخ ۱۶
لما يوافق, والبغض لما يؤذي، وأن هذه منزلة اتفق عليها الحمقى والأكياس1، ثم اختلفوا بعدها في ثلاث خصال هن جماع الصواب وجماع الخطأ، وعندهن تفرقت العلماء والجهال، والحزمة والعجزة.
الباب الأول من ذلك2:
أن العاقل ينظر فيما يؤذيه, وفيما يسره، فيعلم أن أحق ذلك بالطلب، إن كان مما يحب، وأحقه بالاتقاء، إن كان مما يكره، أطوله وأدومه وأبقاه، فإذا هو قد أبصر فضل الآخرة على الدنيا، وفضل سرور المروءة على لذة الهوى، وفضل الرأي الجامع الذي تصلح به الأنفس والأعقاب على حاضر الرأي الذي يستمتع به قليلا, ثم يضمحل، وفضل الأكلات على الأكلة, والساعات على الساعة3.
الباب الثاني من ذلك:
أن ينظر فيما يؤثر من ذلك، فيضع الرجاء, والخوف فيه
مخ ۱۷
موضعه، فلا يجعل اتقاءه لغير المخوف, ولا رجاءه في غير المدرك.
فسيتوقى عاجل الذات طلبا لآجلها، ويحتمل قريب الأذى توقيا لبعيده, فإذا صار إلى العاقبة، بدا له أن فراره كان تورطا1 وأن طلبه كان تنكبا2.
الباب الثالث من ذلك:
هو تنفيذ البصر بالعزم بعد المعرفة بفضل الذي هو أدوم، وبعد التثبت في مواضع الرجاء والخوف, فإن طالب الفضل بغير بصر تائه حيران، ومبصر الفضل بغير عزم ذو زمانة3 محروم.
محاسبة النفس:
وعلى العاقل مخاصمة نفسه, ومحاسبتها, والقضاء عليها, والإثابة والتنكيل بها4.
أما المحاسبة، فيحاسبها بما لها، فإنه لا مال لها إلا أيامها المعدودة التي ما ذهبت منها لم يستخلف كما تستخلف النفقة، وما جعل منها في الباطل لم يرجع إلى الحق، فيتنبه لهذه المحاسبة
مخ ۱۸
عند الحول1 إذا حال، والشهر إذا انقضى، واليوم إذا ولى، فينظر فيما أفنى من ذلك، وما كسب لنفسه، وما اكتسب عليها في أمر الدين وأمر الدنيا, فيجمع ذلك في كتاب فيه إحصاء، وجد، وتذكير للأمور، وتبكيت للنفس, وتذليل لها؛ حتى تعترف, وتذعن.
وأما الخصومة، فإن من طباع النفس الآمرة بالسوء أن تدعي المعاذير فيما مضى، والأماني فيما بقي، فيرد عليها معاذيرها, وعللها, وشبهاتها.
وأما القضاء، فإنه يحكم فيما أرادت من ذلك على السيئة بأنها فاضحة, مردية, موبقة2، وللحسنة بأنها زائنة, منجية, مربحة.
وأما الإثابة, والتنكيل، فإنه يسر نفسه بتذكر تلك الحسنات, ورجاء عواقبها, وتأميل فضلها، ويعاقب نفسه بالتذكر للسيئات, والتبشع بها, والاقشعرار منها, والحزن لها.
فأفضل ذوي الألباب أشدهم لنفسه بها أخذا، وأقلهم عنها فيه فترة.
ذكر الموت:
وعلى العاقل أن يذكر الموت في كل يوم وليلة مرارا، ذكرا
مخ ۱۹
يباشر به القلوب, ويقدع الطماع1، فإن في كثرة ذكر الموت عصمة من الأشر، وأمانا، بإذن الله، من الهلع2
إحصاء المساوئ:
وعلى العاقل أن يحصي على نفسه مساويها في الدين, وفي الأخلاق, وفي الآداب، فيجمع ذلك كله في صدره, أو في كتاب، ثم يكثر عرضه على نفسه، ويكلفها إصلاحه، ويوظف ذلك عليها توظيفا من إصلاح الخلة3, والخلتين, والخلال في اليوم أو الجمعة أو الشهر.
فكلما أصلح شيئا محاه، وكلما نظر إلى محو استبشر، وكلما نظر إلى ثابت اكتأب.
الخصال الصالحة:
وعلى العاقل أن يتفقد محاسن الناس, ويحفظها على نفسه، ويتعهدها بذلك مثل الذي وصفنا في إصلاح المساوي.
وعلى العاقل أن لا يخادن, ولا يصاحب, ولا يجاور من الناس ما استطاع، إلا ذا فضل في العلم والدين والأخلاق, فيأخذ عنه، أو موافقا له على إصلاح ذلك, فيؤيد ما عنده، وإن لم يكن له عليه فضل.
مخ ۲۰
فإن الخصال الصالحة من البر1 لا تحيا, ولا تنمى إلا بالموافقين والمؤيدين, وليس لذي الفضل قريب, ولا حميم أقرب إليه ممن وافقه على صالح الخصال, فزاده, وثبته.
ولذلك زعم بعض الأولين أن صحبة بليد نشأ مع العلماء, أحب إليهم من صحبة لبيب نشأ مع الجهال.
من نسي وتهاون خسر:
وعلى العاقل أن لا يحزن على شيء فاته من الدنيا أو تولى، وينزل ما أصابه من ذلك, ثم انقطع عنه, منزلة ما لم يصب، وينزل ما طلب من ذلك, ثم لم يدركه, منزلة ما لم يطلب، ولا يدع حظه من السرور بما أقبل منها، ولا يبلغن ذلك سكرا ولا طغيانا، فإن مع السكر النسيان، ومع الطغيان التهاون، ومن نسي, وتهاون خسر.
إيناس ذوي الألباب:
وعلى العاقل أن يؤنس ذوي الألباب بنفسه, ويجرئهم عليها, حتى يصبروا حرسا على سمعه وبصره ورأيه، فيستنيم إلى ذلك, ويريح له قلبه، ويعلم أنهم لا يغفلون عنه إذا هو غفل عن نفسه.
مخ ۲۱
ساعة عون على الساعات:
وعلى العاقل، ما لم يكن مغلوبا على نفسه، أن لا يشغله شغل عن أربع ساعات: ساعة: يرفع فيها حاجته إلى ربه، وساعة: يحاسب فيها نفسه، وساعة: يفضي فيها إلى إخوانه, وثقاته الذين يصدقونه عن عيوبه, وينصحونه في أمره، وساعة: يخلي فيها بين نفسه, وبين لذتها مما يحل ويجمل، فإن هذه الساعة عون على الساعات الأخر، وإن استجمام1 القلوب, وتوديعها2 زيادة قوة لها, وفضل بلغة3.
الرغبات الثلاث:
وعلى العاقل أن لا يكون راغبا إلا في إحدى ثلاث: تزود لمعاد، أو مرمة لمعاش، أو لذة في غير محرم.
الناس طبقتان متباينتان:
وعلى العاقل أن يجعل الناس طبقتين متباينتين، ويلبس لهم لباسين مختلفين، فطبقة من العامة يلبس لهم لباس
مخ ۲۲
انقباض وانحجاز وتحفظ في كل كلمة وخطوة، وطبقة من الخاصة يخلع عندهم لباس التشدد, ويلبس لباس الأنسة واللطفة والبذلة1 والمفاوضة, ولا يدخل في هذه الطبقة إلا واحدا من الألف, وكلهم ذو فضل في الرأي، وثقة في المودة، وأمانة في السر، ووفاء بالإخاء.
الصغير يصير كبيرا:
وعلى العاقل أن لا يستصغر شيئا من الخطأ في الرأي، والزلل في العلم، والإغفال في الأمور؛ فإنه من استصغر الصغير أوشك أن يجمع إليه صغيرا وصغيرا، فإذا الصغير كبير, وإنما هي ثلم2 يثلمها العجز والتضييع, فإذا لم تسد أوشكت أن تتفجر بما لا يطاق, ولم نر شيئا قط إلا قد أتى من قبل الصغير المتهاون به، قد رأينا الملك يؤتى من العدو المحتقر به، ورأينا الصحة تؤتى من الداء الذي لا يحفل به، ورأينا الأنهار تنبثق من الجدول الذي يستخف به.
وأقل الأمور احتمالا للضياع الملك؛ لأنه ليس شيء يضيع، وإن كان صغيرا، إلا اتصل بآخر, يكون عظيما.
مخ ۲۳
الرأي والهوى عدوان:
وعلى العاقل أن يجبن عن المضي على الرأي الذي لا يجد عليه موافقا, وإن ظن أنه على اليقين.
وعلى العاقل أن يعرف أن الرأي والهوى متعاديان، وأن من شأن الناس تسويف الرأي, وإسعاف الهوى، فيخالف ذلك, ويلتمس أن لا يزال هواه مسوفا ورأيه مسعفا.
وعلى العاقل إذا اشتبه عليه أمران فلم يدر في أيهما الصواب, أن ينظر أهواهما عنده، فيحذره.
علم نفسك قبل تعليم غيرك:
ومن نصب نفسه للناس إماما في الدين، فعليه أن يبدأ بتعليم نفسه وتقويمها في السيرة والطعمة والرأي واللفظ والأخدان؛ فيكون تعليمه بسيرته أبلغ من تعليمه بلسانه, فإنه كما أن كلام الحكمة يونق2 الأسماع، فكذلك عمل الحكمة يروق العيون والقلوب, ومعلم نفسه ومؤدبها أحق بالإجلال والتفضيل من معلم الناس ومؤدبهم.
مخ ۲۴
أعمدة السلطان:
ولاية الناس بلاء عظيم, وعلى الوالي أربع خصال هي أعمدة السلطان1, وأركانه التي بها يقوم, وعليها يثبت: الاجتهاد في التخير، والمبالغة في التقدم، والتعهد2 الشديد، والجزاء العتيد3.
فأما التخير للعمال والوزراء, فإنه نظام الأمر, ووضع مؤونة البعيد المنتشر, فإنه عسى أن يكون يتخيره رجلا واحدا قد اختار ألفا؛ لأنه من كان من العمال خيارا فسيختار كما اختير, ولعل عمال العامل, وعمال عماله يبلغون عددا كثيرا، فمن تبين التخير فقد أخذ بسبب وثيق، ومن أسس أمره على غير ذلك لم يجد لبنائه قواما.
وأما التقديم والتوكيد، فإنه ليس كل ذي لب أو ذي أمانة يعرف وجوه الأمور والأعمال، ولو كان بذلك عارفا، لم يكن صاحبه حقيقا أن يكل ذلك إلى علمه, دون توقيفه عليه, وتبيينه له, والاحتجاج عليه به.
وأما التعهد، فإن الوالي إذا فعل ذلك كا سميعا بصيرا، وإن العامل إذا فعل ذلك به كان متحصنا حريزا.
وأما الجزاء فإنه تثبيت المحسن, والراحة من المسيء.
مخ ۲۵
بماذا يستطاع السلطان:
لا يستطاع السلطان إلا بالوزراء والأعوان، ولا ينفع الوزراء إلا بالمودة والنصيحة، ولا المودة إلا مع الرأي والعفاف1.
وأعمال السلطان كثيرة, وقليل ما تستجمع الخصال المحمودة عند أحد، وإنما الوجه في ذلك, والسبيل الذي به يستقيم العمل, أن يكون صاحب السلطان عالما بأمور من يريد الاستعانة به, وما عند كل رجل من الرأي والغناء، وما فيه من العيوب.
فإذا استقر ذلك عنده عن علمه وعلم من يأتمن, وجه لكل عمل من قد عرف أن عنده من الرأي والنجدة2 والأمانة ما يحتاج إليه فيه، وأن ما فيه من العيوب لا يضر بذلك، ويتحفظ من أن يوجه أحدا وجها لا يحتاج فيه إلى مروءة، إن كانت عنده، ولا يأمن عيوبه, وما يكره منه.
ثم على الملوك، بعد ذلك، تعاهد عمالهم, وتفقد أمورهم، حتى لا يخفى عليهم إحسان محسن, ولا إساءة مسيء.
ثم عليهم، بعد ذلك، أن لا يتركوا محسنا بغير جزاء, ولا يقروا مسيئا ولا عاجزا على الإساءة والعجز؛ فإنهم إن تركوا ذلك، تهاون المحسن، واجترأ المسيء، وفسد الأمر، وضاع العمل.
مخ ۲۶
الدنيا دول:
اقتصار السعي إبقاء للجمام1، وفي بعد الهمة يكون النصب2، ومن سأل فوق قدرته استحق الحرمان، وسوء حمل الغنى أن يكون عند الفرح مرحا، وسوء حمل الفاقة أن يكون عند الطلب شرها، وعار الفقر أهون من عار الغنى، والحاجة مع المحبة خير من الغنى مع البغضة.
الدنيا دول، فما كان لك منها أتاك على ضفعك، وما كان عليك لم تدفعه بقوتك.
المثل أوضح للمنطق:
إذا جعل الكلام مثلا، كان ذلك أوضح للمنطق, وأبين في المعنى, وآنق للسمع, وأوسع لشعوب الحديث3.
لا مال أفضل من العقل:
أشد الفاقة عدم العقل، وأشد الوحدة وحدة اللجوج4، ولا مال أفضل من العقل، ولا أنيس آنس من الاستشارة.
مخ ۲۷
كن مستورا:
مما يعتبر به صلاح الصالحين, وحسن نظره للناس أن يكون إذا استعتب1 المذنب ستورا لا يشيع, ولا يذيع، وإذا استشير سمحا بالنصيحة مجتهدا للرأي، وإذا استشار مطرحا للحياء منفذا للحزم معترفا للحق.
الحارس والمحروس:
القسم2 الذي يقسم للناس, ويمتعون به, نحوان: فمنه حارس, ومنه محروس، فالحارس العقل، والمحروس المال، والعقل، بإذن الله، هو الذي يحرز الحظ، ويؤنس الغربة، وينفي الفاقة، ويعرف النكرة، ويثمر المكسبة3، ويطيب الثمرة، ويوجه السوقة عند السلطان4، ويستنزل للسلطان نصيحة السوقة، ويكسب الصديق، ويكفي العدو.
الأدب العظيم:
كلام اللبيب، وإن كان نزرا، أدب عظيم، ومقارفة
مخ ۲۸
المأثم1، وإن كان محتقرا، مصيبة جليلة، ولقاء الإخوان, وإن كان يسيرا2، غنم حسن.
أجناس الناس:
قد يسعى إلى أبواب السلطان أجناس من الناس كثير، أما الصالح فمدعو، وأما الطالح فمقتحم3، وأما ذو الأدب فطالب، وأما من لا أدب له فمختلس4، وأما القوي فمدافع، وأما الضعيف فمدفوع، وأم المحسن فمستثيب، وأما المسيء فمستجير6. فهو مجمع البر والفاجر، والعالم والجاهل، والشريف والوضيع.
الناس، إلا قليلا ممن عصم الله، مدخولون في أمورهم7: فقائلهم باغ، وسامعهم عياب، وسائلهم متعنت، ومجيبهم متكلف، وواعظهم غير محقق لقوله بالفعل، وموعوظهم غير سليم من الاستخفاف، والأمين منهم غير متحفظ من
مخ ۲۹
إتيان الخيانة، والصدوق غير محترس من حديث الكذبة، وذو الدين غير متورع عن تفريط الفجرة1، والحازم منهم غير تارك لتوقع الدوائر.
يتناقضون البناء2، ويتراقبون الدول، ويتعايبون بالهمز3، مولعون في الرخاء بالتحاسد، وفي الشدة بالتخاذل.
لا تغتر بالدنيا:
كم قد انتزعت الدنيا ممن استمكن منها, واعتكفت له,
فأصبحت الأعمال أعمالهم, والدنيا دنيا غيرهم، وأخذ متاعهم من لم يحمدهم، وخرجوا إلى من لا يعذرهم.
فأصبحنا خلفا من بعدهم، نتوقع مثل الذي نزل بهم، فنحن إذا تدبرنا أمورهم، أحقاء أن ننظر ما نغبطهم بهو فنتبعه, وما نخاف عليهم منه فتجتنبه.
كيف تطلع الشيطان على عورتك؟:
كان يقال: إن الله تعالى قد يأمر بالشيء ويبتلي بثقله وينهى
مخ ۳۰