نَتِيجَتُهُمَا نُمُوَّ الْعَقْلِ الْمُكْتَسَبِ كَاَلَّذِي يَكُونُ فِي الْأَحْدَاثِ مِنْ وُفُورِ الْعَقْلِ وَجَوْدَةِ الرَّأْيِ، حَتَّى قَالَ هَرِمُ بْنُ قُطْبَةَ حِينَ تَنَافَرَ إلَيْهِ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ وَعَلْقَمَةُ بْنُ عُلَاثَةَ: عَلَيْكُمْ بِالْحَدِيثِ السِّنِّ، الْحَدِيدِ الذِّهْنِ. وَلَعَلَّ هَرِمًا أَرَادَ أَنْ يَدْفَعَهُمَا عَنْ نَفْسِهِ فَاعْتَذَرَ بِمَا قَالَ. لَكِنْ لَمْ يُنْكِرَا قَوْلَهُ إذْعَانًا لِلْحَقِّ فَصَارَا إلَى أَبِي جَهْلٍ لِحَدَاثَةِ سِنِّهِ، وَحِدَّةِ ذِهْنِهِ، فَأَبَى أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمَا فَرَجَعَا إلَى هَرِمٍ فَحَكَمَ بَيْنَهُمَا.
وَفِيهِ قَالَ لَبِيدٌ:
يَا هَرِمُ ابْنَ الْأَكْرَمِينَ مَنْصِبًا ... إنَّك قَدْ أُوتِيتَ حُكْمًا مُعْجِبَا
وَقَدْ قَالَتْ الْعَرَبُ عَلَيْكُمْ بِمُشَاوَرَةِ الشَّبَابِ فَإِنَّهُمْ يُنْتِجُونَ رَأْيًا لَمْ يَنَلْهُ طُولُ الْقِدَمِ، وَلَا اسْتَوْلَتْ عَلَيْهِ رُطُوبَةُ الْهَرِمِ.
وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ:
رَأَيْت الْعَقْلَ لَمْ يَكُنِ انْتِهَابَا ... وَلَمْ يُقْسَمْ عَلَى عَدَدِ السِّنِينَا
وَلَوْ أَنَّ السِّنِينَ تَقَاسَمَتْهُ ... حَوَى الْآبَاءُ أَنْصِبَةَ الْبَنِينَا
وَحَكَى الْأَصْمَعِيُّ ﵀ قَالَ: قُلْت لِغُلَامٍ حَدَثٍ مِنْ أَوْلَادِ الْعَرَبِ كَانَ يُحَادِثُنِي فَأَمْتَعَنِي بِفَصَاحَةٍ وَمَلَاحَةٍ: أَيَسُرُّكَ أَنْ يَكُونَ لَك مِائَةُ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَأَنْتَ أَحْمَقُ؟ قَالَ: لَا وَاَللَّهِ. قَالَ: فَقُلْت: وَلِمَ؟ قَالَ: أَخَافُ أَنْ يَجْنِيَ عَلَيَّ حُمْقِي جِنَايَةً تَذْهَبُ بِمَالِي وَيَبْقَى عَلَيَّ حُمْقِي. فَانْظُرْ إلَى هَذَا الصَّبِيِّ كَيْفَ اسْتَخْرَجَ بِفَرْطِ ذَكَائِهِ، وَاسْتَنْبَطَ بِجَوْدَةِ قَرِيحَتِهِ مَا لَعَلَّهُ يَدِقُّ عَلَى مَنْ هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ سِنًّا، وَأَكْثَرُ تَجْرِبَةً.
وَأَحْسَنُ مِنْ هَذَا الذَّكَاءِ وَالْفَطِنَةِ مَا حَكَى ابْنُ قُتَيْبَةَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ﵁ مَرَّ بِصِبْيَانٍ يَلْعَبُونَ وَفِيهِمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ فَهَرَبُوا مِنْهُ إلَّا عَبْدَ اللَّهِ. فَقَالَ لَهُ عُمَرُ ﵁: مَا لَك؟ لِمَ لَا تَهْرَبُ مَعَ أَصْحَابِك؟ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ أَكُنْ عَلَى رِيبَةٍ فَأَخَافُك، وَلَمْ يَكُنْ الطَّرِيقُ ضَيِّقًا فَأُوَسِّعُ لَك. فَانْظُرْ مَا تَضَمَّنَهُ هَذَا الْجَوَابُ مِنْ الْفِطْنَةِ وَقُوَّةِ الْمِنَّةِ وَحُسْنِ الْبَدِيهَةِ. كَيْفَ نَفَى عَنْهُ اللَّوْمَ، وَأَثْبَتَ لَهُ الْحُجَّةَ فَلَيْسَ لِلذَّكَاءِ غَايَةٌ، وَلَا لِجُودَةِ الْقَرِيحَةِ نِهَايَةٌ.
وَحُكِيَ أَنَّ
1 / 21