شكر وتقدير
مقدمة: ما هو أدب الأطفال؟
1 - دراسة تاريخية موجزة عن النشر للأطفال باللغة الإنجليزية
2 - لماذا تدرس كتب الأطفال وكيف؟
3 - تحويل نصوص الطفولة
4 - الأجناس الأدبية والأجيال: القصة العائلية مثالا
5 - رؤى للمستقبل
6 - الجدل الأخلاقي في أدب الأطفال
مراجع وقراءات إضافية
شكر وتقدير
مقدمة: ما هو أدب الأطفال؟
1 - دراسة تاريخية موجزة عن النشر للأطفال باللغة الإنجليزية
2 - لماذا تدرس كتب الأطفال وكيف؟
3 - تحويل نصوص الطفولة
4 - الأجناس الأدبية والأجيال: القصة العائلية مثالا
5 - رؤى للمستقبل
6 - الجدل الأخلاقي في أدب الأطفال
مراجع وقراءات إضافية
أدب الأطفال
أدب الأطفال
مقدمة قصيرة جدا
تأليف
كيمبرلي رينولدز
ترجمة
ياسر حسن
مراجعة
هبة نجيب مغربي
إلى أمي وإخوتي الذين يشاركونني تقديري لكتب الأطفال، وإحياء لذكرى كوليت التي أرشدتني إلى بعض من أفضل تلك الكتب.
شكر وتقدير
إن هذا الكتاب لهو نتاج سنوات من التدريس وإجراء المحادثات مع طلبة وزملاء كثر، حتى إنه لا يتسع المجال لذكر كل منهم على حدة، لكنني أتمنى أن يتعرفوا على أنفسهم بين سطور هذا الكتاب. ومع ذلك، لا بد لي من ذكر أربعة أشخاص بأعينهم. فكما هو الحال دائما، كان بيتر هانت وبيتر رينولدز ونيكولاس تاكر أوائل قرائي، وإنني أكن لكم تقديرا عميقا على صبركم ومثابرتكم. كذلك قرأت هازل شيكي مسودات الكتاب وأبدت تعليقاتها عليها. وقد أعطتني كلية الآداب واللغة واللغويات الإنجليزية بجامعة نيوكاسل إجازة من العمل لكي أؤلف هذا الكتاب؛ ولذلك فأنا ممتنة لها للغاية، ولمحررتي بمطبعة جامعة أكسفورد آندريا كيجان التي طلبت مني تأليف الكتاب وانتظرته: شكرا لك. كما أقدم جزيل الشكر لإيما مارشانت التي عالجت التفاصيل الدقيقة ببراعة مدهشة.
مقدمة: ما هو أدب الأطفال؟
يتمتع مصطلح «أدب الأطفال» - خارج الدوائر الأكاديمية - بمعنى شائع وبسيط إلى حد كبير؛ فمن الصحف ووسائل الإعلام الأخرى إلى المدارس والوثائق الحكومية، من المفهوم أن المصطلح يشير إلى المواد التي تكتب لكي يقرأها الأطفال والشباب، وينشرها ناشرو كتب الأطفال، وتعرض وتخزن في الأقسام الخاصة بكتب الأطفال و/أو اليافعين بالمكتبات العامة ومتاجر بيع الكتب. ومن وقت لآخر، تطرح أسئلة بشأن ملاءمة مادة ما لجمهور من صغار السن من عدمها، وهو سؤال عادة ما تدفعه مخاوف بشأن المحتوى: هل يحتوي على إيحاءات جنسية واضحة؟ هل هو مرعب؟ هل يتسم بالغموض الأخلاقي؟ وفي بعض الأحيان الأخرى، تعكس الأسئلة حول مدى ملاءمة النص مخاوف من الأسلوب: هل تتعارض اللغة العامية، أو غير السليمة نحويا، أو أسلوب الكتابة الذي يتضمن سبابا أو لغة بذيئة، أو الكتابة التجريبية مع الدروس التي يتلقونها في المدرسة أو ترسخ لعادات سيئة؟ ومؤخرا - وحيث إن عددا كبيرا من الكبار صاروا يقرءون كتبا نشرت في الأصل كأدب أطفال (سلسلة كتب «هاري بوتر»، وثلاثية «مواده المظلمة»، ورواية «الحادثة الغريبة للكلب ليلا»، ورواية «سارقة الكتب»، ورواية «برسبوليس») - ظهر بعض الجدل حول ملاءمة هذه الكتب للكبار، أو حول ما إذا كان هذا النوع من القراءة هو أحد أعراض تسطيح الثقافة. ولكن بوجه عام، تعد ماهية أدب الأطفال شيئا مسلما به.
وعلى النقيض، فإن هذا المصطلح - بالنسبة لمن يبحثون في أدب الأطفال ويدرسونه - مليء بالتعقيدات، وبالفعل، ففي واحدة من أكثر الدراسات المثيرة للجدل عن أدب الأطفال في القرن الماضي، أشارت جاكلين روز (1984) إلى «استحالة» أدب الأطفال. كانت روز في الواقع تشير إلى طبيعة العلاقة بين الكبار والأطفال في قصص الأطفال، وسوف نتناول مخاوفها، إلى جانب غيرها من القضايا ذات الطابع النظري الأعمق التي تضفي التعقيد على دراسة أدب الأطفال في
الفصل الثاني . لكن من العديد من الجوانب - حتى على المستوى العملي - فإن أدب الأطفال يعد «مستحيلا»؛ فهو شديد الاتساع وغير متبلور بشكل يجعل من المستحيل حصره في مجال دراسة. وفي الحقيقة، لا يوجد إنتاج أدبي محدد لما يطلق عليه «أدب الأطفال»، تماما مثلما لا يوجد شيء يمكن أن يطلق عليه «أدب الكبار»، كما أن مجالي النشر هذين ليسا منفصلين بالقدر الذي يوحي به اسماهما. فكلاهما يعكس أفكارا عن غرض الكتابة وطبيعتها وأساليبها في أي لحظة؛ وهما يتشاركان في التكنولوجيا ونظام التوزيع، فغالبا ما يكون منتجو الأعمال المخصصة للكبار هم أنفسهم من ينتجون أعمالا مخصصة للأطفال، بل وبعض النصوص تكون واحدة. ومع ذلك، فإن مصطلح «أدب الأطفال» يستخدم على نطاق واسع؛ ولذلك فلا بد من فهم كيفية استخدامه قبل الشروع في مناقشته.
في الوقت الحالي، كل شيء بدءا من القصص الشعبية والخيالية، والخرافات والأساطير، والمواويل القصصية وأغاني الأطفال - التي يرجع تاريخ الكثير منها إلى عصور ما قبل الكتابة - ووصولا إلى طرق التجسيد في عصر النقل الحرفي الذي نعيشه - مثل الكتب الإلكترونية والروايات التي يؤلفها المعجبون بالأعمال الأدبية الأخرى حول بعض شخصياتها، وألعاب الكمبيوتر - ربما يندرج تحت مظلة أدب الأطفال. علاوة على ذلك، فإن أدب الأطفال - كمجال للبحث والتدريس - يشمل كل الأجناس الأدبية، والصيغ، والوسائط، وكل فترات الكتابة، وأنواعها، والحركات الأدبية من أي بقعة من العالم، وما يرتبط بذلك غالبا من المطبوعات المؤقتة والسلع أيضا. وهو يشير إلى الأعمال التي وجهت تحديدا لصغار السن، وإلى الأعمال التي باتت تعتبر أدبا للأطفال من خلال تخصيصها لصغار القراء، وإلى الأعمال التي كان الأطفال يقرءونها فيما مضى واقتصرت قراءتها الآن على دارسي الأدب. ويتناول
الفصل الثاني
عواقب هذا التنوع على الطريقة التي يدرس بها أدب الأطفال؛ وهنا من المهم أن نؤكد أنه لا يوجد نتاج أدبي واحد ومترابط ومحدد يشكل أدب الأطفال، ولكن بدلا من ذلك يوجد العديد من أعمال أدب الأطفال التي تم إنتاجها في فترات مختلفة، وبطرق مختلفة، ولأغراض مختلفة، وعلى يد ألوان مختلفة من الناس باستخدام صيغ ووسائط مختلفة.
وعلى الرغم من هذا التنوع، فإن ثمة إجماعا كبيرا حول ما يدرسه أولئك الذين يعملون في هذا المجال، ويتمثل أحد أغراض هذه «المقدمة القصيرة جدا» في تحديد بعض الافتراضات الشائعة بخصوص ماهية أدب الأطفال كمجال للبحث والتدريس. ويمكن الإلمام بنطاق المواد المصنفة على أنها أدب للأطفال - ومن ثم إدراك استحالة تقدير أدب الأطفال حق قدره في تلك النوعيات من الدراسات التي عادة ما تشكل مقدمات إلى هذا المجال - من خلال النظر إلى كيفية تنظيم الدراسات التاريخية للموضوع، ودراسة ما صنف على أنه كتابة للأطفال، وكيف تغير ذلك عبر الزمن. وتوجد مشكلات جوهرية متعددة في اتباع منهج تاريخي في تناول القضية، أبرزها حقيقة أن هناك مخاطرة تتمثل في الإشارة إلى وجود تطور تدريجي بلغ ذروته بتفهم أدب الأطفال وإنتاجه بصورته الحالية. ومن الصعب تجنب هذا الانطباع عند ترتيب المادة الأدبية في تسلسل زمني، ولكن الدراسة التاريخية التي يقدمها
الفصل الأول
تحاول على الأقل تقييد هذا المعنى الضمني من خلال تقديم المادة الأدبية من حيث التغيير والاستمرارية، وليس من ناحية التطور.
ثمة نقطة أخرى يجب أن نضعها في اعتبارنا وهي أنه حتى وقت قريب، كانت الدراسات التاريخية لأدب الأطفال تكاد تكون مقصورة في كتابتها وما تتناوله على تلك الدول الغربية التي ترسخت لديها عادة النشر للأطفال، وعادة ما كان الدارسون وجامعو الكتب وأمناء المكتبات والمتحمسون من أبناء تلك البلدان هم من ينظمون المؤتمرات، ويطلقون الصحف، بل ويصيغون المصطلحات الفنية من أجل مناقشة النصوص الموجهة للأطفال. وقد شكل هذا الإرث محاولات لتوصيف أدب الأطفال، وما ضمن في الدراسات التاريخية لهذا الجنس الأدبي، وكيف يقيمه الدارسون ويتناولونه، لدرجة أنه في الكثير من البلدان التي يدرس بها أدب الأطفال، عادة ما تكون الأعمال الأدبية من بريطانيا، وبقية أجزاء أوروبا الغربية، والولايات المتحدة الأمريكية هي المسيطرة. وهذا الأمر يحجب التقاليد الأدبية الأخرى وإلى أي مدى تم إثراء أدب الأطفال الغربي من خلال قصص، وشخصيات، ومؤلفين ورسامين من أجزاء مختلفة من العالم. وقد زادت العولمة واستخدام الإنترنت من ميل هذه النزعة لصالح المطبوعات الصادرة عن الناطقين بالإنجليزية. وهكذا، بينما شوهت هذه النزعة الحقائق حول تاريخ أدب الأطفال شر تشويه من ناحية، فإن الدراسة التاريخية الموجزة المبينة في
الفصل الأول
مبنية على الأعمال المنشورة باللغة الإنجليزية، حتى وإن كانت هذه الأعمال قد كتبت أول ما كتبت بلغة أخرى. وفي الواقع، قبل مرحلة العولمة الحالية بأمد بعيد، وكنتيجة للهجرة أو الاستعمار أو أنشطة التبشير والتجارة، أو الاحتلال، كان هناك قدر كبير من الشيوع فيما يقرؤه الأطفال في كثير من أرجاء العالم؛ ومن ثم، فسوف يكون لهذه الدراسة التاريخية التي يغلب عليها الطابع الأنجلو-أمريكي في مجملها تشابه كبير مع الدراسات التاريخية لأدب الأطفال في العديد من البلاد.
القيمة الثقافية لأدب الأطفال
نظرا لأن أدب الأطفال هو إحدى الطرق المبكرة التي يواجه من خلالها الصغار القصص، فإنه يلعب دورا مؤثرا في تشكيل كيفية تفكيرنا في العالم وفهمنا له؛ فالقصص تعد مصادر رئيسية للصور والمفردات والسلوكيات والتركيبات والتفسيرات التي نحتاج إليها لكي نتأمل التجربة؛ وذلك لأنه عندما توجه القصص للأطفال، فغالبا ما يكون لها ارتباط وثيق بنوع أو بآخر من أنواع التعليم، وبإمكانها أن تكون ناقلا مهما للمعلومات المتعلقة بالتغييرات الثقافية في الماضي والحاضر. وبالفعل فإن تاريخ هذه القصص الطويل وحقيقة أن الكتابة للأطفال تمتد عبر الثقافات النخبوية والجماهيرية، والرسمية وغير الرسمية، والمنزلية والمؤسسية، وعادة ما تشتمل على عناصر بصرية؛ يعنيان أن المواد الموجهة للأطفال يمكن أن تكون مصدرا قيما بشكل خاص للمعلومات التاريخية عن كل شيء، بدءا مما كان يبدو عليه الأطفال في الماضي والظروف البيئية التي عاشوا فيها، إلى المتاجر والخدم ومعالجة الأمراض والدين والحروب والهجرة والتطور العلمي والاستكشافات، وأكثر من ذلك بكثير.
وتعمل حلقات وصل أدب الأطفال بالماضي على مستويات عدة أيضا، فمثلما أن فترة الطفولة التي عشناها لا تزال بداخلنا ولا يزال ذلك الطفل الصغير يؤثر علينا، فإن صدى الكتابات الموجهة للأطفال يتردد عبر الزمن، كما أنها تربط بالطريقة التي يجري من خلالها فهم المجتمعات وتنظيمها وإدارتها. وهذه ليست عملية مباشرة؛ فالأفكار التقليدية ربما تحفظ في النصوص المبكرة، أو يعاد طرحها عمدا في الأعمال المعاصرة المحافظة، أو تخلد بلا وعي في تلك الأعمال التي تمثل مرآة غير انتقادية للاتجاهات الاجتماعية الحالية. وفي الوقت نفسه، فإن الكثير من القصص التي تقدم للأطفال اليوم عبارة عن إعادات روائية لقصص تقليدية أراد الكتاب والرسامون من خلالها كشف التصور الداخلي الذي نفسر من خلاله العالم ونقده وتعديله. والحوار الذي يخلقونه بين طرق التفكير القديمة والحديثة قد يكون طريقة أخرى لغرس بذور التغيير الاجتماعي ورعايتها، مثلما رأينا في الطريقة التي أسهم بها أدب الأطفال في التطورات التي طرأت على مجالي المساواة والتنوع. وهذه القدرة كانت لها أهمية خاصة لدى والتر بنجامين، الذي جمع كتب الأطفال وأجل إمكانية الكتابة للصغار في جعل الأجيال الصاعدة أكثر رغبة في التعرف على السياسات والأفكار الجديدة والمختلفة؛ مما يشجعهم على مقاومة أساليب التفكير التقليدية التي يروجها التعليم الرسمي. وسواء أكانت الكتابة للأطفال مجددة أم محافظة، قيمة أم خادعة، فإنها تعد مصدرا ثريا للمعلومات المتعلقة بالثقافة لطالما أبخس قدره، كما أنها إسهام للثقافة.
الفصل الأول
دراسة تاريخية موجزة عن النشر للأطفال باللغة
الإنجليزية
البدايات
على الرغم من أن «خرافات أيسوب» - التي ترجمت ونشرت على يد ويليام كاكستون عام 1484 - عادة ما كانت تدرج بموضع ما في الدراسات التاريخية لأدب الأطفال حتى نهاية القرن المنصرم، فإن الدراسات التاريخية عن الكتابة للأطفال غالبا ما بدأت في القرن السابع عشر بنماذج من أعمال بعض المنشقين عن الكنيسة، والتي عادة ما تبدأ بكتاب «العالم المرئي بالصور» الذي ألفه الإصلاحي التربوي التشيكي جون آموس كومينيوس. وقد أتيحت نسخة باللغة الإنجليزية لكتاب «العالم المرئي بالصور» - والذي كتب باللغة الألمانية عام 1658 - في العام التالي في طبعة ظلت تنشر حتى القرن التاسع عشر، بما فيها نسخة منقحة الصور نشرت في الولايات المتحدة عام 1810. ويكشف تاريخ هذا الكتاب الصغير - الذي لا يتعدى حجمه 142 × 83 ملليمترا (ما يقرب من 6 × 3 بوصات) - الكثير عن تاريخ الكتابة للأطفال، ولا سيما كيف أنه - قبل وقت طويل من عصر الاتصالات الفورية والعولمة - كانت بعض كتب الأطفال تنتقل بسرعة بين البلدان. وقد ترجم كتاب «العالم المرئي بالصور» إلى العديد من اللغات الأوروبية. وفي كل الطبعات، يبدأ الكتاب بالأبجدية، ثم يسعى - من خلال مزيج من الكلمات والصور - إلى تمثيل كل شيء في العالم، بداية من المخلوقات والنباتات، وحتى المفاهيم المجردة مثل الثالوث القدوس.
شكل 1-1: يعتبر نص كومينيوس التعليمي مزدوج اللغة (اللاتينية + لغة أخرى) أيضا كتابا مصورا طموحا يحاول أن يقدم صورة تمثل كل اسم يذكره، مهما كان ذلك الاسم مجردا، وهو يهدف لتعليم الأطفال من خلال تسليتهم.
1
ويجسد كتاب «العالم المرئي بالصور» عدة خصائص للكتابة المبكرة للأطفال، بداية من افتراضاته بشأن السن، فكومينيوس كان يكتب من أجل الأطفال الصغار؛ أي الأطفال تحت سن السادسة، ويتعلمون القراءة بلغتهم الأصلية، وبعدها - بداية من سن السادسة - يتعلمون القراءة باللغة اللاتينية (فكانت نصوص الكتاب مكتوبة باللغة المحلية واللغة اللاتينية معا). وبينما كان صغر سن القارئ المقصود سمة مميزة لأدب الأطفال عبر تاريخه منذ أيام كومينيوس، فإن الطفولة كمرحلة من مراحل الحياة قد توسعت باطراد لدرجة أن بعض الأعمال الحديثة التي أصدرتها دور نشر كتب الأطفال تستهدف «اليافعين» الذين هم في سن الثامنة عشرة. ومع ذلك فحتى نهاية القرن التاسع عشر، كانت كتب الأطفال موجهة للأطفال قبل مرحلة البلوغ، والذين عادة ما كانوا إما على أعتاب بدء تعليمهم، أو في المراحل المبكرة منه. وبعد تعلم القراءة، كان الأطفال في معظم الحالات يتشاركون النصوص مع الكبار، الذين غالبا ما تكون مهارات القراءة لديهم على نفس المستوى تقريبا. فعلى سبيل المثال، كان بإمكان كل من الصغار والكبار قراءة كتيبات الحكايات والأشعار، وهي كتيبات صغيرة الحجم رخيصة الإنتاج، بدأت في الظهور في القرن السادس عشر. فمن خلال نصوصها البسيطة (التي عادة ما تستند إلى الحكايات الشهيرة، والقصائد القصصية، وما شابهها من مواد شعبية) والرسوم بالقوالب الخشبية، جذبت كتيبات الحكايات والأشعار القراء الصغار، بالرغم من أن نماذجها المؤلفة خصوصا للأطفال لم تبدأ في الظهور حتى القرن الثامن عشر.
وكان المقصود من كتاب «العالم المرئي بالصور» أن يكون أداة تعليمية، وهناك جدال قوي يدور عبر تاريخ أدب الأطفال بين النظريات التعليمية والكتابة للأطفال، رغم أنه من الشائع الآن التمييز بين الكتب المعلوماتية/التعليمية - مثل كتاب كومينيوس - والأدب القصصي الذي أصبح الآن القوة المسيطرة في عالم أدب الأطفال. ومع ذلك، فعندما نتتبع أصول أدب الأطفال، فإن الدراسات التاريخية عادة ما تشمل كل أشكال الكتابة المخصصة للأطفال، وتعتبر كتاب «العالم المرئي بالصور» كعلامة فارقة. وعلى غرار كتاب «العالم المرئي بالصور»، فإن معظم الكتابات المخصصة للأطفال في القرن السابع عشر كانت مستلهمة من مجموعة من المنشقين عن الكنيسة، والذين غالبا ما يشار إليهم باسم «البيوريتانيين»؛ ولهذا، فإن تلك الكتابات كانت تسعى - إلى جانب تعليم الأطفال القراءة - إلى تعليمهم كيف يعيشون حياة صالحة، ويبتغون النعيم الإلهي، ويحاولون اجتناب عذاب الجحيم. وأحد الأمثلة النموذجية لهذا النوع من الكتابة التي نشأت في إنجلترا هو كتاب جيمس جانواي «دليل للأطفال» (1671-1672)، والذي يعتبر في مضمونه شهادة حية على «الهداية، والحيوات المقدسة والنموذجية، والميتات السعيدة لعدد من الأطفال الصغار»، مثلما يبين العنوان الفرعي للكتاب.
ويعد مجلد جانواي - الذي اشتهر بإنجلترا والولايات المتحدة (في نسخة موسعة كتبها كوتون ماثر ونشرت عام 1700) لفترة تجاوزت المائتي عام، وأعيد طبعه على نحو منتظم، وكذلك زاد حجمه وأعيدت صياغته - علامة بارزة ومفيدة في أي تسجيل لنشأة وتطور أدب الأطفال؛ فهو يخاطب صغار القراء بشكل واضح (رغم أنه يفترض كذلك أن الكبار سوف يشتركون في عملية قراءة الكتاب، مثلما يتضح من الخطاب الافتتاحي الموجه للوالدين ولكل المشتركين في عملية تعليم الأطفال)، ويقدم نطاقا من الأفكار والرؤى الثاقبة حول كيفية فهم المجتمع للأطفال والطفولة في بدايات إنجلترا الحديثة. ومن خلال محتوى كتاب «دليل للأطفال» التعليمي الصريح، وأسلوبه التدريسي، وافتراضه بأن الأطفال يولدون مذنبين، يشير الكتاب إلى العلاقة بين تأسيس مرحلة الطفولة في أي فترة زمنية وتاريخ الكتابة للأطفال؛ فقد أصبحت هذه العلاقة من مواضع الاهتمام الرئيسية في دراسة أدب الأطفال. وكثيرا ما تستخدم النصوص البيوريتانية أيضا لدعم وجهة النظر القائلة بأن تاريخ أدب الأطفال هو تاريخ قد انتقل من الاقتناع بأن الكتابة للأطفال يجب أن تركز على توجيه قرائها نحو الطريقة التي يجب أن يتصرفوا بها، والأفكار التي يجب أن يؤمنوا بها، إلى الرغبة في تسليتهم. ورغم أن هذا التفسير لتطور أدب الأطفال قد ظل غير مختلف عليه لعقود طويلة، فقد أصبح الآن يعتبر تفسيرا منقوصا؛ وذلك لأن الكثير من كتاب الأطفال المبكرين قد فهموا الحاجة لاستخدام «شبكة العنكبوت من أجل اصطياد الذباب»؛ فجعلوا نقل الرسالة التعليمية داخل الكتابة أكثر جذبا من خلال استخدام شخصيات الأطفال، والقصائد الشعرية، والأحاجي، والألغاز، والحوارات الدرامية، والإشارات إلى ألعاب الأطفال. إن المصادر الرقمية الجديدة والمتعددة، والتي تتيح الوصول بسهولة للنصوص المنشورة قبل عام 1900 عبر شبكة الإنترنت، تسهل على أي شخص مهتم بهذا النقاش أن يطلع على عينة واسعة مما نشر للأطفال قبل عام 1900، وأن يتحقق إلى أي مدى كان التعليم والتسلية متضافرين إلى حد كبير.
أحد الأسباب التي تجعل الدراسات التاريخية الأولى لأدب الأطفال عادة ما تبدأ في القرن السابع عشر، هو أنه بحلول ذلك الوقت كانت المواد المخصصة للأطفال قد صارت تطبع بهدف التوزيع العام بدلا من أن تكتب بخط اليد من أجل الاستخدام الخاص، أو تستخلص من الكتابات المخصصة للكبار؛ وهذا رسخ هذه الكتابات كجزء من ثقافة الطباعة، وغالبا ما مثل الاهتمام بتاريخ المواد المطبوعة نقطة انطلاقة للدراسات التاريخية المبكرة لكتب الأطفال. ونظرا لأن المواد التي كانت تؤلف للأطفال كانت قليلة نسبيا - كما رأينا في حالة كومينيوس وجانواي - فقد بقيت الأعمال الشهيرة تطبع لفترات طويلة، وغالبا في مجموعة متنوعة من الصيغ المزينة بالرسوم، وكثيرا ما كانت تظهر في مجموعات الكتب والمذكرات. فعلى سبيل المثال، يتذكر تشارلز لامب - الذي ولد في عام 1775 - أنه كان يحب «كتابا عظيما عن الشهداء»، هو («كتاب فوكس عن الشهداء» الذي نشر للمرة الأولى عام 1554، وترجم للإنجليزية في عام 1563). إن التاريخ الطويل والمتنوع لهذه الأعمال يجعلها دراسات حالة مثيرة للاهتمام من أكثر من منظور؛ فمن الممكن استخدامها لاستكشاف تقنيات الطباعة والتسويق، والأفكار المتغيرة عن الطفولة والتعليم، والجدال السائد بخصوص الدين والسياسة والنوع والعلم وتجربة الحياة اليومية، وغير ذلك الكثير من الموضوعات. ومع ازدياد الاهتمام بالدراسات التاريخية عن الطفولة والكتب وأدب الأطفال، صارت هناك مواد جديدة تدرس؛ لأنه أصبح من الواضح أن الكتابة للأطفال قد بدأت قبل جيمس جانواي ومعاصريه بوقت طويل.
أدب الأطفال في العصور القديمة والوسطى
يشتمل كتاب «تاريخ أدب الأطفال» الذي ألفه سيث ليرر عام 2008 على مناقشة لنصوص إغريقية، ورومانية، وقروسطية قدمت للأطفال. ويوضح ليرر أنه في كل من تلك الفترات، رسخت التقاليد التي كان لها تأثير مستمر - ولكن غير معترف به لوقت طويل - على أدب الأطفال (كانت المواد التي ناقشها ليرر مكتوبة باللغة اللاتينية، ولكن كما رأينا في كتاب «العالم المرئي بالصور»، فإن اللغة اللاتينية ظلت على مدار قرون لغة أساسية في التعليم؛ ومن ثم فإن تلك الأعمال أثرت على النصوص التي كتبت وقرئت باللغة الإنجليزية). على سبيل المثال، كان أطفال الإغريق والرومان يتعلمون مهارات المواطنة، وسمات البطولة، وتعقيدات الأخلاق والفضيلة، والسلوكيات الملائمة للجنسين، وذلك من خلال تعلم ترديد مقاطع من نصوص تشمل «خرافات أيسوب» و«الإلياذة» و«الإنياذة». وبينما كان ما يتعلمونه عبارة عن فقرات مأخوذة من نصوص موجودة بالفعل مخصصة للجمهور العام، وليس نصوصا مكتوبة خصوصا للأطفال، فإن الطريقة التي عدلت بها تلك النصوص لكي تلائم احتياجات واهتمامات الأطفال تضع هذه الأعمال داخل نطاق أدب الأطفال. على سبيل المثال، كانت المقتطفات تختار وفقا لملاءمتها للأطفال، وتعدل لكي تناسب قدراتهم وتصبح أكثر جاذبية من خلال توظيف عناصر كالقافية الشعرية، وإدراج رسوم توضيحية. أثناء العصور الوسطى في إنجلترا وعبر أوروبا، كانت هذه الخصائص تستخدم في الكتابة خصوصا للأطفال، بدءا من كتاب «مرآة للأمراء» بما يحتويه من دروس للملوك، ومرورا بتوجيه الصبية المتمرنين على المهن، ووصولا إلى النصح المقدم للأطفال الذين يربون في الأديرة والذين يتعلمون فضائل حياة التعبد. ويقترح ليرر أنه من رحم هذه الخصائص ولدت الكثير من الأساليب الأدبية التي تستمر في الظهور داخل الكتابات المخصصة للأطفال.
وتكشف المناطق الجديدة للدراسات الأدبية عن أمثلة جديدة للكتابة للأطفال؛ مما يغير بدقة علامات بارزة وراسخة في تاريخ أدب الأطفال. فعلى سبيل المثال، كانت الدراسات التاريخية لأدب الأطفال تحتفي - على نحو تقليدي - بانطلاق النشر التجاري من أجل الأطفال في القرن الثامن عشر على أنها اللحظة التي شهدت ميلاد أدب الأطفال كما نعرفه اليوم. وعلى الرغم من أن حقيقة أن إمكانية بيع المواد المطبوعة بمختلف أنواعها للأطفال قد استثمرت للمرة الأولى من قبل أصحاب المطابع الناشرين بالقرن الثامن عشر تظل صحيحة، فقد أصبح واضحا الآن أن هذا الأمر لم يكن تطورا تلقائيا، وإنما كان جزءا من متسلسلة أدبية ظل فيها الآباء والمعلمون وغيرهم من الكبار المشاركين في تعليم وتثقيف الأطفال يجربون لوقت طويل طرقا لتأليف مواد جذابة ومشوقة لكي يقرأها الأطفال.
مجال النشر للأطفال: ابتكارات القرن الثامن عشر
كانت إحدى طفرات فهم القوى التي شكلت النشر التجاري للأطفال في القرن الثامن عشر هي الاكتشاف الذي حدث في تسعينيات القرن العشرين، لمجموعة من المواد مكتوبة بخط اليد، كتبتها جان جونسون في أربعينيات القرن الثامن عشر من أجل تعليم أطفالها القراءة. فقد قدمت البطاقات والألعاب والدمى والكتب الشخصية التي صممتها جونسون بإبداع من أجل أطفالها، وجسدت فيها شخصياتهم، دليلا واضحا على وجود تقليد تأليف أدب الأطفال بالمنزل، والذي استوحى الأفكار من النصائح والممارسات التعليمية الحالية، ولكن قام بتعديلها لكي تناسب الاحتياجات الخاصة بأطفال محددين. ولقد أثبتت الأبحاث التي أعقبت الاكتشاف الخاص بجان جونسون أن الناشرين التجاريين لم يخترعوا طرقا جديدة للكتابة للأطفال، ولكنهم كانوا يعدلون الممارسات التي كانت موجودة بأشكال متنوعة منذ عدة قرون. لقد صار واضحا الآن أن الشخصيات الرائدة في مجال الطباعة والنشر، مثل جون نيوبيري (1713-1767)، وماري كوبر (توفيت عام 1761)، وجون هاريس (1756-1846)، وويليام جودوين (1756-1836)؛ كانوا يحاولون استنساخ الرابطة بين مواد القراءة التي تم إنتاجها في المنزل وشخص بالغ مهتم - والذي عادة ما يكون الأم - يقرأ للأطفال ويعلمهم، وذلك بغرض استبدال نسخهم المطبوعة من هذه المواد بالنسخ التي كانت تكتب منزليا. (من المفترض أن معظم المواد المصنوعة في المنزل كانت أقل دقة وأقل عناية من تلك التي كتبتها جان جونسون).
شكل 1-2: «هذه الفتاة لكي تحصل على المال»: واحدة من العديد من البطاقات التي ألفتها جان جونسون من أجل أطفالها في أربعينيات القرن الثامن عشر.
2
على عكس الوالدين، كان أصحاب المطابع الناشرون ينتجون مواد القراءة للأطفال بغرض بيعها، بمعنى أنه كان لا بد لموادهم أن تجذب الكبار الذين كانوا يشترون الكتب والمواد المطبوعة الأخرى وترضيهم مثلما ترضي القراء الأطفال ، وربما قبلهم. وهذا الإحساس بوجود جمهور مشترك من الكبار والأطفال يتضح أيضا في الأعمال المبكرة، والتي من أمثلتها ذلك الخطاب الموجه للآباء، الذي يحثهم على بذل كل الجهد من أجل إنقاذ أطفالهم، والذي افتتح به جيمس جانواي كتابه «دليل للأطفال». وعلى يد محترفي القرن الثامن عشر - أصحاب المطابع والناشرين والرسامين والمدرسين - صارت ممارسة مخاطبة الكبار والأطفال في الوقت نفسه تتم بطريقة مؤسسية. وقد بدأ المشاركون في إنتاج المواد المطبوعة للصغار - ربما من أجل مقاومة آثار مخاطبة الكبار - في تجربة خصائص النصوص الموازية المصممة خصوصا لكي ترسخ فكرة أن أعمالا بعينها مخصصة للأطفال. وقد ركزت هذه التجارب في بعض الأحيان على الحجم، فالكثير من الكتب كانت تتضمن كلمة «صغير» في عناوينها، وكان حجم الكتب بالفعل صغيرا، كما هو الحال مع كتاب «مكتبة ليليبوتيان» (1779) المكون من عشرة مجلدات تبلغ أبعاد كل مجلد منها 99 × 78 ملليمترا (4 × 3 بوصات). ومن بين الطرق الأخرى لابتكار مظهر جذاب للقراء الأصغر سنا استخدام الورقات الأخيرة ذات الألوان المبهجة، واستخدام الألوان والرسومات والقصاصات والتغليف المبتكر، مثل مجموعات الكتب التي تشبه المكتبات المصغرة. وهذه العناصر جعلت عملية التعرف على كتب الأطفال سهلة، ومن خلال ذلك أكدت على فكرة أنه يجب السماح للأطفال بالوصول إلى الكتب بأنفسهم؛ ومن ثم زادت من المبيعات. وكان أسلوب تقديمها يشير إلى أن تلك المواد جيدة ومناسبة للأطفال.
شكل 1-3: الدمج ما بين الحجم المصغر والتقديم التفصيلي - على شكل خزانة كتب ورفوف على طراز مكتبي مليئة بالكتب المصغرة الكاملة - سمة للطاقة الإبداعية التي استخدمت في التسويق للقراء الصغار.
3
وبالطبع كما تتغير الأفكار الخاصة بالطفولة، فإن فهم ماهية الأشياء المناسبة للأطفال وما يستمتع به الأطفال يتغير أيضا؛ بمعنى أنه قد يكون من الصعب على العين المعاصرة أن تدرك جاذبية الكثير من المواد التي كانت رائجة في أيامها. ومع ذلك، فهناك أدلة جوهرية توضح أن الكثير من الكتب التي نشرت في تلك الفترة - بما فيها كتب مثل «رحلة الحاج» الذي كتبه جون بانيان عام 1678، والتي لم تكتب في الأساس للأطفال ولكن أعيد تقديمها من أجلهم - بقيت مفضلة لدى القراء الصغار لفترة طويلة بعد ظهورها لأول مرة. على سبيل المثال، في عام 1862، كتب الكاتب البريطاني جورج كراب لأحد أصدقائه أن ابنته ذات الأعوام الستة كانت متعلقة للغاية بحكاية بانيان لدرجة أن «الطفلة المسكينة قد ضبطتها مربيتها التي كانت نائمة وهي تقرأ في الكتاب في الخامسة من فجر هذا اليوم، وهي لا تطيق صبرا - وهي طبيعتنا نحن البشر - حتى تنتهي من الكتاب الممتع». وبالمثل، فإن شخصيات وتعبيرات كتب الأطفال قد صارت مألوفة للغاية لدرجة أنها دخلت اللغة الشائعة بين الناس وظلت باقية حتى يومنا هذا. ويعد تعبير «الفتاة الطيبة ذات الحذاءين» مثالا لتلك الشخصيات، بينما سيكون من الصعب أن نجد مجموعة مختارة من أشعار الأطفال لا تحتوي على إحدى الأغنيات التي جمعت للمرة الأولى في «كتاب أغاني تومي ثامب الجميلة»، المجلد الثاني (1744)، ومن بينها «باه، باه، العنزة السوداء»، «من الذي قتل الديك روبن؟»، «أيها الفتيان والفتيات، تعالوا لكي نلعب»، «الخنفساء الصغيرة، الخنفساء الصغيرة».
ولكن ما يعتبره الكبار «مناسبا» قد لا يتوافق دائما مع ما يستمتع به الأطفال أو ينتابهم الفضول لقراءته. وإحدى المناطق الأخرى لدراسات أدب الأطفال، والتي تغير من فهم تاريخ الموضوع، هي دراسة كيف قرأ أطفال القرن الثامن عشر المواد التي أعطيت لهم وكيف استجابوا لها، وذلك وفقا للأدلة المستقاة من الملاحظات والرسومات الموجودة على هوامش الكتب، وكذلك معرفة إلى أي مدى كان الأطفال يشتركون في عملية اختيار تلك المواد. إن مقارنة التعليقات والرسومات الموجودة في الكتب التي كانت يوما ما ملكا للأطفال بالصور التي يظهر فيها أطفال يمسكون بكتب بين أيديهم، أو يحاولون خلسة الوصول إلى الكتب التي وضعت بعيدا عن المتناول، يعرفنا عن إلى أي مدى كان الأطفال يستاءون أو يستمتعون بالمواد التي كانت تمنح لهم لكي يقرءوها، وإلى أي مدى كانوا يرغبون في الحصول على ما كانت ممنوعة عنهم قراءته. وهذا النوع من التحليل هو نموذج للطريقة التي يتوسع بها فهم الموضع الملائم لأدب الأطفال في تاريخ القراءة والثقافة المطبوعة والطفولة؛ حيث صار يتوافد على هذا المجال المزيد من الباحثين من خلفيات متنوعة.
وقد وضعت القوى التجارية والتربوية والفلسفية التي شكلت منظومة النشر للأطفال في القرن الثامن عشر ضمن سياق حركة التنوير، بما اتسمت به من التزام تجاه المنطق والتفكير العلمي والتقدم. وبالنسبة للعصور القديمة، فقد اعتبرت الكتابة للأطفال جزءا من تعليمهم لكي يصبحوا مواطنين ذوي فائدة وقيمة كبيرة؛ فكما ساعد أدب الأطفال في تعليم الأطفال القراءة، فقد حذر من الخرافات ومخاطر الإخفاق في اكتساب تعليم شامل. وقد علم أدب الأطفال مبادئ المنطق، وتناول بعض أوجه الظلم في ذلك الوقت مثل العبودية. وبوجه عام، فإن القراء الصغار المعنيين بقراءة نصوص القرن الثامن عشر المخصصة للأطفال كانوا متحررين من وصمة الخطيئة الأصلية التي اتسمت بها كتابات الأطفال في القرن السابع عشر؛ إلا أن الأعمال المخصصة للأطفال كانت تذكر القراء بانتظام بجهلهم وقلة خبرتهم وإمكانية ارتكابهم للأخطاء. وتؤكد قصص كالتي يحتويها كتاب ماريا إدجورث «مساعد الوالد» (1796) على الحاجة إلى اليقظة الدائمة والتوجيه المستمر من جانب الكبار كي يمنعوا الأطفال من الخروج عن الطريق القويم.
وعلى نحو تقليدي، فقد وصف مؤرخو أدب الأطفال كتابات القرن الثامن عشر بأنها استمرار للتحيز المبكر تجاه التعليم والتوجيه، بينما تقدمت التسلية للصفوف الأمامية فقط على أيدي مجموعة من كتاب ورسامي القرن التاسع عشر، مثل واشنطن إيرفنج (1783-1859)، وناثانيال هوثورن (1804-1864)، وإدوارد لير (1812-1888)، وتشارلز كينجسلي (1819-1875)، ولويزا ماي ألكوت (1832-1888)، ولويس كارول (1832-1898)، ووالتر كرين (1845-1915)، وراندولف كالديكوت (1846-1886)، وكايت جرينواي (1846-1901)، وجويل تشاندلر هاريس (1848-1908)، وهوارد بايل (1853-1911). وقد ظهر الكثير من الأعمال ذات المستوى الأدبي الراقي والجدارة الفنية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، حتى إن تلك الفترة صارت تعرف باسم «العصر الذهبي» لأدب الأطفال. ولكن مثل هذه المسميات العامة غير التفصيلية أصبح مفهوما أنها مسميات مختزلة؛ فقد كان هناك الكثير من الأعمال من أجل تسلية وجذب القراء المبكرين، ونشر كم كبير من كتابات الأطفال سيئة الصياغة ذات الأسلوب التعليمي المباشر في القرن التاسع عشر. ولكن ما حدث هو أنه خلال القرن التاسع عشر، حدث تراجع تدريجي للطفل العقلاني الجاهل، كما صوره أدب الأطفال في عصر التنوير، ليحل محله أطفال تركيبتهم أكثر تعقيدا - سواء كشخصيات أو قراء - في حين أتاحت التطورات في تكنولوجيا النشر إنتاج تشكيلة كبيرة من الكتب والمطبوعات الدورية، والمقالات المطبوعة من أجل الأطفال - والتي تتميز جميعها بألوانها الغنية وتصميماتها الجذابة - بكميات ضخمة وأسعار متنوعة.
أصبح أدب الأطفال مجالا مربحا للغاية بالنسبة للكثير من الناشرين، لا سيما دور النشر الدينية، مثل «جمعية الأعمال الأدبية الدينية» (بداية من عام 1799)، و«جمعية نشر المعارف المسيحية» (بداية من 1698)، والتي انطلقت لمواجهة ذلك النوع من الأدب الرائج المتجسد في الغايات التي يغلب عليها الطابع الحسي لنشر كتيبات الحكايات والأشعار، وكذلك المطبوعات الحسية الرخيصة المسماة «بيني دريدفول». وفي حين أن معظم هذه المطبوعات لم تكن مكتوبة للأطفال، إلا أنه غالبا ما كان الأطفال هم من يقرؤها. وقد حارب ناشرون، مثل «جمعية الأعمال الأدبية الدينية» و«جمعية نشر المعارف المسيحية»، والكثير من الناشرين التجاريين الذين ساروا على نهجهما، هذا الاتجاه باستخدام السلاح نفسه من خلال استخدام استراتيجيات سرد وتقديم مشابهة - كالحبكات الروائية المفعمة بالحيوية، والشخصيات الصغيرة المثيرة للتعاطف، والرسومات الجريئة - من أجل إيصال رسائل تتماشى مع الجهات الدينية التي يمثلونها. ولم ينتج عن دوافعهم الجديرة بالاحترام بالضرورة نصوص مثيرة للضجر؛ فمن أجل إظهار عواقب الخطيئة، كان لا بد للحبكات الروائية لتلك الأعمال أن تبرز أولا الرذائل والشرور، في حين أنه من أجل الحض على الإحسان، روى المؤلفون حكايات مثيرة للشفقة عن ضحايا من الأطفال البؤساء والأمهات الفاضلات الذين عانوا حتى الموت بسبب الفقر. وبنهاية القرن التاسع عشر، امتد النشر للأطفال ليشمل كل شيء بداية من هذه القصص الهادفة ذات المغزى الديني والتي تدمي القلب، ووصولا إلى الخيال والقصص الخرافية والقصص التافهة ومجموعة من الأجناس الأدبية التي تشمل المغامرات وقصص الحيوانات والقصص المدرسية، وكان هناك أيضا كتب مصورة مبتكرة ومطبوعات دورية. لقد صار مجال النشر للأطفال ديناميكيا للغاية وناجحا تجاريا حتى إنه في عام 1899، وبينما كان هنري جيمس يتفكر في «مستقبل الرواية»، أبدى هذه الملاحظة الغاضبة:
إن ذلك الأدب - كما يمكن أن نطلق عليه من باب التيسير - المخصص للأطفال هو صناعة تحتل في حد ذاتها مساحة كبيرة للغاية تصل إلى ربع الساحة الأدبية. وقد علمنا أنه يمكن تحقيق ثروات عظيمة - إن لم تكن شهرة عظيمة أيضا - من خلال الكتابة لصبية المدارس ...
وقد نبع جانب كبير من سخط جيمس من حقيقة أنه كان يعمل على إنتاج أعمال أدبية فائقة الجودة تحتل مكانة بارزة، وشعر بأن جهوده يعرقلها سوق تجاري لا يميز بدقة بين الكتابة الجيدة وتلك التي يستمتع بها هؤلاء الذين اعتبرهم «غير مفكرين وليست لديهم قدرة على التمييز»، وبخاصة النساء والأطفال. ولكن الواقع هو أنه بنهاية القرن التاسع عشر، كان سوق النشر يحدد فروقا دقيقة بين القراء، ولم يحدث ذلك في أي مجال أكثر من مجال النشر للأطفال المقسم إلى طبقات، والذي تعمد تقسيم جمهوره إلى فئات، وحرص على إرضاء أذواق القراء من مختلف الأعمار والطبقات الاجتماعية ومستويات الدخل والاهتمامات ومن كلا الجنسين. لكن جيمس كان محقا في نقطة ما؛ فما يسمى الآن «الروايات مختلطة الجمهور» - وهي نصوص تروق جمهورا مختلطا من الكبار والأطفال - كان موجودا في الماضي أيضا. ففي الأصل، كان الأكثر شيوعا هو أن «يعبر» الأطفال إلى نطاق نصوص الكبار، ليجلبوا تلك الأعمال التي تروقهم إلى النطاق الخاص بهم. والكثير من النصوص المبكرة التي عادة ما تدرج ضمن تاريخ أدب الأطفال تنتمي لهذه النوعية، وتعتبر روايتا «رحلة الحاج»، و«روبنسون كروزو» (1719)، وروايات شارلوت ماري يونج (وبخاصة «سلسلة ديزي» 1856) أمثلة لهذه النوعية. ولكن تماما مثلما انجذب الكبار في نهايات القرن العشرين إلى سلسلتي «هاري بوتر» و«مواده المظلمة»، فإن كثيرا من كتب الأطفال خلال القرن التاسع عشر قد حظيت بمتابعة كبيرة لا يشوبها أي شعور بالقلق من قبل الكبار. والأمثلة المبكرة للأدب القصصي مختلط الجمهور تتضمن رواية تشارلز كينجسلي «أطفال الماء» (1863)، وروايتي لويس كارول «أليس في بلاد العجائب» (1865) و«عبر المرآة» (1871)، والقصة اللقيطة التي ألفتها هيسبا ستريتون بعنوان «الصلاة الأولى لجيسيكا» (1867)، ونسبة كبيرة من أعمال مارك توين (1835-1910). وربما كانت قصص مغامرات الصبية هي أهم منطقة من مناطق القراءة المختلطة. وقد كان الرؤساء ورؤساء الوزراء من بين الكثيرين من الكبار الذين أرجعوا الفضل لقصص الصبية - كتلك التي كتبها كابتن ماين ريد (1818-1883)، وجي إيه هنتي (1832-1902) - في تعليمهم الكثير عن العالم الطبيعي والتاريخ والجغرافيا عندما كانوا صغارا، والذين عندما كبروا، صاروا قراء متحمسين لقصص روبرت لويس ستيفنسون المخصصة للصبية، وبخاصة رواية «جزيرة الكنز» (1881).
لقد اشتكى هنري جيمس من القصص المكتوبة لطلاب المدارس، مع أن نطاقا مكتمل التطور من الكتابة للفتيات قد تطور بنفس الدرجة خلال القرن التاسع عشر. فعندما بدأ النشر التجاري لكتب الأطفال، عادة ما كان الفتيان والفتيات يتشاركون الكتب والقصص نفسها، حتى لو طبعت تلك الكتب بزخارف نصوص موازية مختلفة قليلا. على سبيل المثال، كتاب «كتيب صغير وجميل للجيب» (1744) لجون نيوبيري، كان المقصد منه توجيه وتسلية كل من «السيد الصغير تومي» و«الآنسة الجميلة بولي»، وكان يوزع معه كرة ثنائية اللون للصبية أو وسادة دبابيس للفتيات، وكانت التعليمات تعطى لكليهما بأن يطلبا من مربيتهما أن تغرز دبوسا في الجانب الأحمر عند قيامهما بعمل جيد، ودبوسا في الجانب الأسود عند قيامهما بعمل سيئ. وكجزء من تقسيم الأسواق إلى طبقات في القرن التاسع عشر، كان الكثير من الكتب يستهدف الصبية «أو» الفتيات. وفي الغالب، كانت هذه قصصا متوازية. على سبيل المثال، كتب تدور قصصها في مدارس للصبية، وأخرى تدور قصصها في مدارس للفتيات، ولكن كان هناك أيضا اختلافات نوعية؛ فقصص المغامرات كانت تميل إلى أن توجه بالأساس إلى الصبية، بينما كانت القصص المنزلية أو العائلية توجه للفتيات. وعلى الرغم من أن معظم قصص الفتيات كانت تفتقر إلى البيئة المذهلة والحبكات المثيرة التي تتسم بها حكايات الاكتشافات والمعارك الموجهة للصبية، فإن الكثير من الشخصيات النسائية الشابة التي لا تنسى ولدت في تلك المرحلة، واستمرت في جذب المتابعين المتحمسين لفترات طويلة. وكان المؤلفون من أمريكا الشمالية بارعين على نحو خاص في تأليف الكتب التي تحتوي على شخصية فتاة جذابة ومفعمة بالحيوية، والأشهر بين تلك الشخصيات هي شخصية «جو مارش» التي قدمتها لويزا ماي ألكوت في كتابها «نساء صغيرات» (1868)، ولكن كان هناك تراث سابق من القصص المكتوبة عن هذه النوعية من الفتيات. على سبيل المثال، كان لرواية «هايدي» (1880-1881، وترجمت سنة 1884) للمؤلفة السويسرية جوهانا سبيري، متابعة جيدة خلال القرن الماضي، وفي عام 1937 كانت واحدا من أوائل كتب الأطفال التي يتم تحويلها إلى فيلم سينمائي من إنتاج شركات هوليود، وهو الفيلم الذي كان محطة الانطلاق للنجمة شيرلي تمبل. وقد استمر تدفق شخصية الفتاة الجذابة من أمريكا الشمالية في القرن التالي مع روايات مثل «آن في المرتفعات الخضراء» (1908)، و«ريبيكا من مزرعة سونيبروك» (1903)، و«بوليانا» (1913).
كتب الأطفال في عصر تمركز حول الطفل
إن ذلك السيل من شخصيات الفتاة الحيوية في بدايات العقد الأول من القرن العشرين ما هو إلا عرض للولع الثقافي بفكرة الطفولة (كمفهوم مستقل عن الأطفال الحقيقيين) الذي اتسمت به بدايات القرن العشرين، والذي وصل إلى أقصى ذروته في رواية جيمس ماثيو باري «بيتر بان، الصبي الذي رفض أن يكبر»، والتي عرضت نسختها المسرحية الأصلية سنة 1904؛ فقد استلهم باري روح العصر الخاصة ببداية القرن العشرين؛ مما ساعد في التبشير بقدوم «قرن الطفل»، ذلك القرن الذي شهد احتفاء بمخيلة وإبداع الطفولة. والدليل على الأهمية المستمرة التي أعطيت للطفولة موجود في المناقشات حول الحداثة والقوة الرمزية التي منحت للأطفال في فترة ما بعد الحرب، حينما كان الأطفال يمثلون الأمل في المستقبل بعد حربين عالميتين والدخول إلى عصر الذرة. ومنذ عام 1989، سعت اتفاقية الأمم المتحدة لحقوق الطفل إلى دعم حقوق الأطفال في حماية احتياجاتهم الأساسية في الحياة والازدهار. إن الأفكار المتغيرة بشأن الأطفال والطفولة والمثبتة بوضوح في هذا الملخص الموجز قد رسمت ملامحها تفصيلا في الكتابة للأطفال.
خلال النصف الأول من القرن العشرين، سيطرت رؤية خاصة للغاية عن الطفولة على أدب الأطفال الأنجلو-أمريكي؛ فشخصيات الأطفال في أدب الأطفال، أو القراء الأطفال الذين يفترض أنهم يقرءون ذلك الأدب، كانوا - مع بعض الاستثناءات القليلة للغاية - في مقتبل البلوغ من أبناء البيض ومن الطبقة المتوسطة، يعيشون في عائلات بها والدان ميولهما الجنسية سوية - وغالبا ما يكون هناك بعض الخدم بمنزل الأسرة - وفي ثقافة أبوية. وكانت الطفولة مرتبطة بقوة بالطبيعة، وكان الأطفال في تلك الكتب عادة ما يظهرون شديدي البراعة، سواء أكانوا يرتحلون ويعسكرون في مخيمات، أم يبحرون في السفن ويركبون الأحصنة، أم يحلون الجرائم، بل وكثيرا ما كانوا يتركون دون إشراف لأيام متتالية. وبوجه عام، كان أدب الأطفال يصور الطفولة كمرحلة متحررة من القلق أو الاحتياج، وهو ما دعم الإحساس بالحنين إلى الطفولة، والذي تجلى في بعض من الكتب الخالدة التي ألفت ما بين عامي 1900 و1950، ومن بينها رواية «الريح في أشجار الصفصاف» (1908) لكينيث جراهام، ومجموعة كتب «ويني الدبدوب» (1926-1928) لآلان ألكسندر ميلن. وهذه النغمة أكثر تكرارا في الكتب البريطانية عنها في الكتب المؤلفة في الولايات المتحدة، ولعل ذلك يعكس انخراط إنجلترا الأطول والأكثر تكلفة في حربين عالميتين، وأفول إمبراطوريتها الذي تزامن مع البزوغ العالمي لنجم الولايات المتحدة. وهكذا يمكن مساواة الحنين إلى الطفولة بإدراك ثقافي أكبر بأن التغييرات المرتبطة بالحداثة كانت تعمل كحلقات وصل تربط الحاضر بالماضي.
تطورات القرن العشرين
بحلول العقود الوسطى من القرن العشرين، لم يعد الحنين إلى الطفولة هو اللازمة المسيطرة على الكتابة للأطفال، وربما يكون أحد أسباب ذلك هو أن فترة الطفولة نفسها صارت أطول؛ حيث ارتفعت سن الانتهاء من الدراسة في إنجلترا والولايات المتحدة على حد سواء، بمعنى أن عددا أكبر من الأطفال ظلوا معتمدين على أولياء أمورهم لفترة أطول؛ ومن هنا - وعلى الأقل كنوع من رد الفعل لهذه التعديلات - ولدت ثقافة المراهقين؛ ففي أعقاب نشر رواية «الحارس في حقل الشوفان» (1951) للكاتب جيروم ديفيد سالينجر، بدأت أولى الكتب المكتوبة خصوصا للمراهقين في الظهور على قوائم كتب الأطفال في الولايات المتحدة، وقد تبع ذلك - بعد فترة من التأخير - ظهور تلك الكتب في المملكة المتحدة. وقد مالت أولى الكتب المخصصة للمراهقين - مثل رواية «الغرباء» (1967) للكاتبة سوزان إلويز هينتون - إلى رفض نموذج الشباب خالي البال، وبدلا من ذلك، وتماشيا مع الدراسات المؤثرة مثل دراسة «الطفولة والمجتمع» (1950) التي أعدها إيريك إريكسون، فقد ركزت على المشكلات التي تواجه الشباب في كفاحهم لكي يكونوا مستقلين. علاوة على ذلك، بدأ أدب الأطفال - بما يتضمنه من أفلام وأعمال تليفزيونية وغيرها من المصادر الأخرى للمعلومات والتسلية التي يستخدمها الشباب - في تقديم أفكار وتوفير خبرات بديلة من نوع كان يعتبر قبل ذلك خارج نطاق الطفولة. وهذا الأمر قد قاد البعض إلى الادعاء بأن مرحلة الطفولة - التي تقاس بقلة الخبرة، وبعيدا عن أنه قد تم تمديدها - كانت في الواقع في طريقها للاختفاء.
ما لم يكن في طريقه للاختفاء - مع أنه بالتأكيد كان يتعرض لتحديات كبيرة في أدب أطفال منتصف القرن العشرين - هو ذلك العالم المليء بالعائلات السعيدة من الطبقة المتوسطة البيضاء ذات الميول الجنسية السوية. فبداية من كتب المبتدئين والحكايات الخرافية ووصولا إلى روايات اليافعين، بدأت صفحات كتب الأطفال والقصص المصورة والمجلات تمتلئ بالأطفال والشباب من مختلف الخلفيات الاجتماعية والأعراق، ولاحقا التوجهات الجنسية. وقد ساندت الجوائز الجديدة والمناهج الدراسية هذه التغيرات، فقد أظهرت رواية «ساحة جامبل» (1961) للكاتب جون رو تاونسند، أطفالا منبوذين من الطبقة العاملة يعيشون في بيئة حضرية مزدحمة، وهم يحاولون إعالة أنفسهم ويتجنبون نقلهم إلى إحدى دور الرعاية. ويعد هذا مثالا يوضح كيف أن تغير الزمن كفيل بأن يعيد في النهاية بعض جوانب مجال النشر على الأقل إلى نقطة البداية؛ إذ إن رواية تاونسند - في العديد من الجوانب - أشبه بقصة كان يمكن لجمعية الأعمال الأدبية الدينية أن تنشرها قبل قرن مضى، ولكن من ناحية الأسلوب، فإن رواية «ساحة جامبل» تنتمي بلا نزاع للقرن العشرين، تماما مثلما تنتمي إليه تلك المشاهد الصريحة والقاسية في روايتي الأديبة الأمريكية روزا جاي - «الأصدقاء» (1973)، و«روبي» (1976) - اللتين ترويان قصة فتاة تنتقل أسرتها من البيئة الريفية بترينيداد إلى حي هارلم بمدينة نيويورك، حيث تموت والدتها، ويعرضها والدها للإيذاء الجسدي، ويتعين عليها أن تتعامل مع التحيز والتحامل وصعوبات الحياة في شوارع مدينة أمريكية حديثة.
وعلاوة على إدراج المزيد من أنواع الأطفال، بدأ مؤلفو أعمال الأطفال في استخدام أساليب كتابة متنوعة - كالواقعية والخيال، والتراجيديا والكوميديا - من أجل مواجهة نطاق من القضايا الموضوعية؛ فرواية «فستان بيل الجديد» (1989) للكاتبة آن فاين - والتي تحكي عن تلميذ اسمه بيل سيمبسون، يستيقظ في صباح أحد الأيام ليكتشف أنه قد تحول إلى فتاة ترتدي فستانا ورديا مزركشا للذهاب إلى المدرسة - هي رواية كوميدية، ولكنها تمثل استجابة قوية لقضية عدم المساواة بين الجنسين. بينما تتناول رواية «إننا جميعا نسقط» (1991) للكاتب روبرت كورماير، التداعيات المأساوية لعنف المراهقين العشوائي وتخريب الممتلكات، في حين تستكشف رواية «السقوط» (1995، وترجمت إلى الإنجليزية سنة 1997) للكاتبة البلجيكية آن بروفوست، العلاقات بين خيانة اليهود السرية للنازيين أثناء أحداث الهولوكوست وبين الصعود الحالي لجماعات اليمين المتطرف في مدينة صغيرة بفرنسا، بينما يتخيل ديفيد ليفيثان مدينة فاضلة للشواذ جنسيا في روايته «صبي يقابل صبيا» (2003). وكما تشير هذه السيناريوهات، فإن الكتابة للأطفال صارت الآن تعكس الكثير من أشكال الطفولة المختلفة، وتجارب المراهقة المختلفة في أنواع كثيرة من العائلات: العائلات التي يعيش معها أحد الوالدين فقط، والعائلات التي فيها الوالدان من نفس الجنس، والعائلات التي بها أولاد من زواج سابق، إلى جانب العائلات النموذجية التقليدية.
ليس المقصد من هذا هو التلميح بأن مهمة جعل أدب الأطفال معبرا عن كل الطوائف قد اكتملت الآن؛ فحتى في البلدان التي تتمتع بصناعة نشر مكتملة التطور، يظل هناك الكثير من المجموعات التي تعتبر - على أفضل تقدير - غير ممثلة بالقدر الكافي؛ ففي أمريكا الشمالية - على سبيل المثال - لا يوجد سوى قدر محدود من أدب الأطفال عن السكان الأصليين للبلاد، وقدر أقل من تأليفهم. وأحد التفسيرات المحتملة لذلك هو أن فهم هؤلاء الناس لكيفية سرد القصص مختلف للغاية عن ذلك الفهم الخاص بالثقافة السائدة لدرجة قد لا تجعل المحررين يتعرفون على ذلك الأسلوب، بحيث إذا ما قدم الكتاب من السكان الأصليين قصصا للنشر، فقد لا يدرك المحررون أنها قصص، وإذا أدركوا ذلك، فربما لا يدعمونها بحجة أنه من غير المحتمل أن تحقق مبيعات تذكر. ولو نشرت إحدى قصص السكان الأصليين، فإن نوع التغييرات التي قد تتعرض لها أثناء عملية النشر - بداية من التحرير إلى إضافة الرسومات - ربما يغير القصة الأصلية بدرجة كبيرة، حتى إنها لا تعود جزءا أصيلا من تلك الثقافة. وسواء أكانت تلك التغييرات متعمدة أم تتم دون تفكير، فإن العواقب تظل واحدة. وفي البلاد التي لا يوجد بها بنية أساسية قوية لأدب الأطفال، أو التي يتحدث سكانها بأكثر من لغة - كما هو الحال في أجزاء من أمريكا الجنوبية وأفريقيا والهند - فقد تمنع المشكلات الاقتصادية واللوجستية بعض المجموعات من المشاركة في تأليف أدب قصصي للأطفال. وغالبا ما يكون الأعضاء المنتمون إلى الثقافة السائدة في أي بلد هم الحراس الرئيسيين للبوابات المؤدية إلى عالم أدب الأطفال - كمؤلفين وناشرين ومعلمين وأمناء مكتبات وأولياء أمور - وما يختارون أن يقدموه سوف يتأثر قطعا بفهمهم الخاص للطفولة والأدب، وطموحاتهم بشأن كليهما.
بالنسبة للكثير من الأطفال والشباب اليوم، ربما توفر شبكة الإنترنت طريقة لتخطي عدد كبير من هؤلاء الحراس، ويعد التجسيد الأحدث والأوسع نطاقا للمدى الذي وصل إليه هذا التخطي - عبر سنوات القرن الماضي - هو أن جزءا كبيرا بشكل متزايد من مرحلة النمو قد تضمن استخدام الوسائط الجديدة وتقنيات المعلومات. ويلقي
الفصل الثالث
نظرة تفصيلية على التغييرات التي تحدثها هذه الوسائل على ممارسات القراءة والكتابة، ولكن أي دراسة تاريخية لأدب الأطفال لن تكون مكتملة دون بعض المناقشات حول كيف، وإلى أي مدى تعامل الكتاب والناشرون مع الطرق الجديدة لسرد القصص وتأليف النصوص، والتي أتاحتها التقنيات الجديدة المتعاقبة.
قصص الأطفال المعاصرة والوسائط الجديدة
أحد الجوانب المهمة في التاريخ الطويل لأدب الأطفال يتعلق بالكيفية التي جرب بها المؤلفون والرسامون والناشرون بانتظام طرقا جديدة لإنتاج أدب الأطفال بأسلوب جذاب وزهيد التكلفة. ومنذ الأيام التي كانت فيها الرسومات تلون يدويا، ووصولا إلى الكتب المصورة العصرية المليئة بالرسومات، فإن أحد طموحات ناشري كتب الأطفال على مر العصور هو إنتاج كتب جذابة وغنية بالألوان قدر الإمكان ، وفي نفس الوقت زهيدة الثمن و(مربحة) قدر المستطاع؛ وهذا يعني أن أدب الأطفال كان دوما سباقا إلى تجربة تقنيات الطباعة الجديدة، والابتكارات في هندسة تصنيع الأوراق من أجل إنتاج كتب مبتكرة مثل المطويات المصورة، والكتب المجسمة، وغيرها من الكتب ذات الأجزاء المتحركة. والخط الفاصل بين الكتب والدمى والألعاب كان دائما خطا رفيعا، وعلاوة على أن هذا الأمر قد أدى إلى اكتشاف طرق جديدة لتقديم المواد المطبوعة إلى الأطفال، فقد أثر أيضا على طريقة سرد القصص، ويظهر هذا التأثير بوضوح في سلسلة كتب الألعاب «اختر قصص المغامرات الخاصة بك» التي اشتهرت لفترة وجيزة في ثمانينيات القرن العشرين، والتي استفادت كثيرا من صيغ وقصص ألعاب تقمص الأدوار، مثل «سجون وتنانين». وقد قدمت هذه الكتب البسيطة للقراء العديد من الحبكات والنتائج المحتملة، والتي تتحدد من خلال مزيج من الحظ (رمية النرد)، والاعتماد على استراتيجية في اللعب.
كان لظهور وسائط جديدة تأثير أيضا على القوالب والصيغ وتقنيات السرد الخاصة بالكتابة للأطفال. وقد تمت معالجة قصص الأطفال لتناولها في الأعمال السينمائية والتليفزيونية، وكتبت لكي تقرأ عبر الإذاعة، وسجلت على أسطوانات وشرائط كاسيت وأقراص مضغوطة، وتم التعامل معها على أنها أدب قصصي إلكتروني أو مسجل على أقراص مدمجة أو منشور عبر الإنترنت. وكان لكل وسيطة جديدة تأثيرها على كيفية كتابة القصص، وكيف وأين يمكن العثور عليها، بل وحتى ما يعنيه قراءتها. وديناميكيات هذه العلاقة هي موضوع
الفصل الثالث ، ولكن من الضروري أن ننهي هذه المراجعة التاريخية بإيضاح نقطتين: الأولى هي أن العاملين في مجال أدب الأطفال قد وسعوا لبعض الوقت نطاق اهتماماتهم لكي يشمل كل الصيغ التي يصادف الشباب من خلالها السرد القصصي، سواء على صفحة كتاب، أو على الشاشات، أو على المسرح، أو في كلمات أغنية، أو من مصادر شفوية، أو عبر أي أداة أو وسيطة أخرى. والنقطة الثانية تتعلق بدور الأطفال في إنتاج أدب الأطفال.
وكما أوضحت هذه الدراسة التاريخية الموجزة، فقد كان أدب الأطفال يكتبه بشكل تقليدي الكبار من أجل جمهور من الأطفال ، ومن المعتاد في مجال نقد أدب الأطفال - على العكس من أشكال الكتابة الأخرى - أن الجمهور هو من يحدد ويعرف أدب الأطفال؛ إذ لا يتم تعريفه من خلال خصائص مثل الجنس الأدبي أو الفترة الزمنية أو الأسلوب أو المؤلف. وتاريخيا، لم يكتب الأطفال المواد التي «نشرت» كأدب للأطفال؛ لأنه لم تتح لهم إمكانية كبيرة للوصول إلى الأدوات الضرورية للقيام بذلك، وحتى في الوقت الذي وصل فيه تقدير قدرة الأطفال على التخيل إلى ذروته، كان هناك افتراض عام بأن الأطفال لا يمتلكون خبرة كافية بهذا العالم أو بحرفة الكتابة لكي يكون لديهم ما يقولونه، أو لكي يقولوا ما يدور برءوسهم بطريقة مثيرة للاهتمام. وفي الواقع، لقد كان الأطفال دائما «منتجين» للقصص والألغاز والشعر والنكات وغيرها من المواد الأدبية (بما في ذلك الروايات والقصائد والمسرحيات وغيرها من الأعمال الأدبية الأكثر وضوحا)، وفي عصر النشر المكتبي، والروايات التي يؤلفها المعجبون، وغيرها من أشكال المنشورات عبر الإنترنت، فإن الأطفال والشباب صاروا يعثرون على طرق للكتابة لجمهور يتخطى نطاق عائلاتهم وأصدقائهم وأقرانهم، وما زال الوقت مبكرا لكي نحدد نوع التأثير الذي سيتركه هذا الأمر على فهمنا للعناصر التي تشكل أدب الأطفال، ولكنه قد يلعب دورا مهما في إعادة النظر في مدى فائدة مسمى أدب الأطفال، على الأقل فيما يخص الدراسة الأكاديمية للكتابة الموجهة للأطفال.
الكتابة للأطفال
وفي سياق وصف نوع المادة الأدبية التي اعتبرت أدبا للأطفال في أزمنة مختلفة وكيف تغير هذا التوصيف، فقد اتضحت بعض الخصائص المقترنة بالكتابة للأطفال والشباب، وقبل المضي قدما ودراسة التطورات الأخرى التي طرأت على هذا المجال، حري بنا أن ننظر إلى بعض النزعات المسيطرة في القصص الخاصة بالأطفال والشباب، وكيف ترتبط تلك النزعات بصور الأطفال وفترة الطفولة وفترة المراهقة.
وبالرغم من التغيرات المحيطة بأدب الأطفال وقرائه، فقد كان هناك - على مر السنوات - اتفاق هائل حول المقومات التي تجعل أحد النصوص «مخصصا للأطفال» على مستوى الأسلوب والمحتوى. وبعد أن حللت باربرا وول (1991) الطريقة التي يؤسس بها عدد من كتاب روايات الأطفال الكلاسيكية المؤثرين العلاقة بين الراوي والقراء، توصلت إلى أن الطريقة التي يخاطب بها الكتاب الكبار القراء من الأطفال مشابهة للطريقة التي يتحدث بها الكبار إلى الأطفال، وتؤثر على نبرة الصوت والمفردات واختيار الكلمات وكم التفاصيل المتضمنة في التوصيفات والتفسيرات. وتحدد باربرا وول ثلاثة أساليب استخدمت على نحو تقليدي في الكتابة للأطفال: الأسلوب الأول هو المخاطبة المزدوجة، والتي يتنقل الراوي فيها بين مخاطبة القراء الأطفال ومخاطبة الكبار الذين من المفترض أنهم يقرءون بصحبتهم، أو يراقبون عملية القراءة، وعادة ما يظهر الراوي متحدثا بلغة تفوق مستوى استيعاب الأطفال، ومتواطئا مع الكبار. إن المخاطبة الفردية تخاطب القارئ الطفل فحسب، بينما تنجح المخاطبة المزدوجة في مخاطبة القراء من الأطفال والكبار في وقت واحد وبقدر متساو؛ مما ينتج عنه تجربة قراءة ممتعة ومرضية لكليهما. ومراعاة تصنيفات باربرا وول لأنواع المخاطبة قد يكون مفيدا في تحديد إلى أي مدى يفترض الكتاب أن قاعدة القراء من الأطفال، ويساعد في تتبع التغيرات التي تطرأ على علاقات الكبار والأطفال في النصوص الأدبية بمرور الوقت. وكما رأينا في بعض الأمثلة التاريخية التي ناقشناها من قبل، فقد كانت الكتابة المبكرة تميل إلى استخدام المخاطبة المزدوجة، حتى وصل الأمر إلى إدراج أقسام مخصصة للكبار في كتب الأطفال. وبداية من القرن العشرين وحتى الوقت الحاضر، سيطرت المخاطبة الفردية على الكتابة للأطفال الذين يقرءون الكتب باستقلالية تامة. أما الكتب المصورة - والتي عادة ما يقرؤها الكبار للأطفال - فقد استخدمت في الغالب المخاطبة الثنائية أو المزدوجة، في حين أن المخاطبة الثنائية تعد سمة مميزة للكتابات مختلطة الجمهور.
ولا يمثل أسلوب المخاطبة الاختلاف الوحيد بين الكتابة للأطفال والكتابة للكبار؛ ففي مقارنة بين الأسلوبين، كثيرا ما يتم اقتباسها، توصل مايلز ماكدويل إلى أن:
كتب الأطفال عادة ما تكون أقصر، وتميل إلى تفضيل المعالجة النشطة وليس السلبية، مع وجود حوار وأحداث بدلا من الوصف وسبر أغوار النفس؛ فأبطال القصص من الأطفال هم المسيطرون، وتستخدم الأعراف والتقاليد بكثرة، والقصة تتطور بداخل بنية أخلاقية واضحة ... وتميل كتب الأطفال إلى أن تكون تفاؤلية وليست كئيبة، واللغة موجهة للأطفال، وتتميز الحبكات الدرامية بترتيب متميز، والاحتمالية غالبا ما تكون مستبعدة، وقد يستمر المرء في الحديث عن السحر والخيال والبساطة والمغامرة إلى ما لا نهاية.
والدليل الذي يدعم الملخص الذي قدمه ماكدويل قدمه الباحث الدانماركي توربن فاينريش (2000)، الذي أوضح أن عملية تعديل نصوص الكبار لتناسب الأطفال تتطلب جعل تلك النصوص أقصر وأبسط، وإضافة رسومات إليها في أغلب الأحيان. وقد اختتم بيري نودلمان
الفصل الأول
من تحليله المفصل لأدب الأطفال، والمعنون «الكبير الخفي: تعريف أدب الأطفال» (2008)، بقائمة أطول، ولكن شديدة الشبه بالقائمة التي أعدها ماكدويل. وكما يستفيض نودلمان قائلا إنه من المهم أن نفرق بين الكتابة البسيطة والكتابة المفرطة في التبسيط؛ وذلك لأن الكثير من كتب الأطفال التي تبدو بسيطة تتحدث عن أشياء مثيرة للتفكير ببساطة راقية، بل وأحيانا خادعة. على سبيل المثال، تناقش روايتا «شبكة شارلوت» (1952) لإي بي وايت، و«الرجل» (1992) لرايموند بريجز - إلى جانب قضايا أخرى - قضيتي الموت والتهميش على التوالي (انظر الشكل رقم
6-2 ) بمهارة وأسلوب فلسفي. وكذلك، فليست كل كتب الأطفال مكتوبة ببساطة؛ فروايات مثل «الفأر وطفله» (1967) لراسل هوبان، و«كودي» (1994) لويليام ماين، و«الكاذب» (2009) لجاستن لاربالستيير، تتسم بصعوبة الأسلوب بالنسبة للقراء من أي سن أو مستوى ثقافي.
وحتى أواخر القرن العشرين، كان هناك نوع من الاتفاق غير المكتوب بألا تشتمل كتب الأطفال على الجنس أو اللغة البذيئة أو العنف غير المبرر، على أساس أن الكتابة للأطفال هي جزء من عملية التربية الاجتماعية؛ ولذا يجب أن تقدم نماذج طيبة، وتساعد القراء على تعلم السلوكيات المقبولة، التي ستساعدهم - على الأرجح - على عيش حياة ناجحة ومرضية. كما كانت هناك نزعة لتجنب النهايات الكئيبة، على افتراض أن الصغار يحتاجون للشعور بالثقة في المستقبل، وفي قدرتهم على التغلب على العقبات. ومع تغير الأفكار المتعلقة بالطفولة، انهار الإجماع على هذه الخصائص بشكل كبير، ولا سيما بالنسبة للقراء الأكبر سنا الذين لم يعتبروا في معظم فترات تاريخ أدب الأطفال جزءا من الجمهور الذي يستهدفه هذا النوع من الكتب . وقد مثل دمج الكتابة للمراهقين داخل أدب الأطفال تحديا للكثير من الافتراضات المتعلقة بأدب الأطفال، والتي ظلت سائدة لفترة طويلة؛ ونتيجة لذلك، يوجد الآن عدد كبير من كتب الأطفال المعقدة من ناحية الأسلوب، والتي تتضمن تلميحات جنسية وسبابا وعنفا عشوائيا، والتي تنتهي نهاية كئيبة. ومع تحرك النطاق العمري الذي يستهدفه أدب الأطفال بانتظام إلى أعلى، وبعد أن أصبحت القصص مختلطة الجمهور أكثر شيوعا، أصبح مسمى «أدب الأطفال» إشكاليا بشكل متزايد.
وما يساهم في زيادة إشكالية أدب الأطفال هو حقيقة أن الكتابات الجديدة تتواجد جنبا إلى جنب مع الكتابات المتراكمة المخصصة لصغار القراء. على سبيل المثال، الكثير من ناشري كتب الأطفال لديهم قوائم ضخمة بالكتب القديمة، والتي عادة ما تتضمن أعمالا «كلاسيكية» مثل «أطفال الغابة الجديدة» (1847)، و«نساء صغيرات» (1868)، و«بينوكيو» (1883)، و«الحديقة السرية» (1911)، والتي تم تأليفها عندما كانت الأفكار المتعلقة بالطفولة مختلفة للغاية. ولا تتعلق الاختلافات فقط بالكيفية التي نفهم بها الأطفال؛ فبالنسبة للأعين المعاصرة، عادة ما تبدو الطريقة التي كتب بها الكثير من الأعمال القديمة - والتي تدرج عادة في الدارسات التاريخية لكتب الأطفال - بعيدة كل البعد عن أن تكون قصيرة وبسيطة وحيوية وموجهة للأطفال، والأمثلة الواضحة على ذلك هي تلك الكتب التي أضافها الأطفال إلى قائمة قراءاتهم عندما لم يكن أمامهم الكثير من الروايات الأخرى لكي يقرءوها، كتب مثل «رحلة الحاج»، أو «رحلات جاليفر»، أو «الفارس الأسود» (1819). والكتب التي كتبت «خصوصا» للأطفال وكانت شديدة الرواج بين القراء الصغار في وقت نشرها تعقد الصورة بشكل أكبر، ومثال على ذلك رواية «عالم واسع، واسع جدا» (1850) لإليزابيث ويذريل، والتي تعد عملا ذا أبعاد ملحمية وأسلوب ديني مذهل. وحقيقة أن الكثير من هذه الأعمال لم تعد تقرأ اليوم إلا في المناهج الجامعية حصريا - هذا إن كانت تقرأ من الأساس - قد فتحت الباب للجدل حول ما إذا كان لا يزال من الجائز أن نعتبرها جزءا من أدب الأطفال أم لا.
وعلى الجانب الآخر، فإن محاولات ضمان أن النصوص الموجهة للأطفال مناسبة على أساس بساطة اللغة والأسلوب قد باءت بفشل متكرر، فما الذي يمكن أن تفعله أو تقوله عن رواية بياتريكس بوتر، «حكاية الأرنب بيتر» (1902) التي لا تزال محبوبة بشدة، والتي «تناشد» فيها العصافير الأرنب بيتر بأن «يخلص» نفسه بعد أن تعلقت أزرار قميصه في شبكة نبات عنب الثعلب الخاصة بالسيد ماكريجور؟ (وقد قيم بعض التربويين الأمريكان المفردات المستخدمة في رواية بياتريكس بوتر بأنها مناسبة لأولئك الذين يدرسون بالمرحلة الإعدادية وحتى الجامعة). ويعد طول الكتاب أيضا إشكاليا بالقدر نفسه؛ ففي حين أن الكثير من كتب الأطفال الآن أقصر من تلك التي صدرت في الماضي، فإن شعبية سلسلة روايات «هاري بوتر» - التي يزيد طول كل مجلد منها في المعتاد عن 400 صفحة (المجلد النهائي وصل إلى 900 صفحة) - قد فتحت الباب للكثير من سلاسل الروايات الخيالية الطويلة المخصصة للأطفال.
وبالنظر إلى نطاق المواد التي صنفت كأدب للأطفال طوال تاريخ ذلك الأدب، فليس من المفاجئ أنه قد ثبت مدى استحالة الوصول إلى طريقة متسقة لوصف ذلك الأدب وتعيين حدوده. وفي النهاية، فإن كثيرا من العاملين في هذا المجال يتفقون مع جون رو تاونسند - الناقد الأدبي ومؤلف كتب الأطفال - الذي توصل في عام 1971 إلى أن «التعريف العملي الوحيد لكتاب الأطفال في هذه الأيام، هو أنه ذلك الكتاب الذي يظهر في قائمة كتب الأطفال الخاصة بأحد الناشرين». لكن هذا الأسلوب البراجماتي لم يعد مجديا بالقدر نفسه الآن؛ لأن الكتب ربما تظهر في قوائم كتب الكبار والأطفال في الوقت نفسه، كما حدث مع رواية سلمان رشدي «هارون وبحر القصص» (1990)، ورواية إيان ماكيوان «الحالم في النهار» (1994)، ومعظم روايات جاين جاردام، وبالطبع الروايات مختلطة الجمهور لكل من جي كيه رولينج وفيليب بولمان ومارك هادون، والتي ذكرناها من قبل. ويبدو أنه إذا كنا سنتوصل لتعريف لأدب الأطفال، فربما يعتمد ذلك التعريف على الطريقة التي كتب بها النص والموضوع الذي يناقشه، بدرجة أقل من اعتماده على علاقته بالأطفال والطفولة وطريقة صياغته لكل منهما. هذا هو الاستنتاج الذي توصل إليه بيري نودلمان الذي يذكرنا بأن الأطفال والكبار مختلفون ، وأنه مثلما يتوجب على الأطباء وعلماء النفس والمعلمين والمهندسين المعماريين ومصممي الأزياء أن يضعوا احتياجات الأطفال في اعتبارهم، كذلك يتطلب الأطفال أشياء مختلفة فيما يقرءونه. ومع ذلك، فإن ما يتطلبه الأطفال يحدده الكبار استنادا إلى ذكرياتهم عن الأطفال والطفولة، وملاحظتهم عنهما والتفاعل معهما، ومجموعة من المعلومات السابقة والآراء المستقاة والصور عنهما.
الطفل داخل الكتاب وخارجه
رغم أن مصطلحات «الطفل» و«الطفولة» و«الأطفال» و«المراهقة» تستخدم بانتظام فيما يتعلق بأدب الأطفال، فإنه لا توجد نسخة موحدة من أي من هذه المصطلحات، ولا رؤية واحدة للطفولة خلف أدب الأطفال. وبينما كان لتأثير الحركة الرومانسية أثر عميق ومستمر على كثير من جوانب الطفولة في القصص الخاصة بالأطفال، وظهرت سيطرة بعض السمات (مثل إظهار الأطفال كمخلوقات بريئة ومحبوبة وقابلة للتعليم ومتحضرة)، فقد كان هناك أيضا شخصيات أطفال شريرة وقاسية ومتوحشة وغير قابلة للإصلاح. ويتضمن كل جانب من جوانب أدب الأطفال مجموعات متعددة من الأطفال والشباب؛ بداية من شخصيات الأطفال في النصوص الأدبية إلى القراء الأطفال الضمنيين (المتخيلين) ووصولا إلى القراء الحقيقيين من الأطفال. وفي حين أن الشخصيات والقراء الضمنيين ربما يكونون ثابتين على نحو ما، فإن القراء الحقيقيين يتغيرون باستمرار؛ ولذلك فعندما نتعامل مع كتاب من الماضي، فإن مصطلح أدب الأطفال يشمل القراء الذين قرءوه في وقت نشره، وأولئك الذين يقرءونه حاليا، وكل القراء بين هاتين الفترتين.
وكما أشرنا من قبل، فقد اختزل الآن مصطلح أدب الأطفال في المملكة المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية في الكتابة الموجهة للقراء من سن صفر وحتى 16 عاما (أي منذ لحظة الولادة وحتى السن التي يحق للشخص فيها ترك المدرسة بصورة قانونية)، ولكن هذا الأمر يختلف من دولة لأخرى، وقد تغير أيضا بمرور الزمن؛ فهؤلاء الأطفال يأتون من خلفيات متعددة، وسوف يكون لديهم - كأفراد وأعضاء في مجموعات - مجموعة من الاحتياجات والقدرات والخبرات، إذن، فكما كان من المستحيل تحديد مجموعة واحدة من السمات الثابتة الشائعة في الكتابة للأطفال، فإنه من المستحيل أيضا تحديد الطفل في أدب الأطفال. ومع ذلك ، فإن القصص الموجهة للأطفال تخاطب أشكالا من الطفولة وتكونها، وفي أثناء ذلك، فإنها تؤثر على كيفية فهم الأطفال والطفولة، وبخاصة من قبل الصغار. ومن بين العناصر المحورية لهذه العملية حقيقة أن الكبار هم من يؤلفون أدب الأطفال، وهم يفعلون ذلك طبقا لتوقعاتهم لما يجب أن تكون عليه الطفولة. وبينما قد تتفاوت هذه التوقعات تفاوتا كبيرا من وقت لآخر، ومن مكان لآخر، ومن شخص لآخر، فحقيقة أن الأطفال في أدب الأطفال هم شخصيات رسم ملامحها الكبار قادت ماريا نيكولاييفا (2009) إلى أن تستنج أنه يوجد على الأقل شيء واحد ثابت في أدب الأطفال؛ ما تطلق عليه اسم «معيارية الكبار»، أو الطريقة التي تحكمت بها معايير الكبار في أنماط أدب الأطفال، منذ نشأته وحتى يومنا الحالي. وعلاقة القوة ربما تكون صحيحة، ولكن معايير الكبار ليست أكثر ثباتا من تلك المعايير المحيطة بالطفولة؛ ومن ثم فإن ملاحظة نيكولاييفا تعد أكثر قيمة بسبب مجموعات الأسئلة التي تتمخض عنها من قيمتها كسمة مميزة لأدب الأطفال.
وأيا كانت طريقة تحديدها، فإن الفوائد المكتسبة من دراسة الكتابة للأطفال - سواء كأدب للأطفال أو كجزء من المعارف المتخصصة الأخرى - كثيرة للغاية. ولتوضيح هذا القول، ستتفرغ الفصول المتبقية من هذه «المقدمة القصيرة جدا» بعد مناقشة بعض المناهج التي تستخدم باستمرار في دراسة أدب الأطفال، لتقديم أمثلة للمجالات التي يثير فيها البحث في أدب الأطفال نقاشات أكاديمية أو يزيد منها.
هوامش
الفصل الثاني
لماذا تدرس كتب الأطفال وكيف؟
يلخص أدب الأطفال نطاقا من الروايات التي تشكل أدب «الكبار» القصصي ويوسعه ويعدله، ولكن لا يستخدم دارسو أدب الأطفال المناهج النقدية والنظرية نفسها فحسب، بل يعدلونها ويضيفون عليها أيضا؛ فهناك - على سبيل المثال - مناهج تركز على الجمهور المستهدف، ومناهج أخرى تنشأ عن دراسة الطفولة، وأخرى تراعي التفاعل بين الصورة والنص. ومع ذلك فبوجه عام، تدرس الكتابة للأطفال بالطرق نفسها التي تدرس بها النصوص الأخرى، رغم حقيقة أن كتب الأطفال تصنف على أساس الفئة العمرية أكثر من الفترة، أو الجنس الأدبي، أو مؤلفيها، أو غيرها من أسس التصنيف المحتملة تعني النزعة لاستخدام بعض المناهج أكثر من غيرها. يتناول هذا الفصل النقاد والمناهج التي أثبتت فائدتها لدراسة أدب الأطفال بالتحديد أيا كانت أعمار القراء وأيا كانت الصيغة أو الوسيلة التي يصل من خلالها الأدب إليهم. لكن قبل تناول كيفية دراسة أدب الأطفال، يستحق الأمر أن نلقي نظرة على ما تقدمه هذه النوعية من الأدب للباحثين، وما يمكن تعلمه من قصص الأطفال في الماضي والحاضر.
الكبار يقرءون الكتابة المخصصة للأطفال
عندما يقرأ الكبار الكتابات المخصصة للأطفال لأغراض الأبحاث والتدريس، يمكن أن تكون النصوص المخصصة للأطفال تنويرية على عدة مستويات؛ فحيث إن كل الكبار كانوا أطفالا في مرحلة من حياتهم، وإن كتب الأطفال تخاطب القراء من الأطفال وعادة ما تتضمن صورا للطفولة، فيمكن لكتب الأطفال على المستوى الشخصي أن تعيد إنشاء الصلة بين الكبار وأنفسهم في مرحلة الطفولة. وقد يزداد تأثير هذه العملية إذا ما كانت النصوص التي يقرءونها هي نفسها التي قرءوها خلال طفولتهم، فالكثير من الناس يشعرون بشيء من الإثارة عندما يقع بين أيديهم النسخة نفسها من كتاب كانوا يقرءونه خلال طفولتهم. وعلى الرغم من أن العودة إلى الكتب التي كنا نقرؤها ونحن صغار قد تثير في البداية بعض ردود الأفعال العاطفية والحنين للماضي، فإن أغلب الكبار يتغلبون على هذه المشاعر بردود فعل انتقادية مدروسة أكثر، وقد تصيبهم بعض النصوص بالإحباط بسبب أسلوبها الركيك أو تفاهتها. وفي حين أن هذه النصوص قد تحتوي على بعض المعلومات الثقافية الشائقة، فقد تتسبب أيضا في إثارة الشك في أن الاهتمام بالكتابة للأطفال أمر طفولي في حد ذاته، وأن أدب الأطفال هو أمر يجب التخلي عنه عند الكبر وتركه كجزء من الماضي بدلا من أن يكون أمرا يستحق الدراسة الجادة. لكن لا يقتصر أسلوب الكتابة الركيك أو التفاهة على أدب الأطفال، وليس من الغريب على الكبار أن ينتجوا كتابات رجعية أو طفولية عن الأطفال وإليهم. وهذا هو الاتهام الذي وجهه تي إس إليوت لاستحضار هنري فون لذكريات الطفولة، حيث قال : ... يمكننا - إذا ما اخترنا أن «نسترخي إلى هذا الحد» - أن «نغرق» في «ترف» ذكريات الطفولة، ولكن إن كنا وصلنا لمرحلة النضج والإدراك، فإننا سنرفض أن ننغمس في هذا الضعف لدرجة الكتابة أو نظم الشعر عنه. إننا نعلم أن الطفولة أمر يجب دفنه ونسيانه، رغم أن جثمانها يمتلك العزيمة لأن يظهر على السطح من وقت لآخر.
قد يكون تصوير إليوت للطفولة على أنها جثمان مدفون صادما، ولكن إدراكه أن هذا الجثمان يمكنه أن يجد طريقه للظهور بصورة دورية يمثل اعترافا منه بأن طفولتنا تستمر في الوجود داخلنا حتى بعد النضج، وهو سبب وجيه لإعادة فحصها، وكذلك لاستخدام المناهج النقدية القائمة على التحليل النفسي باستمرار في قراءة الكتابات المخصصة للأطفال.
ويتمثل أحد طرق العودة للطفولة في قراءة الكتب والقصص المصورة والمجلات وغيرها من الأعمال الأدبية التي قرأناها آنذاك، ولكن هذا لا يعني أن نحاول قراءتها من المنظور الذي كنا نقرؤها منه ونحن أطفال؛ فلا شك أن دراسات أدب الأطفال تعمد إلى تجنب هذا النوع من الترف الانتكاسي تحديدا. إن من ينظرون إلى أنفسهم أو إلى أطفال آخرين كأمثلة للقراء من الأطفال، إنما يفعلون هذا في محاولة منهم لاكتشاف سبب أن بعض الكتابات تكون ذات تأثير كبير في مرحلة الطفولة وما يمكن لهذا الأمر أن يكشفه؛ فكتاب «الصيادون المسحورون» (2010) لماريا تاتار - على سبيل المثال - يهتم بالطريقة التي ينسى بها الأطفال أنفسهم أثناء قراءة الكتب، فما الذي يميز الأطفال كقراء والكتب المعدة للأطفال والشباب لدرجة تجعلها شديدة الفاعلية في جعل الأطفال يهيمون بعيدا عن العالم من حولهم؟ في كتاب «الطفل الذي ربته الكتب» (2002)، يكشف فرانسيس سبوفورد - وهو يسترجع ذكريات طفولته، وهو طفل محب للقراءة - عن أنه كان تحديدا من نوعية القراء من الأطفال الذين يثيرون اهتمام الكاتبة تاتار؛ فهو يتذكر أنه كان «ينغلق عن العالم الخارجي حتى تتمكن (ذاته القارئة) من الانفتاح على العالم الداخلي»؛ مما تمخض عما يطلق عليه هو اسم «القراءة الفصامية».
وفي حين يهتم كل من تاتار وسبوفورد بتأثير الكتابات على القراء الصغار منفردين، فإن أغلب من يعملون في هذا المجال - باستثناء بعض التربويين (انظر الجزء الخاص بنقد استجابة القارئ فيما يلي) - يهتمون أكثر بما تكشفه هذه النصوص للأطفال عن موعد أو مكان أو جهة إصدارها. وقد يعني هذا إلقاء الضوء - على سبيل المثال - على المواقف من حركة الاستكشاف والاستعمار في قصص المغامرات التي نشرت بالقرن التاسع عشر، أو اشتراك شخصين من نفس الجنس في تربية الأطفال في الكتب المصورة في القرن الحادي والعشرين. وكما أظهرت النظرة التاريخية الشاملة في
الفصل الأول ، يمكن للنصوص الموجهة للأطفال أن تساعد على نشر أفكار عن «طفولة» الدول بالقدر نفسه الذي تنشر فيه أفكار عن الطفولة الفردية. وفي حقيقة الأمر، بعض خصائص أدب الأطفال التي حددت أثناء مناقشة ماهيته (خاصة في الفترة السابقة للمراهقة) - تحيزه تجاه البنى البسيطة نسبيا، وكذلك صلته بنظام التعليم على سبيل المثال - تعني أن المواقف الأيديولوجية والأجندات الخاصة عادة ما تكون أكثر صراحة ووضوحا مما هي عليه في النصوص الموجهة للكبار. وهذا من شأنه أن يجعل الكتابة للأطفال مصدرا للمعلومات التاريخية عن كل شيء، بداية من الحياة اليومية - إذ تدور أحداث الكثير من كتب الأطفال وأشعارهم وقصصهم في المنازل ودور الحضانة والمدارس، وتتضمن تلك الأنشطة البسيطة مثل التسوق والقيام بالأعمال اليومية الروتينية - ووصولا إلى الجدل حول أمر ما في أي وقت؛ ومن ثم، فإن دراسة كتب الأطفال يمكن أن تكون طريقة للتأمل في شخصياتنا أثناء الطفولة أو حتى ماض جماعي لفترة ما، ولكن هذه فقط بعض من الأسباب التي تجعل دراسة أدب الأطفال مثمرة ومجزية للغاية.
إرساء المعايير وخرقها
نظرا لأن الوسيلة الرئيسية للكتابة للأطفال هي اللغة، وحيث إن الأطفال خلال مشوار تعلم القراءة يكتسبون الكثير من المفردات والمفاهيم التي يستخدمونها للتفكير في أنفسهم وفي العالم من حولهم، فإن الكتابة للأطفال لديها إمكانية كبيرة للتأثير على ما يعتبره القراء المستهدفون أمرا طبيعيا أو جيدا أو مقبولا أو مهما أو غير عادل أو يجب الخوف منه. وهذا من شأنه أن يجعل كتابات الأطفال مصدرا قيما للمهتمين بالتحولات الأيديولوجية والتغيرات الثقافية. على الرغم من أنه في النصف الثاني من القرن الماضي تسبب دور أدب الأطفال في تثبيت الأنماط التقليدية الخاصة بالجنس والمنزلة الاجتماعية والعرق في إثارة جدل محتدم وحملات قوية لمقاومة هذه النزعات، فإن المدى الذي يمكن لأدب الأطفال أن يصل إليه في تشكيل شخصيات الأطفال عقليا واجتماعيا غالبا غير معترف به. ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي تستغل فيها الكتابة للأطفال في مساندة حملات متطرفة النزعة.
ونظرا لأن الطبيعة التشكيلية لأدب الأطفال غير معترف بها أو يتم التغاضي عنها خارج الفصول الدراسية؛ فإن لديها القدرة على العمل بعيدا عن أجهزة الاستشعار الثقافية والشخصية. وهذه مفارقة؛ فمن ناحية، يتسم أدب الأطفال بالتنظيم الشديد؛ حيث إن المشاركين في جعل الأطفال يهتمون بالكتابات المخصصة لهم عادة ما يكونون حذرين فيما يتعلق بالكثير من مظاهر الكتابة للأطفال؛ مما يؤدي إلى فرض نوع من القوانين الذاتية المتعلقة باللغة والمحتوى الذي سبق وناقشناه. وعندما يعتقد الأشخاص والمجموعات أن أحد النصوص قد تخطى الحدود المقبولة، يمكنهم أن يعارضوه بشدة، كما اكتشفت الكاتبة الأمريكية جودي بلوم؛ فقد استفز الكثير من كتب بلوم من عينوا أنفسهم أوصياء على أدب الأطفال، ولكن كانت روايتها «للأبد» (1975) - التي صورت فيها مراهقين يمارسان الجنس، وعملية إجهاض، ومحاولة انتحار فاشلة قام بها أحد أشخاص الرواية خوفا من أنه شاذ جنسيا (جميعها أمور غير مترابطة) - هي ما تسبب في كون بلوم واحدة من أكثر المؤلفين المحظورين في الولايات المتحدة الأمريكية.
لقد تحدت رواية «للأبد» التقاليد بوضوح؛ حيث إن كتب الأطفال عادة ما تكون أقل صراحة في الطريقة التي تطرح بها أسئلة هدامة عن الثقافة وتستكشف بها القضايا والسلوكيات والرغبات التي قد لا تعتبر مناسبة للأطفال. أحيانا قد لا يكون المؤلفون و/أو الرسامون أنفسهم مدركين لما يقترحونه؛ وكان هذا صحيحا على وجه الخصوص قبل أن يحدد سيجموند فرويد مفردات لوصف النفس. وقد أشار الكثير من القراءات لنصوص كلاسيكية مثل «أليس في بلاد العجائب» و«بيتر بان »، أن المؤلفين شعروا أنهم قادرون على استكشاف جوانب من أنفسهم أثناء الكتابة للأطفال ما كانوا ليدرجوها في كتاباتهم للكبار. وبدلا من ذلك، قد يسعى المؤلفون تحديدا إلى مخاطبة الجمهور اليافع؛ لأنهم يرغبون في تشكيل الجيل الصاعد من خلال تشجيعهم على رؤية الأمور من منظور جديد خارج عن الثقافة السائدة، أو لغرس طرق جديدة للتفكير والتصرف مقبولة رسميا. وقد استخدم المؤلفون في القرن السابع عشر كتب الأطفال لنشر أفكار معينة عن الدين والسلوك والحياة الاجتماعية، وفي القرن الثامن عشر نشرت الأفكار العلمية والسياسية الجديدة بين الصغار من خلال كتبهم ومجلاتهم التي تصدر بشكل دوري، كما شجع الإصلاحيون في العصر الفيكتوري القيم الدينية والاعتدال والتبرع للأطفال الفقراء من خلال نشر صفحات من القصص الخيالية للأطفال، ولكن خلال الحقبة المكارثية في الولايات المتحدة الأمريكية، أصبح أدب الأطفال مجالا يستطيع من خلاله بعض المعارضين للمجتمع المحافظ تنمية الرؤى التقدمية للمجتمع.
اتساع مجال دراسات أدب الأطفال
على الرغم من أن جميع المناهج النقدية والنظرية الملائمة لدراسة النصوص يمكن استخدامها لتحليل الأعمال المخصصة للصغار، فإن بعضها قد أثبت فاعلية أكثر من غيره، وسيلقي الجزء المتبقي من هذا الفصل الضوء على أكثر تلك المناهج تأثيرا. ومن الجدير بالذكر أنه في تسعينيات القرن العشرين لم يكن هناك الكثير من الدراسات النقدية عن أدب الأطفال، وقبل هذه الفترة كان من الممكن مناقشة بعض النصوص النقدية الفردية. وبحلول القرن الحادي والعشرين، وانعكاسا لزيادة الاهتمام بدراسات أدب الأطفال وارتفاع منزلتها ونشاطها، ازداد عدد المنشورات في هذا المجال؛ مما جعلها أكثر تركيزا على التوجهات في المقام الأول لا على الأعمال الفردية. ويعد النشاط الجم في الدراسات البحثية عن أدب الأطفال دليلا على عوامل جاذبيته، ليس أقلها حقيقة أنه يقدم مجالا جديدا لم يتطرق إليه أحد من قبل؛ فهناك الكثير من الكتاب والنصوص والصيغ ومجموعات الأعمال وحتى الفترات التي لم تحظ بسوى قدر ضئيل - أو لم تحظ بأي قدر - من الاهتمام. هناك أيضا الكثير من العمل الذي يجب القيام به عن التاريخ الببليوجرافي لأدب الأطفال. ويظهر جانب من ثرائه كمصدر من خلال فحص النصوص النقدية والتوجهات الرئيسية في دراسات أدب الأطفال.
شكل 2-1: هذه القصة تستخدم نصا بسيطا ودمية ورقية لتعليم القراء من الأطفال فضائل الطاعة والتواضع.
1
المناهج المبكرة
بدأت الاستجابات النقدية لأدب الأطفال في الظهور بانتظام خلال القرن التاسع عشر. وكانت مجلة «حارس التعليم» هي أولى المطبوعات التي تنشر مراجعات جادة لكتب الأطفال، وقد تأسست عام 1802 على يد السيدة المهيبة سارة تريمر، وهي والدة لاثني عشر طفلا، وكاتبة وناقدة وعالمة تربوية. وكما يوحي اسمها، فقد اهتمت مجلة «حارس التعليم» بحماية الأطفال من خلال التأكد من أن التعليم الذي يتلقونه مفيد لهم. ويعكس وجود مثل هذه المجلة اهتماما بالطبيعة المهمة والمتقلبة للقراءة التي تزايدت خلال القرن التاسع عشر. فهؤلاء الذين كانوا يتمتعون بآليات التذوق الجيد ويتحلون بالتحكم في النفس (وكانوا جميعهم تقريبا رجالا كبارا من الأثرياء وعلى درجة جيدة من التعليم) قد سمح لهم بالقراءة بحرية، ولكن ساد اعتقاد بأن الفقراء والنساء والأطفال - خاصة الفتيات - يجب تنظيم قراءاتهم. أوضحت السيدة تريمر في العدد الثاني من مجلتها أهمية التأكد من أن الأطفال يقرءون ما يوافق عليه الكبار المسئولون عنهم:
يجب ألا يسمح للأطفال بالاختيار بأنفسهم، أو أن يقرءوا أي كتب تقع بين أيديهم بالصدفة، أو تقدم إليهم لمطالعتها؛ بل يجب أن يتعلموا أنه من «واجبهم» أن يستشيروا والديهم في هذه المسألة الخطيرة.
وحقيقة أن امرأة هي التي نصبت نفسها مرجعا في أدب الأطفال أمر له أهميته؛ حيث إنها أثارت الشكوك حول أحد المعتقدات المهيمنة على دراسات أدب الأطفال، ألا وهو أن الرجال كانوا هم المسيطرين على الأعوام الأولى من النشر الموجه للأطفال. وقد كان من السائد اعتبار الآباء المؤسسين لهذا النوع من الدراسات هما جون لوك وجان جاك روسو، اللذين سيطرت نظرياتهما عن الأطفال والتعليم والحضارة - لا سيما كما رسماها في كتابيهما «بعض الآراء حول التربية» (1693) و«إميل» (1762) على التوالي - على تنشئة الأطفال وتعليمهم على مدار جزء كبير من القرنين الثامن عشر والتاسع عشر؛ فضلا عن جون نيوبيري الذي ينسب له فضل قيادة الناشرين التجاريين إلى مجال أدب الأطفال الجديد. ولكن تجاهلت هذه النسخة من ولادة أدب الأطفال الكثير من النساء اللاتي لعبن دورا رئيسيا في تأليف مواد القراءة الأولى، وقد أشار
الفصل الأول
إلى إسهامات ماري كوبر وجين جونسون، وهناك أيضا مؤلفات من النساء على غرار سارة فيلدينج، مؤلفة ما يعتقد أنه القصة المدرسية الأولى، ألا وهي «المربية» (1749)، وماريا إدجورث، التي صدر عملها الأول المخصص للأطفال، «مساعد الآباء»، عام 1796.
ومن ثم، ليست سارة تريمر سوى واحدة فقط من نساء عديدات شكلن مجال النشر للأطفال في سنواته الأولى، وفي هذه الحالة من خلال عملها كناقدة. وقد استخدمت آراء تريمر القوية المعارضة للقصص الخرافية والمناصرة للعقلانية المسيحية لإظهارها في صورة الشخصية القاسية التي ترغم الأطفال على قراءة المواد المملة؛ مما ساهم في تثبيت مفهوم آخر خاطئ وواسع الانتشار، وهو: أن النساء اللاتي كن يكتبن أو يدرسن أدب الأطفال في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر كن عبارة عن «كتيبة من الوحوش» يسعين لقتل السعادة في نفوس الأطفال ولا يتمتعن بقدرة كبيرة على رواية القصص المسلية، في حين كان الرجال - أمثال إدوارد لير وتشارلز كينجسلي ولويس كارول وجورج ماكدونالد - يقودون الأطفال للتمتع بمتع الخيال والهراء والروايات المحببة للأطفال. وكما أوضحنا مرارا وتكرارا (انظر الأقسام المتعلقة بالمناهج التاريخية والقائمة على النوع فيما يلي)، فإن هذا الوصف الذي يوضح تطور أدب الأطفال قد أساء إلى نساء القرنين الثامن عشر والتاسع عشر وكتاباتهن.
وبصفة عامة، كانت التعليقات المبكرة توجه إلى الآباء باعتبارهم المشترين المحتملين للكتب التي سيقرؤها أطفالهم، والذين كانوا يميلون - بما يتماشى مع منهج تريمر - إلى التركيز على ما إذا كان ما ينشر من أجل الأطفال قد ينفعهم (على سبيل المثال، يعلمهم الأخلاق والسلوكيات الفاضلة) أو يضرهم. وكانت النصائح المتعلقة بتحديد ماهية الكتب الضارة تميل لأن تكون أكثر تعقيدا من تلك النصائح المتعلقة باختيار الكتب المفيدة. كان النقاد الأوائل يفترضون بوجه عام أنهم يخاطبون جمهورا من الطبقة الوسطى (ويمكن القول إن هذا الوضع لا يزال ينطبق على العصر الحالي)، وأن نوع المادة التي يعتبرونها ضارة يختلف باختلاف الطبقة وجنس القارئ؛ لذا، فقد كانوا يعتقدون أن براءة الفتيات يمكن أن تتضرر بسبب الكتب ذات الفكر الدنيوي، في حين تساعد هذه النوعية من الكتب على إعداد الصبية لمواجهة مخاطر الحياة واتخاذ القرارات التي يستتبعها كونهم ذكورا. وقد كانت هناك مخاوف من أن انغماس أطفال الطبقة العاملة في القراءة قد يلهيهم عن القيام بأعمالهم، وربما يطلعهم على أفكار تجعلهم لا يتماشون مع وضعهم في المجتمع. وعلى النقيض، كان من شأن الكتب التي تتم الموافقة على قراءتهم لها - وهي بصفة أساسية الإنجيل والدعاية الدينية، ولاحقا بعض أنواع الروايات التي أنتجتها دور النشر الدينية - أن ترشدهم نحو الآراء المناسبة وتشجعهم على المحافظة على الوضع الراهن. وعموما، اتفق النقاد الأوائل لأدب الأطفال على أن مرحلتي الطفولة والمراهقة تمثلان الفترة التي يحصل فيها المرء أكبر قدر من التعلم، والتي تتشكل فيها الشخصية؛ ومن ثم فإنه - كما قال إدوارد سالمون في كتابه «أدب الصغار كما هو» (1888) - من المستحيل «أن نبالغ في تقدير أهمية أدب الصغار» على الشخصية القومية والثقافة.
اتفق نقاد القرن التاسع عشر على أهمية أدب الأطفال، ولكن كانت المحاولة الأولى المثبتة لاعتبار أدب الأطفال كيانا من الأعمال الأدبية هي كتاب «كتب الأطفال في إنجلترا: خمسة قرون من الحياة الاجتماعية» (1932) لمؤلفه إف جيه هارفي دارتون. فقد حول دارتون بؤرة تركيز النقد من الآباء إلى هؤلاء الذين لديهم اهتمامات بحثية في مجال النشر للأطفال في تاريخ تدعمه التفاصيل الببليوجرافية وتنظمه التصنيفات. ويرى دارتون أيضا تطور أدب الأطفال على أنه تطور بدأ بتعلم جاف وذي نزعة مسيطرة لم ترتخ قيوده إلا بصدور كتاب لويس كارول «أليس في بلاد العجائب» (1865)، الذي ناصر فكرة «حرية الفكر». وقد استمر النمط والبنى التي حددها دارتون في التأثير على فهم تطور أدب الأطفال، إلا أنه في ستينيات القرن العشرين، ظهر انقسام بين المهتمين بتحليل النصوص، غالبا باستخدام النظرية النقدية التي كان يتم إثراؤها باستمرار ، والتي كانت تدرس وتطبق في الدوائر الأكاديمية، وبين أولئك الذين كانوا يركزون على الببليوجرافيا الخالصة. وعندما أصبحت دراسات أدب الأطفال جزءا مهما من التدريس والبحث الأكاديمي، سرعان ما تزايد عدد التحليلات والمسارد النقدية المتعلقة به وأنواعها. ولسنا هنا في مقام سرد أعمال كل فرد من الأشخاص الذين رسموا خريطة تطور فن الكتابة للأطفال، ولكن من الأهمية بمكان ملاحظة أن هذا الأمر قد نفذه عدد من هواة جمع الكتب وبائعيها وأمناء المكتبات والمعلمين والناشرين والكتاب والرسامين والمتحمسين - لبعض الكتاب وأساليب الكتابة على نحو خاص - وبعض الأكاديميين الأفراد الذين لم يحظ اهتمامهم بهذا المجال بتقدير من زملائهم أو مؤسساتهم. وقد طور هؤلاء فيما بينهم بنية تحتية لدراسة أدب الأطفال، خاصة في صورة مجموعات ومنشورات ومعارض.
إذا كان دارتون هو رائد منهج دراسة أدب الأطفال الذي يتمحور حول الكتب، فإن بول هازارد - أستاذ الأدب المقارن بكلية كوليج دو فرانس - قد أخرج إلى النور المنهج الذي يتمحور حول الأطفال، حيث ألقى استطلاعه عن أدب الأطفال في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية - الذي يحمل اسم «الكتب والأطفال والإنسان» (1932، وترجم إلى الإنجليزية عام 1944) - الضوء على الاستثمار في خيال الأطفال كقوى متجددة، والذي ظهر في بدايات القرن العشرين، وأمل انتصار «دولة الطفولة العالمية» على الولاء القومي. وقد رأى هازارد أن كتب الأطفال هي محور هذه العملية، مدعيا أنه إذا تعرف الأطفال بعضهم على بعض من خلال قراءة بعضهم كتب بعض، فهذا من شأنه أن يخلق تفاهما عالميا، بل - حسبما كان يأمل - من شأنه أن يضع نهاية للصراعات. وعلى الرغم من أن الكثير من المشاركين مهنيا في تحقيق التقارب والألفة بين الأطفال والكتب وضعوا رؤية هازارد في اعتبارهم، كما أن بعض المنظمات الرئيسية (المجلس الدولي لكتب اليافعين)، والمؤسسات (مكتبة الشباب الدولية بميونخ)، والجوائز الكبرى (جائزة أدب السلام للأطفال) قد خلدت أفكاره ومثله من حيث كيفية دراسة أدب الأطفال اليوم؛ فإن تراثه الأعظم يتمثل في مجال أدب الأطفال المقارن، الذي أرسى قواعده. وحقيقة أن هذا المجال ما هو إلا مجال محدود يلقى اهتماما أكبر في الدول التي لا تتحدث الإنجليزية تشير إلى طريق من اتجاه واحد لحركة كتب الأطفال بين الدول. وفي حين أنه لطالما كان من المعتاد ترجمة الكثير من كتب الأطفال المؤلفة باللغة الإنجليزية إلى لغات أخرى، فقد أصبح هذا النمط أكثر وضوحا في النصف الثاني من القرن العشرين، وقد استشرى بهذا الشكل بفضل انتشار اللغة الإنجليزية.
وعلى الرغم من أن هذه الدراسة لا تلقي الضوء على أي من التفاصيل المتعلقة بطريقة فحص أدب الأطفال من قبل المشاركين في عملية تعليم الأطفال، خاصة خلال ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، ففي الغالب كان المعلمون والقائمون على تدريبهم هم أكثر الناس يقظة للجودة العالية والابتكار في الكتابة للأطفال وبعض إخفاقاتها. وقد تجسد الترابط والإثراء المتبادل بين المناهج الأدبية والتعليمية والنظرية، وكذلك الارتباط بين الأبحاث العلمية في إنجلترا وأمريكا الشمالية، في صدور مجلة «أدب الأطفال في التعليم». وتحتوي هذه المجلة - التي أسست في عام 1970 وحررت تحريرا مشتركا بين أمريكا الشمالية والمملكة المتحدة - على أمثلة لجميع المناهج النظرية التي سنتعرض لها بالنقاش في بقية هذا الفصل.
مناهج التحليل النفسي والمناهج النفسية
من بين الاستخدامات الأولى للنظرية التي تطبق بوعي على أدب الأطفال كانت تلك التي ركزت على العالم الداخلي للطفل؛ فبينما كانت نظرية التحليل النفسي وحدها هي التي تستخدم في نقد أدب الكبار، فإن الكتابة للأطفال قد استندت بشكل متكرر إلى نماذج ورؤى من كل من التحليل النفسي وعلم نفس الأطفال. ويعود وجه الشبه بين هذين المنهجين وبين أدب الأطفال إلى العادة القديمة المتمثلة في استخدام القصص لمساعدة الأطفال على فهم أنفسهم وفهم المحيطين بهم. فتاريخ أدب الأطفال يزخر بالقصص المتعلقة بمخاوف الأطفال وما يقلقهم وردود أفعالهم الغاضبة و«سلوكهم السيئ»، والتي تقدم النصح حول كيفية التحكم بهم. على سبيل المثال، يبدأ كتاب «المربية» (1749) - لمؤلفته سارة فيلدينج - بشجار بين الفتيات في أكاديمية السيدة تيتشام للفتيات الصغيرات؛ فيتعلمن أن يتغلبن على مواطن ضعفهن الفردية ورغباتهن الجامحة، وأن يعشن سويا في وئام عندما تقص كل واحدة منهن قصة اعترافية للأخريات. إن الطريقة التي يكشف بها هذا الكتاب الجوانب الخفية للنفس ويضفي عليها شكلا قصصيا تشبه إلى حد كبير أسلوب التحليل النفسي، رغم أن النقاشات التي استخدمت في قصة فيلدينج متضمنة في المخاوف المعاصرة آنذاك، على غرار التحكم بالنفس والواجب المسيحي.
وبعد مرور أكثر من قرن، ولكن قبل تطور المفردات العلمية ومجموعة المفاهيم الخاصة بالتحدث عن النفس، أظهرت قصص الأطفال التي كتبتها ماري لويزا مولسورث فهما عميقا لسبب تصرف الأطفال بالطريقة التي يتصرفون بها. فعلى سبيل المثال، تتناول قصة «ساعة الوقواق» (1877) تأثير الحرمان والوحدة والملل على الحياة الخيالية للفتاة جريسيلدا؛ في حين تتناول قصة «لغز شيلا» (1895) قضية تنافس شديدة بين الأشقاء. وبحلول منتصف القرن العشرين، اعتمد الكثير من الكتابات الموجهة للأطفال على فهم نفسية الطفل وعقله وعالمه الداخلي، كما فسرها علماء نفس الطفل. وفي بعض الأحيان - كما في حالة كاثرين ستور - كان مؤلفو كتب الأطفال من علماء النفس الممارسين. وقد ظهر مدى تضافر الاهتمامات الإبداعية والتشخيصية في كتاب «الشبكة الرائعة» (1977)، وهو عبارة عن مجموعة من المقالات التي جمعت آراء الكتاب والرسامين والنقاد الأدبيين وعلماء النفس وأمناء المكتبات والتربويين. وقد أضاف كتاب «الطفل والكتاب: استكشاف نفسي وأدبي» (1981) لعالم النفس التربوي نيكولاس تاكر إلى هذا المنهج روابط محددة لنظريات تطور الطفل التي قدمها جان بياجيه. وبحلول القرن الحادي والعشرين، تجمع عدد هائل من التحليلات التي كانت في بعض الأحيان شديدة التخصص، والتي وظفت توليفة من أسلوبي التحليل النفسي وعلم النفس. وقد وضع بعضا من هذه التحليلات ممارسون متخصصون، مثل الكتاب الذي ألفه طبيبا الأطفال النفسيان مارجريت ومايكل راستن تحت عنوان «قصص عن الحب والخسارة» (1987، وتمت مراجعته في 2001)، والبعض الآخر وضعه متخصصون بالأدب، مثل كتاب كارن كوتس «نظارات الرؤية والأراضي الخرافية» (2004)، والتي تطبق نظريات جاك لاكان على عدد من النصوص الأدبية للأطفال. وقد اهتم كلا المنهجين في النهاية بمدى قدرة الكتابة للأطفال على تشكيل الذات واستكشاف الهوية النفسية، وأثناء ذلك يساعد الأطفال على فهم أنفسهم.
يمكن قول الشيء نفسه عن بعض النصوص الأدبية الأولى التي شكلت بوعي بعض القصص عن مشكلات الأطفال النفسية ومشكلات التطور. ومن بين الأمثلة الرئيسية على ذلك قصة كاثرين ستور «أحلام ماريان» (1958)، وقصة موريس سينداك «أينما توجد الأشياء البرية» (1963)، وقصة نيل جايمان، «كورالاين» (2002). ومن المثير للاهتمام أنه في كل من هذه القصص يدخل أبطال القصة عالم الأحلام/العوالم الثانوية؛ حيث يواجهون الشخصيات والسيناريوهات المخيفة المستقاة من المشكلات التي يواجهونها في حياتهم اليومية ويتغلبون عليها. وتمثل أهمية استحضار مخاوف الأطفال في القصص الخيالية التي يقرءونها وبعث الطمأنينة في أنفسهم بأنهم سوف يتغلبون عليها محور إحدى أهم الدراسات حول علاقة الأطفال بالقراءة؛ ألا وهي دراسة برونو بتلهايم التي تحمل عنوان «استخدامات السحر: معنى القصص الخرافية وأهميتها» (1978).
وقد تبع بتلهايم خطوات فرويد عن كثب؛ حيث ركزت تحليلاته عن القصص الخرافية الشهيرة على الرمزية والدور الرئيسي الذي تلعبه الدراما الأوديبية في تطورهم النفسي- الجنسي. ورغم أن دراسته قد لاقت نقدا بسبب تطبيقها المختزل لنظرية فرويد، وكذلك فشلها في الانتباه إلى السياق التاريخي أو تاريخ القصص الفردية التي حللها، فإن قوله بأن الأطفال بحاجة إلى قصص تظهر لهم مخاوفهم - من بينها المخاوف من أن تتملكهم مشاعر العدائية والرغبة القوية التي تستعر بداخلهم - كان له تأثير كبير على من يدرسون أدب الأطفال ومن يؤلفونه.
لقد تغلغلت أفكار فرويد عبر الثقافة؛ وعلى النقيض، فإن أفكار زميله وصديقه كارل يونج في بعض الأحيان أقل انتشارا. ومع ذلك، فمن المزعوم أن لتلك الأفكار تأثيرا أكبر على كتابة أدب الأطفال ونقده؛ ولا سيما اعتقاد يونج بأن الأطفال يولدون وداخلهم إحساس بالكمال يفقدونه على مدار المرور بأشياء كثيرة على غرار تحديد النوع وتعلم اللغة والتحكم الجسدي والذاتية - جميع المعايير الرئيسية للتطور الاجتماعي. وتؤكد آراء يونج عن التطور الشخصي على الحاجة إلى الانفصال والفردية كجزء من عملية النضج، ولكنه يرى أن هذا جزء من السعي لاستعادة الكمال النفسي. وقد اعتمد الكثير من الكتاب - خاصة كتاب روايات الصغار الخيالية - بشكل أساسي على نماذج يونج الأساسية - الرموز التي كان يؤمن أن الوعي واللاوعي يتواصلان من خلالها - والفكرة بأن النفس السليمة توازن بين الجوانب الذكورية والأنثوية.
لن يكتمل أي نقاش حول هذا الموضوع دون ذكر كتاب جاكلين روز «قضية بيتر بان: أو استحالة القصص الخيالية للأطفال» (1984). يضرب عمل روز بجذوره في إعادة قراءة عمل فرويد الذي قدمه المحلل النفسي والطبيب النفسي الفرنسي جاك لاكان؛ حيث إنها تعتبر أدب الأطفال ذا أهمية كبيرة في بناء الهوية الشخصية؛ إذ إن الذات نتاج اللغة، واللغة هي وسيلة الخيال؛ ومن ثم، فإن الأطفال أثناء القراءة يتعلمون ويجربون اللغة ويبنون هوياتهم في الوقت ذاته. ولكن الجانب من عملها الذي كان له عظيم الأثر هو تأكيدها بأن جذور البنى الخيالية للطفولة ترجع إلى احتياجات الكبار ورغباتهم. وقد أدى هذا إلى تصوير الطفولة على أنها رمز لمجموعة من رغبات الكبار - الرغبة في البراءة والتماسك والتوازن النفسي - التي لا ترتبط ارتباطا وثيقا بالأطفال والطفولة. وقد حملت كل من كارن ليسنيك-أوبرشتاين (1994) وكارن كوتس (2004) راية الاهتمام بمنهج لاكان واللغة والذاتية من بعد روز.
المناهج اللغوية والسردية والأسلوبية
من بين أولى الدراسات التي حاولت تحليل أدب الأطفال على أساس خصائصه الأسلوبية دراسة «قواعد أدب الأطفال» (1986) لزوهار شافيت، والتي تلقي الضوء على كيف وأين يتواجد أدب الأطفال داخل ما تشير إليه على أنه النظام التعددي للأدب، أو الأنظمة المتداخلة والهرمية بشكل مختلف التي تنظم النصوص الأدبية على مستويات ثقافية وعالمية وتحدد شكلها. وقد تبنى آخرون بعض أفكار شافيت، ولكن قرارها بأن تستخدم أمثلة كنسية من تاريخ أدب الأطفال تسبب في مشكلات لتحليلها؛ إذ إن الكثير من النصوص الأدبية التي ناقشتها لم تكن موجهة في الأساس إلى الأطفال.
وفي كتاب «صوت الراوي: معضلة القصص الخيالية للأطفال» (1991)، قدمت باربرا وول أيضا نظرة تاريخية شاملة لمساعدتها على تحديد المعايير الأسلوبية التي يمكن من خلالها تمييز كتب الأطفال عن غيرها من الكتابات الأخرى. وقد كانت جميع النصوص الأدبية التي ناقشتها باربرا وول مكتوبة خصوصا من أجل الأطفال، وكانت تقصد بذلك القراء الذين تقل أعمارهم عن 12 عاما . وقد خلصت إلى أن أغلب الكتابات الأولى التي أدرجت في الدراسات التاريخية لقصص الأطفال الخيالية لم تكن في حقيقة الأمر تمت بأية صلة لأدب الأطفال؛ لأنها لم تكتب بطريقة صممت خصوصا لتروق الأطفال (انظر المناقشة عن المخاطبة الفردية والثنائية والمزدوجة في
الفصل الأول ). وطبقا لكتاب «صوت الراوي»، فإن أدب الأطفال ككيان أدبي مميز يمكن تحديده فقط عندما يطور الكاتب أساليب محددة لمخاطبة القراء من الأطفال؛ وهذا في حد ذاته يعتمد على وجود فهم متسق لماهية الطفل وكيف أن الأطفال يختلفون عن الكبار على المستويات الإدراكية والعاطفية والجسدية. وتخلص وول إلى أن أدب الأطفال - إلى جانب أنه يستقي صورة وفهما ناشئين للطفولة - يعزز ويساعد في رسم ملامح صورة الطفل الذي يخاطبه.
أما العمل الرئيسي التالي الذي يركز على اللغة والأسلوب - وهو كتاب «اللغة والأيديولوجية في القصص الخيالية للأطفال» (1992) لجون ستيفنز - فيطبق تقنيات تراوحت ما بين النقد السردي واللغوي (القصة وأحداثها، ووجهة النظر، وبؤرة الأحداث، وصوت الرواية، وختام القصة) جنبا إلى جنب مع عدد من المناهج النقدية لنصوص الأطفال في القرن العشرين. وقد توصل ستيفنز إلى استنتاجات واسعة النطاق، ولكن ربما يكون أكثرها تأثيرا هو إثباته أن الكتب التي يقرؤها الأطفال والشباب مؤثرة أيديولوجيا وتميل إلى مناصرة القيم الإنسانية المتحررة.
المناهج القائمة على الجنس والنوع
هناك قطاع كبير من الكتابة النقدية عن أدب الأطفال يتناول القضايا المتعلقة بالتوجهات النوعية والجنسية، وقد كان له أثر واضح على كتابة أدب الأطفال وشكله وتسويقه. وخلال ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، أصبح مدى اشتراك أدب الأطفال في تخليد الصور النمطية عن النوع قضية ساخنة مثيرة للجدل الشديد؛ ففي البداية، ركزت المخاوف على تصوير الفتيات وكيف كانت النصوص تميل إلى الالتزام بالمثاليات النسائية التي قللت من قدرهن، حيث كانت تشير إلى أن الفتيات أقل ذكاء وحيوية ومهارة من الصبية. وقد شرع الكتاب والناشرون في التعامل مع هذه المشكلة، من خلال وضع إرشادات وكتابة أعمال تهدف إلى مناهضة التمييز على أساس الجنس. وفي نهاية المطاف، أثمرت تلك الحملة عن مجموعة ضخمة ومتنوعة من النصوص التي قدمت الكثير من طرق تحقيق النجاح والمخصصة للفتيات. وقد تضمن جزء من هذه العملية إدراك أن توزيع القوى بين الجنسين لن يحرز أي تقدم بدون علاج مشكلة التصوير الذكوري؛ حيث بدأ كل من النقاد والكتاب في تلك المرحلة التركيز على مشكلات الصور النمطية الذكورية. وقد وقع بعض من أكثر المناقشات المحتدمة حول الذكورة في أستراليا، والتي ظهر فيها أيضا عدد من روايات أدب الشباب، والتي قدمت نماذج جديدة للذكور. وتعتبر مجموعة جون ستيفنز القصصية المنقحة والصادرة تحت عنوان «خصائص الذكورة: تصوير الذكورة في أدب وأفلام الأطفال»، العمل النقدي الأول والأكثر تأثيرا الذي يتناول هذا الأمر، والذي ظهر عام 2002.
وبينما طرأت - بلا شك - تطورات في عدد ونوعية النصوص التي تقاوم تحديد الصور النمطية للنوع على مدار نصف القرن المنصرم، فمن الجدير بالذكر أن القرن الحادي والعشرين قد شهد إعادة إحياء للأدب الذي يستهدف قراء من جنس معين، والذي يبدو أنه يعيد إحياء الأفكار السابقة عن طبيعة الذكور والإناث وقدراتهم؛ حيث كانت الكتب الموجهة إلى «الفتيات» وردية اللون، ومزينة بالحوريات للفتيات الصغيرات أو إكسسوارات الموضة للفتيات الأكبر سنا، وعادة ما تفترض ضمنيا أن القارئات الصغيرات لا يهتممن بسوى مظهرهن وأن يرقن الفتيان. أما كتب «الفتيان» فتكون عن الجنود أو الجواسيس الصغار أو أي من الشخصيات المشابهة مفتولة العضلات التي لا تظهر الكثير من العاطفة وتركز فقط على تطوير المهارات البدنية التي تمنحها التفوق والسيطرة في أغلب المواقف. وتمتلئ صفحات تلك الكتب بالمعارك والآلات ومشاهد من الحياة في الهواء الطلق والشجاعة منقطعة النظير.
وقد حدثت هذه العودة إلى الأفكار القديمة رغم النشاط النقدي المستمر (انظر - على سبيل المثال - كيري ماليان، 2009)، والاهتمام المتزايد بنظرية تحرر الجنس (ماريا نيكولاييفا، 2009). وفي حين قد يبدو تصوير النوع رجعيا في بعض جوانب النشر للأطفال، فإن الوضع يختلف تمام الاختلاف عندما يتعلق بالتوجهات الجنسية. فهناك عدد متزايد باطراد من الأعمال الرئيسية والثانوية التي تؤيد وتحتفل بحياة الشواذ من الذكور والإناث ومزدوجي الرغبة الجنسية والمتحولين جنسيا من الشخصيات والقراء. وتشجع الكتب التي تقدم شخصيات غير محبة للجنس الآخر قراءها على تقمص توجه جنسي بديل خلال وقت القراءة - بالضبط كما يطلب ممن لا يكونون من محبي الجنس الآخر أن يفعلوا - مما يشجع على فهم أن جميع الميول الجنسية يمكن تغييرها، وأن نظم التصنيف الحالية بدائية. علاوة على ذلك، فإن رؤية العالم من خلال وجهة نظر شخصية تختلف ميولها الجنسية عن ميول القارئ بإمكانها أن تشجع التعاطف والتقمص العاطفي بطرق نادرا ما تنجح المعلومات المباشرة وتدريبات زيادة الوعي في فعلها. وهذه هي الاستراتيجية التي وظفها ديفيد ليفيثان في رواية «صبي يقابل صبيا» (2003)، والتي تدور أحداثها في مدينة فاضلة للشواذ ويرويها بطل القصة مثلي الجنس.
المناهج التاريخية
منذ عصر هارفي دارتون وحتى عصرنا الحاضر، كانت نسبة هائلة من الأبحاث المتعلقة بأدب الأطفال تاريخية، وقد ينقل هذا دراسة الكتب أو المخطوطات أو غيرها من المواد المطبوعة من الماضي من مستوى أغراض مادية تم إنتاجها في لحظة تاريخية بعينها، أو تحليل المناقشات المتنافسة حول قوة الخيال في الماضي، أو تأمل كيف كون كتاب الماضي صورا عن الطفولة مثلا أو الأبوة أو النوع أو الحرب، أو دراسة كيفية إنتاج الكتب أو بيعها أو تلقيها. ولكن بصفة عامة، كانت الأبحاث التاريخية باستخدام نصوص الأطفال تقارب إلى حد كبير الأبحاث التي أجريت على النصوص الأدبية للكبار، ولكن بسبب أن القيود المفروضة حول ما يمكن اعتباره أدب الأطفال واسعة للغاية ومسامية، فقد نتج عن هذا بعض الاختلافات.
إن العمل على أدب الكبار يميل إلى دراسة الأدب في صورة النصوص المطبوعة فقط تقريبا؛ فإعداد النصوص لتحويلها إلى مسرحيات أو أفلام ينظر إليه على أنه تخصص، إن لم يكن مجالا منفصلا تماما للدراسة، ويندر أن ينشب الجدل - إذا كان هناك جدل على الإطلاق - حول ما يشكل أدب الكبار. أما بالنسبة لأدب الأطفال، فهناك عدد من المعضلات، ينبع معظمها من الفشل في الاتفاق على تعريف واحد لماهية أدب الأطفال. عند تناول أعمال من الماضي، يمكن أن يقودنا هذا للتساؤل عن مدى صحة اعتبار نص مثل «رحلة الحاج» مثالا على أدب الأطفال، حيث إنه لم يكتب من أجل الأطفال، وعلى مدار قرن كامل من الزمان، نادرا ما كان يقرؤه الأطفال (وبعد ذلك كان يقرأ دائما في نسخ معدة خصوصا للصغار). هل لا يزال يعتبر من أدب الأطفال؟ أو ماذا عن الكثير من الألعاب التي كانت تأخذ - ولا تزال - شكل الكتب مثل الدمى الورقية ومسارح العرائس والكتب ذات الرسومات ثلاثية الأبعاد على سبيل المثال، أو ألعاب الورق والطاولة والألغاز واللعب وغيرها من الأغراض المؤقتة التي تستند فكرتها إلى الكتب؟ كل هذه الأشياء توجد في مجموعات كتب الأطفال التاريخية، والتي يمكن الكتابة عنها تحت عنوان عام هو «أدب الأطفال».
وهناك اختلاف أخير بين دراسة أعمال الماضي للكبار وللأطفال يتعين علينا أن نأتي على ذكره هنا؛ وهو يرتبط بصورة الطفل. يتفق مؤرخو أدب الأطفال على أهمية أن نظل يقظين إلى كيفية تكوين النصوص لصور الطفولة وكيفية اتصالها بمناقشات أكبر وتجارب حقيقية لأطفال حقيقيين وقت كتابة النص الأدبي. إن الحاجة لإدراك المعاني الرمزية والثقافية للطفولة في أي وقت محدد ما هي إلا مطلب إضافي ممن كانوا يعملون مع النصوص الأدبية للأطفال في الماضي. وفي حين أن بعض مؤرخي أدب الكبار يهتمون بقرائهم، فلا يوجد أي معنى في تحديد صورة مشابهة لمرحلة النضج بما يتجاوز بعض أساسيات الجنس والطبقة والعرق.
مناهج مرحلة ما بعد الاستعمار
تعني حقيقة أن هذه الدراسة تتمحور حول أدب الأطفال في الدول المتحدثة باللغة الإنجليزية أنها تؤرخ لميراث من الأنشطة الاستعمارية. ونظرا لأن كلا من بريطانيا وأمريكا الشمالية تتشاركان تاريخ الغزو والاستعمار (بما في ذلك الغزو البريطاني للكثير من أنحاء أمريكا الشمالية)؛ فلن يكون من المفاجئ أن هناك تاريخا طويلا من الكتابة المخصصة للأطفال عن تجربة الاستعمار. خلال القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، تخلل هذا التاريخ الإمبريالي أجناس أدبية رئيسية، مثل قصص المغامرات والاستكشاف، والتي تتضمن كلا من المؤلفات التي تصطبغ بالصبغة الواقعية التي ألفها جي إيه هنتي، والمؤلفات الخيالية مثل رواية «جزيرة الكنز» لستيفنسون. وعلى الرغم من وفرة المواد الأدبية الأساسية، فإن تطبيق نظرية ما بعد الاستعمار على أدب الأطفال محدود نسبيا حاليا. ومن بين الأمثلة الأولى مقال بيري نودلمان «الآخر: الاستشراق والاستعمار وأدب الأطفال» (1992)؛ حيث طبق نودلمان أفكارا من كتاب «الاستشراق» للكاتب إدوارد سعيد عن العلاقة بين الكبار والأطفال التي تظهر في نصوص الأطفال الأدبية، ويشير إلى أن أدب الأطفال ما هو إلا أدب استعماري يستعمر فيه الكبار الطفولة.
ومن بين من شككوا في بعض استنتاجات نودلمان، تعد كلير برادفورد الأكثر انخراطا في تطبيق نظرية ما بعد الاستعمار على النصوص الأدبية للأطفال. فقد عملت برادفورد - على سبيل المثال - على نصوص أدبية للأطفال من إنتاج سكان أستراليا الأصليين - في الماضي والحاضر - للمساعدة على تحديد سمات رواية القصة والرسم التوضيحي لديهم وتفسيرها. وفي خضم عملها، توضح كيف أنهم يعملون خارج إطار أنظمة المعارف والقيم التي يتسم بها الأوروبيون الغربيون الذين استعمروا أستراليا. وفي تحليلاتها للأعمال القصصية للمستوطنين، كشفت عن الاستراتيجيات السردية التي علمت القراء البريطانيين والأستراليين الشباب أنهم أعلى منزلة من السكان الأصليين، وأضفت شرعية على السلطة التي يمارسونها عليهم. وكما توضح برادفورد، فإن الكتابة للأطفال - بما تتسم به غالبا من طرح أيديولوجيات واضحة ونزعة إلى إدراج مواد رسومية بها - يمكن أن تكون بؤرة تركيز مثمرة للغاية لتطبيق نظرية ما بعد الاستعمار.
نظريات استجابة وتلقي القارئ
نظرا لأن أدب الأطفال يستقي تعريفه بصورة جوهرية من قاعدة قرائه، فلا عجب في أن تكون نظرية استجابة القارئ قد جذبت بعض الذين يدرسون الكتابة للأطفال. وقد شهد هذا المجال نشاطا ملحوظا من قبل التربويين - نظرا لقدرتهم على التواصل مع أطفال حقيقيين كقراء وحاجتهم لذلك - سواء أكانوا يسعون إلى فهم كيفية تطور الأطفال كقراء، أو الاستراتيجيات التي يوظفونها لجعل النصوص الأدبية ذات معنى، أو كيف يمكن أن تؤثر النصوص الأدبية على فهم الأفكار والممارسات الاجتماعية. ويتسع نطاق الآراء حول استجابة الأطفال ليشمل كل شيء بدءا من قراءة الأطفال للكتب المصورة إلى طريقة تفاعلهم عند «قراءة» ألعاب الكمبيوتر.
مبدئيا، قام عدد من الباحثين البارزين مثل لويز روزنبلات (1938)، ودي دبليو هاردينج (1962)، ونورمان هولاند (1975)، وولفجانج إيزر (1978)، وستانلي فيش (1980)، بتطوير الأبحاث عن استجابة القارئ التي تطبق على مفاهيم ومنهجيات القراء من الأطفال من خلال العمل مع الكبار. وعلى غرار أعمال استجابة القارئ في حالة الكبار، فقد نتج عن هذا العمل أيضا انقسام بين الذين يضعون كيفية قراءة الأطفال للنصوص الأدبية واستخراج المعاني منها على رأس أولوياتهم، وأولئك الذين يركزون على الكيفية التي تشكل بها النصوص الأدبية شخصيات القراء وتسعى إلى إثارة استجابات بعينها. تتركز أماكن الاستكشاف الرئيسية على كيفية عمل مفهوم القارئ الضمني في الكتابة للأطفال، وما الذي يضيفه الأطفال للنصوص الأدبية، وكيف يكملونها، وما الذي يمنحهم السعادة، وكيفية عمل المجتمعات التفسيرية للطفولة.
هناك عامل واحد ينفرد به عمل نظرية استجابة القارئ مع الأطفال ألا وهو السن؛ كيف أن المدى العمري الواسع لهؤلاء الذين صنفوا على أنهم قراء لأدب الأطفال يجعل من الممكن ملاحظة كيفية تطور الاستجابات للقصص من الطفولة إلى المراهقة، وما نوعية الاختلافات الموجودة بين القراء من الأطفال والكبار. أما بالنسبة لإضافات الأطفال للنصوص الأدبية - كيف يسهمون في معناها - فستكون مختلفة عن إضافات الكبار؛ لأنهم يمتلكون خبرة أقل عن الحياة، كما أنهم على الأرجح يعرفون عددا أقل من النصوص الأدبية، كما أن النصوص التي يعرفونها - والتي تتضمن المواد على غرار القصص المصورة والبرامج التليفزيونية وقراءات المدرسة - ستكون مختلفة على الأرجح (على سبيل المثال، في نسبة الصور التي تحتويها) عن تلك التي يقرؤها الكبار عادة. بالإضافة إلى هذا، ستؤثر خبراتهم المختلفة عن النصوص الأدبية على طبيعة الإشارات بين النصوص التي يستجيب لها القراء على الأرجح. وبالطبع، مع تقدم الأطفال في العمر، سيبدءون في إظهار استراتيجيات القراءة التي يتسم بها الكبار، ولكن أظهرت الدراسات كذلك وجود اختلافات جلية بين استجابات الكبار والأطفال حتى مع انتقال الأطفال إلى مرحلة المراهقة.
لم يتعلم الأطفال الصغار القراءة بعد؛ لذا فإن محاولتهم لفك شفرات الكلمات والصور تختلف تماما عن القراء الأكبر سنا الذين تعلموا كيفية البحث عن المعاني الخفية والتقنيات السردية. يظهر الكثير من استجابات القراء أن القراء الصغار شديدو الابتكار والفاعلية في تكوين المعاني، لا أنهم عاجزون بسبب عدم تلقي التدريب. وبمجرد أن يتعلم الأطفال القراءة، عادة ما يطلب منهم القراءة في سياقات رسمية أو تحت إشراف الكبار، وغالبا ما يكون ذلك استجابة لبروتوكولات محددة نادرا ما يتقيد بها الكبار. تؤثر جميع هذه العوامل على الاستجابة، كما تفعل بعض العوامل العامة الأخرى مثل الطبقة الاجتماعية والجنس ودرجة التعليم. وقد أطلقت هذه الأبعاد الاجتماعية الخاصة بكيفية قيام القراء الصغار بتكوين المعاني مشروعات تسعى إلى فهم كيفية استجابة القراء الصغار للمشكلات الاجتماعية التي تناقشها الأعمال التي يقرءونها والتأثير عليها. وقد كان هذا النوع من الدراسات نشطا في مجالين، وهما الموقف من المساواة الجنسية (كما في كتاب «معضلات النوع» (2009) لكيري ماليان)، والعنصرية (انظر كتاب «بأعين من؟ استكشاف العنصرية: القارئ والنص والسياق» (1992) لبيفرلي نايدو).
ومن بين التطبيقات الأولى والأكثر تأثيرا لنظرية استجابة القارئ فيما يتعلق بأدب الأطفال كان مقال «القارئ في الكتاب» (1977) لأيدن تشامبرز، وهو المقال الذي يطبق أفكار لولفجانج إيزر ليوضح أن كتب الأطفال تشكل قراء ضمنيين من خلال إنشاء علاقة خاصة مع الراوي، والذي يكون «شخصا ودودا من الكبار يعرف كيف يسلي الأطفال، وفي الوقت نفسه يبقيهم في الوضع المخصص لهم». ويؤكد تشامبرز على هذا من خلال المقارنة بين نسختين من إحدى قصص رولد دال: الأولى هي «بطل العالم» (1959)، وهي قصة قصيرة للكبار، والثانية هي «داني: بطل العالم» (1975)، وهي رواية للأطفال. وفي العديد من الجوانب، يعتبر عمل تشامبرز سابقا لأعمال كل من شافيت ووول؛ إذ إن تحليله يشير إلى أن طبيعة العلاقة بين الراوي والمتلقي تعتمد على الفهم المهيمن للطفولة في وقت كتابة النص الأدبي. ويشير كل من شافيت ووول إلى أن تطور أسلوب محدد لمخاطبة القراء من الأطفال يمثل جزءا مهما لتطوير ما يمكن أن يقال عنه إنه كيان منفصل من الكتابة الخاصة بالأطفال. كانت النبرة الأبوية المتحكمة التي وصفها تشامبرز مشابهة لصوت الراوي الذي يربطه كل من شافيت ووول بالكتابة التي تكون خالصة للأطفال.
ولكن هناك تفسيرات أخرى للعلاقة بين الراوي والمتلقي في أدب الأطفال. فعلى سبيل المثال، يفترض كل من تشامبرز وشافيت ووول أن النص الأدبي يشكل قارئا ضمنيا على أساس فكرة مسبقة عن الطفولة، ولكن من الممكن أيضا أن نقول بأن النصوص الأدبية تشكل قراءها؛ ومن ثم فإنها تمتلك القدرة على التأثير على تلك الفكرة. ويمكن رؤية تنفيذ هذه العملية في مناقشة المناهج التاريخية والأيديولوجية لدراسة أدب الأطفال التي ناقشناها آنفا.
النظريات المتمركزة حول الطفل ... من يهتم منا بأدب الأطفال يحتاج إلى أن يحذر من الفخ الذي نصبه لنا مفهوم «الأدب»، ومعايير أدب [الكبار] التي تدعي أنها (أو تطمح أن تكون) مسيطرة ... إذا كنا نقدر [الأطفال كقراء يمكنهم صنع معنى للنصوص الأدبية]، فعلينا أن نراهم يقومون بهذا في سياق ثقافتهم الخاصة.
هكذا يقول بيتر هانت، الناقد الذي جادل على نحو مقنع بأن نقد أدب الأطفال يحتاج إلى تجنب إصدار الأحكام بالنيابة عن الأطفال، بل يجب أن يتضمن آراء الأطفال. وتتصل رؤية هانت لما يطلق عليه «النقد من منظور الأطفال» اتصالا وثيقا باستجابة القراء، ولكنه يركز تحديدا على الأطفال كقراء، وكذلك بوصفهم قراء للصور. ويمثل النقد من منظور الأطفال إلى حد ما محاولة لمعالجة ما يعتبره البعض نقطة ضعف في دراسات أدب الأطفال، ألا وهي: النزعة لاستخدام نظريات من فروع معرفية أخرى بدلا من ابتكار مناهج خاصة بها. ويعد هذا الأمر نقطة ضعف فقط إذا ما تم فصل أدب الأطفال عن الاتجاه السائد في الأدب، بدلا من النظر إليه على أنه يهتم بكيفية مخاطبة الأدب للقراء الصغار، وفي هذه الحالة فإنه لا توجد حاجة لاستخدام مناهج نقدية منفصلة غير تلك القائمة على السن.
يمكن مقارنة النقد من منظور الأطفال بفرع من فروع النقد النسائي يعرف باسم «أسلوب الكتابة النسائي»، والذي كان يهدف إلى التخفيف من حدة اللغة التي «صنعها الذكور» من خلال تطوير طرق مخصصة للنساء لاستخدام اللغة، لا سيما في الكتابة. ويحاول نقد الأطفال - إلى حد ما - علاج طبيعة أدب الأطفال التي «صنعها الكبار»، ولكن التشابه بين الحالتين ليس تشابها تاما؛ حيث إن الأطفال ليسوا هم من يكتبون أدب الأطفال أو من يجرون الدراسات النقدية عليه. وهذا يعني أنه بدلا من اعتبار الأطفال كتابا أو السعي لصبغ الكتابة بصبغة السكنى في جسد و/أو نفس طفل (في الواقع، هذه الممارسات هي ما شغل بعض كتاب أدب الكبار مثل هنري جيمس وجيمس جويس وفيرجينيا وولف)، يركز النقد من منظور الأطفال على تحديد سمات معينة في الأطفال كقراء لكل من النصوص والصور واستكشافها.
لقد ألهمت روح النقد من منظور الأطفال العديد من المجالات الرئيسية في دراسات أدب الأطفال، من بينها محاولات فهم كيف استخدم الأطفال واستجابوا للنصوص في الماضي (جالبريث 1997، وجرينبي 2009)، ومدى تأثير الألفة مع ألعاب الكمبيوتر على الطريقة التي يقرأ بها الأطفال الكتب المصورة (ماكي 2002). وعلى أي حال، فإن النقد من منظور الأطفال - في نهاية المطاف - يعتبر أقرب إلى كونه موقفا من كونه منهجية في حد ذاته، فضلا عن أنه يواجه باستمرار صعوبات نابعة من حقيقة أن الوسيط من الكبار مطلوب منه حتما أن يثير ردود أفعال الأطفال وسلوكياتهم ويحللها ويعرضها. ورغم أن مدى تدخل الكبار يقل بصفة عامة مع تقدم الأطفال في السن، فإن أغلب الروايات المتاحة للاستجابات النقدية للأطفال والشباب على النصوص الأدبية تتم إدارتها واستنباط معانيها من قبل الكبار.
طور بيتر هانت هذا المصطلح وحاول أن يوضح كيف يمكن أن ينجح النقد من منظور الأطفال، ولكن كان الكاتب والناقد البريطاني أيدن تشامبرز هو أول من دعا إلى «أسلوب نقدي يضع في اعتباره الطفل على أنه قارئ». ويشجع تشامبرز الأطفال على الحديث عن الكتب بأسلوب نقدي من خلال تكوين مجتمعات للقراءة يتشارك فيها القراء الحماسة ويناقشون الأمور التي يجدونها مثيرة للحيرة، ويحددون أنماط الكتابة ويربطون بين الكتب وبعضها. وقد أكد تشامبرز - بعد أن حظي بفرصة للاطلاع على تفسيرات الأطفال لبعض الكتب - أنه في حين أن الأطفال قد يقرءون بطريقة تختلف عن الكبار، إلا أنهم قادرون على تكوين استجابات مدروسة وثاقبة للنصوص الأدبية، شأنهم في ذلك شأن الكبار، وهذه الاستجابات هي محور اهتمام النقد من منظور الأطفال. وبالنسبة لتشامبرز، فإن الاختلافات بين تفسيرات الكبار والأطفال غالبا ما تكون متصلة بالنظام التعليمي؛ حيث إن الأطفال قبل أن يتعلموا الجوانب التي يقدرها المعلمون والمراقبون غالبا ما يستجيبون لجوانب من النصوص مختلفة عن تلك التي يستجيب لها النقاد من الكبار. وهناك أمر آخر متعلق بهذه الملاحظة، ألا وهو الإشارة إلى أن القراء من الصغار - بصفتهم قراء جددا نسبيا لم يتقنوا الكثير من استراتيجيات القراءة مثل الكبار - ينغمسون في النصوص التي يقرءونها أكثر من الكبار. فإنهم يقرءون أنفسهم بالقدر الذي يقرءون به النصوص الأدبية، وهو ما يفسر جزءا من ذلك الشعور بالانغماس والرضاء الذي يشعرون به عند قراءة نص قد يعتبره أحد الكبار تافها.
وهناك دراسة أخرى بها الكثير من القواسم المشتركة مع نظرية النقد من منظور الأطفال، وهي دراسة «علامات الطفولة في كتب الأطفال» (1997) للكاتب بيتر هوليندال، والتي أشار فيها إلى أن كلا من الأطفال والكبار على حد سواء لديهم قدرة على الوصول إلى ما يطلق عليه «الطفولة» أو «سمة الطفولة». وتتميز هذه السمة بالقدرة على الاستجابة للتغيرات بطريقة غالبا ما نفقدها أو نتجاهلها في مرحلة النضج. ويوضح فيليب بولمان أمرا مشابها بطريقة أدبية، وذلك من خلال ابتكاره للشياطين في روايته «مواده المظلمة»، حيث يعرض شياطين الأطفال دائمة التغير، في حين أن شياطين الكبار ثابتة باستمرار. ويشير هوليندال إلى أن كتب الأطفال تخلق مساحة حيث يمكن للطفولة والنضج أن يلتقيا ويمتزجا، حيث يعيد الكبار تنشيط بعض جوانب الطفولة في أنفسهم - لا سيما إمكانات الطفولة والقدرة على التغير - في حين تتاح للأطفال فرصة الاطلاع على بعض جوانب الكبر. وقد لخص طبيعة هذه الديناميكية مؤلف كتب الأطفال والرسام سي والتر هودجز عندما أبدى ملاحظة يقول فيها إنه «إذا كان هناك داخل كل طفل شخص كبير يحاول الخروج، فإنه بالمثل هناك داخل كل شخص كبير طفل يحاول أن يعود به للطفولة. وفي نقطة التقاء هاتين الشخصيتين، نجد الأرضية المشتركة بينهما». وتشكل هذه الأرضية المشتركة سمة الطفولة، ولكن تختلف خبرة الطفولة بين كلتا المجموعتين، حيث لا يزال الأطفال يختبرون فترتي الطفولة والشباب، في حين يستجمع الكبار ذكريات فترة الطفولة ويستجيبون إلى الأوامر التي يتلقونها من الأطفال الذين كانوا عليهم في الماضي والذين لا يزالون متواجدين عاطفيا في داخلهم. وعلى عكس تي إس إليوت وغيره ممن يعتبرون قراءة أدب الأطفال في مرحلة الكبر نوعا من الارتداد، وأن قراءته في مرحلة الطفولة ما هي إلا استعداد لقراءة الكتب «الحقيقية» وأنهم سيتوقفون عن قراءته عندما يكبرون، فإن هوليندال يمنح أدب الأطفال قيمة كبيرة. وبالنسبة لهوليندال، يكمن جزء كبير من هذه القيمة في الخصائص الأدبية والاستراتيجيات السردية التي توظف في النصوص الأدبية، وينتج عن هذا اختلاف واضح في التأكيد والممارسات النقدية للنقد من منظور الأطفال؛ حيث لم يكن هوليندال مهتما بالأطفال كقراء كاهتمامه بنصوص الأطفال ذاتها.
وقد اهتم كثير من النقاد الآخرين بالتبادل المشترك بين الكبار والأطفال الذي يقدمه أدب الأطفال. فعلى سبيل المثال، درس بيري نودلمان (1998) كيف أن عددا كبيرا من كتب الأطفال والشباب يقدم متعة جمالية لمن يطلق عليه القارئ «الكبير الخفي». ويقدم كل من يو سي نوبفلامشير ومتزي مايرز في نقاشهما حول «الكتابة المتقاطعة» فهما مختلفا لشخصية «الكبير الخفي»، حيث بدآ بالاعتراف بأنه أثناء الكتابة للأطفال يجري المؤلفون «حوارا لا يمكن تجنبه بين أنفسهم في الماضي والحاضر» (أي أنفسهم وهم أطفال في الماضي وأنفسهم وهم كبار في الحاضر)، ولكن عادة ما يجري تجاهل صوت الكبير أو عدم تبنيه؛ ومن ثم فإنه يصبح خفيا. كما استكشفت ماريا تاتار أيضا العلاقة بين الشخصيات في الماضي والحاضر في كتابها «الصيادون المسحورون» (2009)؛ حيث اهتمت تاتار بالطريقة التي تؤثر بها النصوص الأدبية عن الطفولة على القراء، بما في ذلك الطريقة التي يتذكر بها الكبار تجربة القراءة في الطفولة والاختلافات بين تجربة القراءة في الكبر والقراءة في مرحلة الطفولة . وقد جمع البحث الذي أجرته ماريا تاتار بين ذكريات القراء الكبار عن تجارب القراءة أثناء مرحلة الطفولة وانطباعاتهم عنها، وكانت النتائج التي توصلت إليها ذات حدين. ففي حين أن هذا يمثل - في الكثير من الجوانب - احتفاء بالقوة التخيلية لأدب الأطفال، فإنه يدور أيضا حول حساسية القراء الأطفال الذين يجدون أنفسهم خاضعين للكتب وما يفقدونه بمجرد أن يصبحوا قراء كبارا. ويعبر عنوان الكتاب عن هذه الرؤية، حيث إن اسم «الصيادون المسحورون» هو أيضا اسم الفندق الذي يغوي فيه همبرت همبرت - الشخصية التي ابتكرها الأديب الروسي فلاديمير نابوكوف - الطفلة لوليتا؛ مما يؤدي إلى تغيير علاقتها بشخصيتها الطفولية شديدة الفضول تغييرا حادا.
إن دراسة أدب الأطفال من منظور القارئ الطفل تفتح المجال أمام بعض المناقشات الفلسفية والأخلاقية المثيرة للاهتمام حول العلاقة بين الكبار والأطفال داخل وخارج نطاق النصوص الأدبية. وهناك منطقة في أدب الأطفال عادة ما تثير أسئلة معقدة، ألا وهي دمج الأعمال الأدبية التي تضم عنصرا بصريا بارزا، لا سيما الكتب المصورة والروايات الرسومية. وعلى مدار فترة طويلة في الغرب، كانت هذه أيضا هي مجموعات الأعمال التي يمكن تمييزها بسهولة عن القصص الخيالية للكبار، والتي أصبحت الآن خالية من الصور رغم أن شعبية الروايات الرسومية تزداد بين القراء من الكبار. ولكن، لا يزال أدب الأطفال هو المجال الذي تنتج فيه النصوص المصورة على نحو واسع.
قراءة النصوص المصورة
معظم الأعمال النقدية التي تناولت النصوص المصورة ركزت على الكتب المصورة التي تكرر فيها الكلمات والصور وغيرها من العناصر البصرية المعلومات إلى حد بعيد، والكتب المصورة التي تكون فيها الكلمات والعناصر البصرية معتمدة بعضها على بعض (ولم توضع ضوابط للتمييز بين النوعين إلا مؤخرا). وتحديدا في الكتب المصورة، يكون التفاعل بين الكلمات والصور معقدا ويحتاج إلى تحليل متأن - حتى عندما تكون الكلمات ضمنية - كما في الكتب المصورة التي لا تحتوي على نصوص مكتوبة. وكان ويليام موبيوس (1986) من أوائل الباحثين الذين تناولوا موضوع تعقيدات قراءة الصور في أدب الأطفال؛ حيث ابتكر مجموعة من القوانين لتحليل الصور في الكتب المصورة المترابطة تدرس جميع جوانب الكتاب: من الرسومات على الورقة الأخيرة إلى حجم ووضع الرسومات الشخصية من خلال الإشارات الضمنية بين النصوص والرمزية إلى العلاقة بين الكلمات والصور. يهتم موبيوس بكيفية تأثير جميع أوجه التصميم - المنظور واللون والعلاقات بين الصور، وحتى سمك الخطوط في الرسومات، والطريقة التي يؤثر بها التصميم، وتقليب الصفحات على سرعة الإيقاع - على المعنى. وهناك اهتمام مماثل للعناصر المادية والجمالية للنص الأدبي يثري أعمال بيري نودلمان، الذي يقدم كتابه «كلمات عن الصور: الفن السردي لكتب الأطفال المصورة» (1988) تفسيرات تفصيلية للنصوص الفردية تسير على خطى مشابهة لخطى موبيوس، إلا أن نطاق تناوله للموضوع كان أكثر اتساعا. ويقدم نودلمان أيضا رأيا عاما حول العلاقة بين الكلمة والصورة في الكتب المصورة المترابطة؛ فمن وجهة نظره، أن هذا الأمر ساخر بصورة حتمية. وسواء أكان هذا الأمر ينطبق على «جميع» الكتب المصورة أم لا، فإنه ينطبق على معظم الكتب المصورة المترابطة، لا سيما الكثير من الأعمال الأدبية التي تعرض نزعات ما بعد الحداثة. وقد شكلت هذه الافتراضات الأساس الذي بني عليه كتاب «قراءة الكتب المصورة المعاصرة: تصوير النصوص» (2001) لديفيد لويس، والذي يحدد ويوضح فيه مدى وقوة العلاقة بين الكتب المصورة المترابطة وحقبة ما بعد الحداثة، ومن خلال الدراسات المتأنية لمجموعة كبيرة من الكتب المصورة المترابطة الأكثر تعقيدا التي أنتجت في القرن العشرين، والتي أكدت افتراضات كل من موبيوس ونودلمان عن تعقيد تلك الصيغة الأدبية ولفتت الانتباه إلى نزعتها المرحة المتأصلة فيها.
شكل 2-2: «الظلمة تغمرك» من كتاب «الشجرة الحمراء» (2001) لشون تان. إن التفاعل بين الكم الضئيل من النصوص وسلسلة الصور المعبرة التي يستخدمها شون تان يساعد القراء من جميع الأعمار على استكشاف مشاعر اليأس والعزلة.
2
إن تحليل الكتب المصورة المترابطة يمثل مجالا رئيسيا لا يتصل فيه أدب الأطفال بالأعمال الأدبية المتواجدة المخصصة للكبار، ومن الضرورة بمكان أن نتذكر أن أدب الأطفال يتضمن أنواعا أخرى كثيرة من النصوص المصورة: القصص الخيالية الموضحة بالرسومات، والروايات الرسومية والقصص المصورة والمانجا (القصص المصورة اليابانية )، وكذلك - وبشكل متزايد - الروايات الإلكترونية منها تلك التي تكون في صورة ألعاب الكمبيوتر. وهناك دراسات متخصصة عن كل من هذه المجالات، وتم إجراء بعض الدراسات لتقديم مصطلحات فنية لمناقشة هذه النصوص الأدبية. ويعرض كتاب «كيف تعمل الكتب المصورة» (2001) من تأليف ماريا نيكولاييفا وكارول سكوت مفردات محددة لدراسة الكتب المصورة المترابطة، ويوضح كيف أنها تتجاوز الحدود الدولية والثقافية، في حين يقدم كتاب «فهم القصص المصورة: الفن الخفي» (1993) لسكوت ماكلاود دليلا إرشاديا مفصلا لتفسير أسس الرسوم الهزلية. أما كتاب «دراسة الرسوم الهزلية على شبكة الإنترنت: سرد نقدي ملخص ومفسر» فيقدم - كما يتضح من اسمه - سردا نقديا للأعمال المرتبطة بالرسوم الهزلية بأشمل معانيها. بالإضافة إلى هذا، يقدم القسم الذي يتناول «رواية القصص وخشبة المسرح وشاشة التليفزيون» في مجموعة كتب جانيت مايبن ونيكولا واتسون المنقحة «أدب الأطفال: المناهج والمجالات» (2009)؛ نظرة شاملة وينصح بقراءة نوعيات النصوص الأدبية المصورة التي تشكل الأداء. ويعد البحث الذي أجرته مارجريت ماكي (2007) عن ألعاب وقصص الكمبيوتر العمل الأكثر نضجا واكتمالا في هذا المجال، خاصة فيما يتعلق بأدب الأطفال.
دراسة أدب الأطفال في المستقبل
إن الأفكار المتكررة في هذا الفصل تمثل الطبيعة المتنوعة لأدب الأطفال والطريقة التي يتجاوز بها نطاق أدب «الكبار». فانتقائية عناصره الأولية تمخضت عن كل من مواطن القوة (الشمولية والتنوع والفضول)، ومواطن الضعف (اتساع التفكير بدلا من عمقه وافتقاد التخصص وقصور المعرفة السياقية) لدراسات أدب الأطفال في الوقت الحالي. والآن، بعد أن أصبح أدب الأطفال مجالا بحثيا ودراسيا معترفا به في التعليم العالي، يمكن أن نتوقف عن اعتباره مجالا قائما بذاته، وأن ندمجه في إطار التصنيفات المتعددة التي تطبق على أدب «الكبار». إن وضع دراسات أدب الأطفال ضمن السياقات البحثية مكتملة الأركان المتصلة بفترات و/أو أجناس أدبية و/أو كتاب و/أو ممارسات نشر و/أو مناهج نقدية بعينها من شأنه تعزيز حالة النصوص الأدبية للأطفال ومؤلفيها وإعادتها من محيط الدراسات الأكاديمية. وهناك بعض الفوائد الأخرى المحتملة التي يمكن الحصول عليها من هذا التغيير؛ ففي الوقت الحالي ، مطلوب من معظم «المتخصصين» في أدب الأطفال أن يكون لديهم نطاق اهتمامات واسع؛ إذ تمتد أغلب المسارات الأدبية على مدار فترات تاريخية هائلة، وتشمل الكثير من الأجناس الأدبية، وبالمثل، تحاول معظم الأعمال المرجعية تغطية جميع المجالات والجوانب المصنفة حاليا على أنها من أدب الأطفال. ويمكن أن يكون هذا الموقف ضد عمق المواد الأدبية والاستكشاف المستمر لها. وهناك حركة قائمة بالفعل في هذا الاتجاه، لا سيما بين هؤلاء الذين يدرسون المواد الأدبية من عصور سابقة، ولا سيما دراسات العصور الوسطى وعصر النهضة والقرن الثامن عشر.
وعلى الرغم من وجود الكثير من الفوائد التي يمكن الحصول عليها من إدراج أدب الأطفال في التيار الرئيسي للدراسات الأدبية، فهناك أيضا خسائر محتملة؛ حيث إن البحث الجيد في مجال أدب الأطفال يتطلب دراية جيدة بتاريخه ونصوصه الأدبية وأنواعه الأدبية واستخدامه للعناصر البصرية وتكوين فترة الطفولة عبر مختلف الثقافات والحقب، علاوة على عناصر الأسلوب التي تطورت خصوصا كاستجابة لمهمة الكتابة من أجل الأطفال. وفي الوقت الحالي، يبدو أن هذه الحركة لم تنضج تماما؛ لا سيما أن الكتابة للأطفال - كما يعرض الفصل التالي - قد تتحرر من بعض قيودها مع الكتابة للكبار.
هوامش
الفصل الثالث
تحويل نصوص الطفولة
يتعرف كل جيل جديد على التقاليد الأدبية بعدة طرق مختلفة. وتتضمن هذه العملية - على الأرجح - قصصا متناقلة شفويا، سواء أكانت مرتجلة أم مقروءة بصوت مرتفع. وهذه العملية - بلا ريب - تعتبر جزءا من عملية تعلم القراءة؛ حيث إن القراءة ترتبط ارتباطا وثيقا بالتعليم وتقترن بحزمة ثقافية ضخمة تتعلق بدورها بالمكانة المميزة للنصوص والأجناس الأدبية، ومهارات تعلم القراءة والتفسير، وقيمة القصص في نقل المعلومات المتعلقة بالمجتمع. واليوم، يتعرف العديد من الأطفال على القصص عبر مجموعة مختلفة من الوسائل والعروض، وتهتم الدراسات التي تتناول أدب الأطفال بجميع هذه الوسائل والعروض، وبالطريقة التي تتفاعل بها بعضها مع بعض. فعلى سبيل المثال، قد يتعرف طفل يشاهد برنامجا شهيرا مثل «سي بيبيز» الذي تعرضه شبكة بي بي سي على مسرحية «حلم ليلة صيف» لويليام شكسبير لأول مرة أثناء مشاهدته لهذا البرنامج، ولكن يمكنه بعد ذلك زيارة الموقع الإلكتروني للبرنامج ليقرأ عنها وكذلك يقرأ الكتاب الرقمي، وفي الوقت المناسب يمكنه استكشافها مرة أخرى من خلال نسخة من كتاب الرسوم الهزلية (مسرحيات السيد ويليام شكسبير، 1998) لمارشيا ويليامز. وبمرور الوقت، قد يستمتع ذلك القارئ الصغير نفسه بنسخة روائية رسومية (سلسلة «تصور هذا»، 2005)، أو نسخة نثرية معدلة للمسرحية من إعداد ليون جارفيلد (1985)، أو فيلم مقتبس عن المسرحية كالفيلم الذي أخرجه مايكل هوفمان عام 1999 وشارك فيه العديد من النجوم السينمائيين، أو إعادة صياغة حديثة للمسرحية معدة من أجل العرض التليفزيوني - ربما الحلقات المتعلقة بالمسرحية من سلسلة «إعادة سرد أعمال شكسبير» (إنتاج شبكة بي بي سي، 2005) لجون بوكر - علاوة على مشاهدة عرض مسرحي تقليدي للمسرحية وقراءة نص شكسبير الأصلي. هناك العديد من الطرق التي يمكن للطفل من خلالها أن يتعرف على القصص الروائية، ولكن يمثل هذا الأمر جزءا أساسيا من الانخراط في المجتمع؛ حيث إن - وكما يقول الخبير الإعلامي هنري جنكنز - «تمثيل وإعادة سرد وتعديل عناصر القصص القديمة يعد جزءا قيما وحيويا من العملية التي ينمي الأطفال من خلالها معرفتهم الثقافية».
إن التعرف على التقليد الأدبي - المخزون المتراكم من القصص - يعد أمرا محوريا لفهم الثقافة، ولكن القصص السابقة ما هي إلا جزء من هذه العملية. وذلك المخزون من القصص ليس راكدا، بل إنه يتجدد باستمرار ويزداد؛ ومن ثم يتلقى كل جيل من الأطفال قصصا جديدة تخاطب الاحتياجات والاهتمامات والمخاوف الحالية. إن الإلمام بالحكايات والقصص الجديدة يعد كذلك جزءا من المعرفة الثقافية. وفي بعض الأحيان، تخرج القصص الجديدة إلى الوجود من خلال إعادة صياغة النسخ القديمة، كما رأينا في حالة مسرحية «حلم ليلة صيف»، وفي بعض الأحيان الأخرى تكون القصص جديدة تماما ومتناسبة مع العصر الحديث، وفي كلتا الحالتين، تكون القصص الجديدة غالبا نتاجا للتفاعل مع الوسائل الجديدة.
أدب الأطفال وتطور الصيغ
يتمثل أحد أوجه الاختلاف بين أدب الأطفال والأدب المنشور للكبار في اللهفة التي يحتضن بها الأول التطورات التكنولوجية والوسائط الحديثة. وهذا الأمر ينعكس في حقيقة أنه في الوقت الذي تميل فيه دراسات أدب الكبار إلى اعتبار القصص الروائية التي كتبت من أجل الوسائط الحديثة وتعديل النصوص الموجودة بالفعل لتتناسب مع الوسائط المختلفة أمرين ثانويين بالنسبة لدراسة النصوص الأدبية، فإنهما يعدان جزءا لا يتجزأ من دراسات أدب الأطفال. فمنذ فجر النشر التجاري لا ينفك الناشرون والمطابع عن محاولة اكتشاف طرق جديدة لجعل الكتب والمطبوعات الأخرى جذابة للأطفال. وغالبا ما يعتمد هذا على التطورات الصناعية والتكنولوجية التي تؤدي إلى ابتكار طرق جديدة أو محسنة لتقديم النصوص. وفي القرن التاسع عشر، تضمنت هذه التطورات طرقا لإنتاج واستخدام ورق أقل تكلفة، وإدراج المزيد من الصور بنفقات أقل، واكتشاف طرق اقتصادية للطباعة بالألوان، وطباعة أغلفة منخفضة التكلفة، وطرقا يسيرة التكلفة لتضمين سمات جديدة مثل الكتب ذات الأشكال والرسومات ثلاثية الأبعاد، والمطويات، وعجلات الرسوم البيانية، وأشكال أخرى من هندسة الورق. وخلال القرن العشرين، امتد نطاق عمل إعادة تقديم النصوص الأدبية إلى تقنيات الوسائط الجديدة وتكنولوجيا المعلومات؛ ومن ثم أصبح من الممكن تقديم القصص في صور سمعية وسمعية بصرية متطورة.
ومنذ نهاية القرن الماضي، جرى استخدام الوسائط الرقمية بشكل متزايد لتقديم القصص الروائية في شكل ألعاب كمبيوتر ونصوص على الإنترنت مثل القصص التي يؤلفها المعجبون أو كتابة القصص باستخدام تقنية النص التشعبي. وقد عمل هذا على زيادة القدرة التفاعلية لصيغ العرض القديمة بشكل هائل، ولا يزال الدافع لزيادة هذا النشاط التفاعلي يشكل أساس العديد من جوانب النشر الرقمي. ومع ذلك، ولفترة ما رفض أحد قطاعات السوق الرقمية إغراءات النشاط التفاعلي؛ فحتى وقت قريب، لم تكن الكتب الإلكترونية في الأساس سوى كتب مطبوعة تعرض على شاشة. ويتمثل أحد أسباب هذا الانتقال الذي يفتقر إلى الإبداع الأسلوبي من الكتاب المطبوع إلى الشاشة في التكلفة؛ حيث إن تحويل النصوص المتوافرة في شكل كلمات فقط إلى نصوص رقمية وتصنيع برامج قراءة الكتب الإلكترونية بوظيفة محدودة وهي قراءة الكتب الإلكترونية غير مكلف نسبيا. كما يتبلور سبب آخر لهذا الانتقال في حقيقة أن أول جمهور بارز للكتب الإلكترونية كان يتشكل من القراء الكبار - وهو أمر غير معتاد؛ إذ إن الجمهور الأصغر سنا عادة هو الذي يكون أكثر احتضانا لصيغ الوسائط الجديدة في ظهورها الأول - الذين أرادوا سمة سهولة النقل التي يتمتع بها الكتاب الإلكتروني مع الاحتفاظ بالسمات المألوفة للكتاب المطبوع الثابت.
إن القدرة المحدودة على تخزين المواد الزاخرة بالرسوم، وحقيقة أن الأجهزة في بداية الأمر كانت ضعيفة إلى حد ما والشاشات كانت أصغر من أن تناسب عرض النصوص ذات المحتويات المرئية عالية المستوى، جعلت الأجيال الأولى من الكتب الإلكترونية غير ملائمة للقراء الأصغر سنا. ولكن مؤخرا أصبحت التكنولوجيا اللازمة لتوفير شاشات أكبر وأعلى جودة أقل تكلفة، وحتى الأطفال الأصغر سنا بدءوا يصبحون موضعا لاهتمام هذه التكنولوجيا. وقد أدى ذلك إلى تغير طبيعة النصوص لإبراز إمكانات الوسيطة التي تعرض باستخدامها. ونظرا لأن الكتب الإلكترونية موجهة إلى سوق القراء من الشباب؛ فإنها تقدم محتوى مرئيا فائقا ومستويات أعلى من التفاعل. فكتب الأطفال الإلكترونية المصممة لأجهزة مثل آي باد تستجيب للمس والحركة؛ فعند قراءة النسخة الإلكترونية من رواية «أليس في بلاد العجائب» والمخصصة لأجهزة آي باد - على سبيل المثال - تؤدي إمالة الشاشة إلى نمو حجم «أليس» أو تقلصه، بينما يؤدي هز الجهاز إلى تحريك رءوس شخصيات الرواية. كما تحتوي الكتب الإلكترونية لأجهزة آي باد غالبا ألعابا وأنشطة وفرصا للقراء لتسجيل أصواتهم وهم يقرءون الكتاب، مما يغير تماما من مؤشرات النصوص ومن معنى «القراءة لنفسك».
ظاهريا، قد يبدو الأمر كما لو أن الدعوات للتلاعب بالنصوص التي توفرها أحدث أجيال الكتب الإلكترونية مجرد زخارف إلكترونية للإمكانات التحويلية التي تقدمها الأجزاء المتحركة في النصوص الورقية التقليدية؛ ولكنها في الواقع تمثل جزءا من تغيير هائل في طبيعة السرد الروائي. وفي الوقت الراهن، يكون هذا التغيير في أبرز صوره في مجالين: النسخ الحديثة للقصص التقليدية، وسلاسل الروايات مختلطة الجمهور، والتي هي نفسها تضم عناصر مستعارة من الخرافات والأساطير والقصص الملحمية والحكايات الشعبية والخيالية، بل وتعدل فيها كذلك. إن إجراء هذه المعالجات الحديثة على أقدم أشكال الأدب يعد تذكرة بأنه من خلال القصص سوف يتعرف الأطفال في الوقت نفسه على التراث الأدبي ويتعلمون المهارات التي تجعلهم مثقفين بمقاييس عصرهم.
الإلمام بالوسائط المختلفة، والتعالق النصي، والتحول
في وقت من الأوقات، كانت المعرفة تركز على القدرة على القراءة والكتابة، وكانت تتمحور على نحو أساسي حول المطبوعات الثابتة والوسائط الورقية. ولكن في القرن الحادي والعشرين أصبح من الضروري أن نفكر في الأمر من ناحية الإلمام بالوسائط المختلفة - المعرفة التي تتنقل بين الوسائط المختلفة والتي لم تعد قائمة على النصوص بشكل حصري. فالاطلاع على النصوص التقليدية في عدة نسخ مختلفة - بما في ذلك الوسائط المتعددة - يعتبر طريقة فعالة للتشجيع على المعرفة الثقافية والمعرفة المرتبطة بالنصوص. وبالطبع، الإلمام بالوسائط المختلفة ليس حكرا على الأطفال؛ فالكثير من الكبار أصبحوا ملمين بالوسائط المختلفة بعد وقت طويل من تعلمهم القراءة والكتابة لأول مرة، وربما لا يشعرون بارتياح شديد في التنقل بين الوسائط المختلفة. والكبار الذين يشاركون الأطفال في النصوص الإلكترونية غالبا ما يحسنون من معرفتهم بالوسائط المختلفة أثناء هذه المشاركة (يعد تطوير المعرفة لدى الكبار - في كثير من الأحيان - قيمة مضافة لأدب الأطفال). وغالبا ما يجري تشجيع التنقل بين الوسائط من خلال استراتيجيات المعالجة (التي يشار إليها كذلك بعملية نقل النصوص لتقديمها من خلال وسائط جديدة)، التي تشير إلى الطريقة التي تحاول بها الوسائط الجديدة أن تتقرب إلى الجمهور من خلال الإشارة إلى الوسائط القديمة المعروفة أو محاكاتها أو حتى تضمينها. ونظرا لأن المطبوعات تعتبر إحدى أشهر وسائط تقديم القصص؛ فإنها تكون في كثير من الأحيان الشكل الافتراضي للمعالجة. وهذا ينطبق بصورة خاصة على القصص الروائية للأطفال؛ نظرا لأن الطفولة هي الوقت الذي يتعلم فيه معظم الناس القراءة. ويتضح الاتحاد بين خصائص المطبوعات (والتي تكون عادة في شكل كتب) والوسائط الجديدة في عدد من الأمثلة التي تبدأ بأفلام ديزني المأخوذة عن الحكايات الخيالية الكلاسيكية - والتي تبدأ دائما بكتاب يفتح لتنطلق منه القصة - وحتى الأسطوانات المدمجة والكتب الإلكترونية التي تحاكي حركة قلب الصفحات .
إن المعالجة ليست مجرد محاولة لاسترضاء هؤلاء الذين اعتادوا على الطرق القديمة لتلقي النصوص؛ حيث إن لها تأثيرات جمالية قد تكون محافظة؛ نظرا لأن المنتجين والمصممين والفنيين من الكبار قد نشئوا كذلك على تلك الوسائط القديمة. وحتى الأشخاص الذين يتمتعون بالمعرفة الفنية الجيدة بإمكانيات الوسائط الجديدة ستكون لديهم أفكار باطنة حول كيفية عمل القصص في الوسائط التي يعرفونها جيدا، وهذه الأفكار من شأنها أن تحد من مدى قدرتهم على تجربة إمكانات الوسيطة الجديدة في سرد القصص واستغلالها. وكقاعدة عامة، فإن هؤلاء الذين تعرفوا على الوسيطة الجديدة لأول مرة في صغرهم هم الأكثر جرأة وطموحا بشأن استخدامها حين يصبحون بدورهم منتجين للنصوص ومديرين للوسائط. علاوة على ذلك، ونظرا لأن قدرة الوسائط الجديدة على سرد القصص تستكشف تماما - في الغالب - في المواد الموجهة للصغار، حتى لو كانت المحاولات الأولى لتقديم القصص عبر وسيطة جديدة قد بدت بدائية لاحقا مع إلمامنا الكامل بجوانب هذه الوسائط؛ فإن نصوص أدب الأطفال يمكن أن تكون نقطة انطلاق للابتكار. وقد ثبتت صحة ذلك بصورة خاصة مع التحول إلى الوسائط المتعددة؛ حيث لا يجمع سرد القصص بين الأنواع المختلفة للوسائط (السمعية، والبصرية، والصور الثابتة، والمطبوعات) في نص واحد فحسب، ولكنه منتشر كذلك في عدة أشكال (الكتاب، والفيلم، والرواية المصورة، والرسوم الهزلية، وأفلام الرسوم المتحركة، وألعاب الكمبيوتر)، في الغالب كجزء من ترخيص حقوق الملكية الفكرية للوسائط المختلفة.
حتى يومنا هذا، تعتبر القصص الروائية متعددة النسخ الأكثر تطورا هي تلك التي أنتجت للأطفال. ومن أوائل هذه القصص التي لفتت انتباه العامة تلك القصص التي نشأت من ظاهرة بوكيمون التي بدأت في تسعينيات القرن العشرين. وفيما يتعلق بأهداف هذه المناقشة، فإن القصص نفسها أقل إثارة للاهتمام من العلاقات بين الأجزاء التي بنيت منها، ومما تكشفه عن الكيفية التي تؤثر بها النسخ المتعددة للقصة عبر الوسائل المختلفة على طبيعة النص الأصلي، وكيف يتم تشجيع الجيل الصاعد على إدراك أهمية القراءة.
شبكات السرد
هناك تاريخ طويل لإنتاج نسخ متعددة من النصوص المعدة للأطفال . وحتى وقتنا هذا، تميل كل تجربة مع الفن القصصي إلى الاتسام بالتميز والاستقلالية. على سبيل المثال، في حين أن الأفلام القائمة على الكتب والكتب القائمة على الأفلام عادة ما يكون لهما الجمهور نفسه، فإن كلتا النسختين مستقلتان بذاتيهما وتعملان بمقاييس الوسيطة التي تقدمان من خلالها. وهذا يعني أن المنتجات المختلفة التي تقوم على قصة ما تتنافس بعضها مع بعض؛ نظرا لأنه ليس كل الأطفال سيشاهدون ويستمعون ويقرءون النسخ المختلفة من النص نفسه، وأن النسخ المختلفة للنص كانت تقارن بضعها ببعض وتقيم بناء على ذلك. وبالطبع، كان تركيز عملية التنقل بين الوسائط المختلفة منصبا على توسيع القاعدة الجماهيرية، وعادة ما كان ذلك يحدث بالدخول إلى أسواق الجماهير الأصغر سنا. وهناك تغير واضح يحدث في العلاقة بين النسخ المتعددة للنصوص التي تقدم عبر وسائط مختلفة و/أو عبر صيغ مختلفة في وسيطة واحدة. وهذا التغيير يؤثر على كل من طبيعة النصوص متعددة النسخ وجمهورها.
وبينما يولد أطفال اليوم في بيئة متعددة الوسائط، فإن النصوص والصيغ الأقدم لم تختف؛ لذلك فإن فرصة تجربة العديد من النسخ المختلفة لقصة واحدة لا تزال قائمة، ولكن هناك بعدا جديدا لهذه العملية. من الناحية التاريخية، تميل النسخ الجديدة من النصوص إلى اتخاذ شكل الاقتباسات - أي تحويل قصة من وسيطة إلى أخرى بطريقة يقصد منها خلق تجربة جمالية مرضية في حد ذاتها. تولد نسخ متعددة للنصوص بصورة متزايدة كأجزاء من شبكات متصلة ومتناسقة تشكلت بفعل اندماج الوسائط المختلفة. وفي شبكات السرد عبر الوسائط المتعددة هذه، تنتشر القصة الأساسية وتقدم عبر عدد من الوسائط المختلفة ومجموعة من الصيغ المتنوعة. على سبيل المثال، ككتاب و/أو فيلم و/أو رواية مصورة و/أو لعبة كمبيوتر و/أو جملة من النصوص الأدبية التي يصيغها معجبو هذه القصة حولها. وبدلا من إنتاج سلسلة من الصور المتتابعة المستقلة لقصة ما لشرائح عمرية مختلفة كما رأينا في حالة مسرحية «حلم ليلة صيف»، تترابط النسخ المتعددة للنصوص، والمعروضة عبر وسائط مختلفة بطرق تشبه سرد المسلسلات ، بحيث يقدم كل عنصر معلومة ورؤية جديدة للجمهور نفسه تقريبا. ولم تعد المنتجات المختلفة القائمة على القصة نفسها تتنافس بعضها مع بعض، بل أصبحت ديناميكية ومكملة بعضها لبعض بصورة متزايدة، وهي حقيقة تقرها عملية مشاركة الأصول. إذن فعبر شبكات الوسائط المتعددة، قد تجد - على سبيل المثال - أن لعبة كمبيوتر تتضمن مشهدا من الفيلم، بينما سيشير الفيلم إلى طريقة ممارسة اللعبة، وإذا ما كانت هناك طبعات جديدة تصدر من النص المطبوع - كما هو الحال على الأرجح إذا كانت السلسلة مأخوذة عن سلسلة حديثة من الروايات - فإن الكتب الجديدة سوف تستفيد، أو تقر، بالطريقة التي طورت بها عناصر الوسائط الأخرى في الشبكة من الشخصيات والحبكة والزمان والمكان. من جانب، يتمحور هذا الأمر حول إثارة أنماط استهلاكية جديدة؛ حيث إن كل جزء من الشبكة يعد منتجا كذلك ومن الممكن أن يخرج من رحمه منتج جديد، ولكنه في الوقت نفسه يؤثر على طبيعة النص السردي.
ودائما ما تدور معظم شبكات السرد عبر الوسائط المتعددة المشهورة في فلك الروايات الخيالية التي تحقق أعلى مبيعات. وسلسلة روايات «هاري بوتر» للمؤلفة جيه كيه رولينج تضرب مثلا لهذه الشبكات، وتحدد أدب الأطفال بأنه عنصر أساسي في تطوير ما يطلق عليه هنري جنكينز «ثقافة التقارب»، والتي يقصد بها:
تدفق المحتوى عبر منابر إعلامية متعددة، والتعاون بين مجالات إعلامية متعددة، وسلوك الترحال الذي يمارسه جمهور وسائل الإعلام الذين سيذهبون إلى أي مكان تقريبا بحثا عن تجارب التسلية التي يرغبون فيها.
وفي القراءات المتقاربة، تصبح القصص مزيجا من كل الوسائط المتاحة يعتمد على حواس متعددة؛ فأنت تقرأها وتلعبها وتشاهدها وتسمعها. والأمر المثير للاهتمام على وجه الخصوص في سلسلة روايات «هاري بوتر» هو أنها بدأت ككتب مطبوعة تقليدية للأطفال، ولكن على مدار الوقت الذي كانت رولينج تكتب فيه باقي قصص السلسلة، كانت القصص قد تحولت إلى شبكة سرد عبر الوسائط المتعددة. وتتكون شبكة «هاري بوتر» الرئيسية من كتب وتسجيلات صوتية وأفلام وألعاب كمبيوتر وألعاب على شبكة الإنترنت ونصوص صاغها القراء المعجبون بالعمل ، ومواقع ومدونات (هناك العديد من المنتجات والأحداث الأخرى التي استمدت وحيها من قصص «هاري بوتر» والتي تتفاعل مع الشبكة، ولكنها لا تطور في القصة؛ ومن ثم فهي خارج نطاق مناقشتنا). ومع نمو الشبكة، كانت كل نسخة مضافة تخلق فرصا جديدة لاستكشاف عالم «هاري بوتر»، وتملأ فجوات الكتب، وتقدم وجهات نظر جديدة. وهناك شواهد كذلك على أن الكتب اللاحقة في السلسلة تظهر تأثر أسلوب المؤلفة رولينج والحبكة الدرامية التي تصنعها بوعيها بالنسخ والملحقات الأخرى لكتبها، والتي كان جمهورها المخلص يستخدمها؛ مما أدى إلى وضع أجزاء وحبكات مثل خريطة مارودر التي تنقلك بسهولة إلى النسخ الأخرى من الكتب في شبكة السرد عبر الوسائط المتعددة.
تميل التحليلات التي تتناول هذه الظاهرة إلى افتراض أن الكتب هي الأصل أو النصوص التي تمثل المصدر، وأن كل الطرق الأخرى لتناول القصة المتطورة للفتى الساحر وسعيه لهزيمة الشر المتمثل في شخصية «فولدمورت» تنحصر في إعادة سرد القصة في نسخ مختزلة. وهذه هي الحجة التي جاء بها أندرو برن (2004-2006) عند مقارنة المشهد نفسه في ثلاث نسخ لرواية «هاري بوتر وحجرة الأسرار». يوضح برن أنه خلال تحويل القصة من كتاب (رولينج، 1998) إلى فيلم (إنتاج شركة كولومبس 2002) إلى لعبة كمبيوتر (من تصميم شركة إلكترونيك آرتس 2002)، ليس هناك تفاصيل مفقودة إلى حد واضح فحسب، بل أيضا أصبحت شخصية هاري بوتر أكثر تركيزا على الحركة وبطولية وأقل تضاربا بشكل مثير للاهتمام، في حين أن رفاقه باتوا أقل أهمية لنجاحه وسلامته وتطوره الشخصي. ورغم أن الحقائق هي كما قدمها برن، فإن تحليلاته نسبية، تركز على ردود الأفعال إزاء كل نسخة على حدة؛ ومن ثم فإنها لا تأخذ في الاعتبار العلاقة بين الأجزاء والكل في شبكة السرد عبر الوسائط المتعددة أو الأسلوب التعاوني للقراءة الذي تسعى إلى إثارته. ويوضح جنكينز قائلا:
من أجل التواجد الكامل داخل أي عالم قصصي، ينبغي أن يلعب المستهلكون دور الصيادين والجامعين؛ حيث يطاردون أجزاء القصة عبر قنوات الوسائط الإعلامية، ويقارنون بين ملاحظاتهم عبر مجموعات نقاشية على الإنترنت، ويتعاونون لضمان أن كل من يستثمر وقته وجهده سوف يخرج بتجربة مسلية أكثر ثراء.
إن الرغبة في استخدام الإنترنت لجمع المعلومات ومناقشة حلول محتملة للألغاز التي زرعتها رولينج في كل قصة لهي سلوك يرتبط في الأساس بألعاب الكمبيوتر، ويدل على انهيار الحواجز بين وسائل الإعلام والنسخ المختلفة من النصوص. وفي حين أن القراءة كانت تعتبر في يوم ما تجربة فردية شديدة الخصوصية - حيث كانت تحدث كاستجابة للنص المطبوع في عقل القارئ وبإيقاعه الخاص، كما كانت نوعية الاستجابات التي تثيرها عملية القراءة تدين بالكثير لحياة القارئ الشخصية وتاريخه مع القراءة - فإن هؤلاء الذين نشئوا في بيئة متعددة الوسائط يتوقعون على نحو متزايد أن تتضمن عملية القراءة أشخاصا آخرين ونسخا أخرى من النصوص، والتي تحدد لهم أدوارا مختلفة كمشاهدين ولاعبين وقراء ومنتجي نصوص. ونظرا لأن الشبكة عبر الوسائط المتعددة كتلك التي تشكلت حول سلسلة روايات «هاري بوتر» سوف تتضمن إسهامات من أعداد ضخمة من القراء والمشاهدين واللاعبين والكتاب الذين يتشاركون المعلومات والآراء والحلول والتأملات؛ فإن هؤلاء الذين يميلون إلى المشاركة فيها لم يعودوا يعتبرون الكتب مستقلة بذاتها، ولكن يعتبرونها جزءا من كيان أضخم وأعقد كثيرا من أن يقدم عبر وسيطة واحدة.
إن شبكات السرد عبر الوسائط المتعددة المتطورة بالكامل قليلة جدا في الوقت الحالي، وهي حتى الآن تميل إلى التركيز على النصوص التي تجمع بين المغامرة والبحث والخيال؛ ومع ذلك، فإن الطريقة التي تميل بها هذه الشبكات إلى بناء القصص تؤثر على سمات الكتابة للأطفال، وكذا على قراءة الأطفال أنفسهم للنصوص بطرق يمكن تمييزها بوضوح. تعتبر كتب المؤلف باتريك كارمان التي تصدرت قوائم أكثر الكتب بيعا - على سبيل المثال - شبكات سرد مصغرة عبر الوسائط المتعددة. فقراء سلسلة «المتعقبون» (2010- ) يصلون إلى نقاط في النص المطبوع تحيلهم إلى الإنترنت لمشاهدة مقاطع الفيديو ولعب الألعاب التي تمدهم بمعلومات ضرورية بالنسبة للحبكة الدرامية للنص. وعلى الرغم من حقيقة أن هناك قلقا من أن القصص السردية عبر الوسائط المتعددة تشكل تهديدا لقراءة الوسائط المطبوعة التقليدية - كما هو الحال مع كل الوسائط الجديدة عند ظهورها للمرة الأولى - فإن بعض الطرق التي تتأثر بها عملية القراءة لديها القدرة على تعميق فهم الكيفية التي يعمل بها النص السردي. على سبيل المثال، تساعد هذه الطرق هؤلاء الذين لا يجدون متعة في قراءة الروايات المطبوعة للاستفادة بمهاراتهم في مجالات المعرفة الأخرى التي يكونون أكثر براعة فيها. كما أن انصهار الوسائط المختلفة يتيح كذلك طرقا للكتابة تولد بدورها ألوانا جديدة من القصص، قصص تعكس تجارب النشأة في كنف تقنيات معلومات متنوعة أكثر من أي وقت مضى.
عناصر السرد عبر الوسائط المتعددة: التفاعلية والتواصل الشخصي والانغماس
عادة ما يبدأ اللقاء الأول للأطفال بالقصص - باعتبارها جزءا من سلسلة السرد عبر الوسائط المتعددة - بمشاهدة البرامج التليفزيونية مثل «عالم سمسم» أو «بوب البناء» أو «حديقة المرح». وهذه البرامج تعرف الأطفال على شخصيات وأزمنة وأماكن ومجموعات مختارة من القصص، وتمتد هذه البرامج إلى المواقع الإلكترونية التي تقدم أنشطة تتضمن قراءة القصص، والتي تشبه إلى حد كبير الكتب المصورة التقليدية؛ حيث يستطيع الأطفال الاستماع إلى القصة ورؤية النص المطبوع كذلك، والذي يتغير لونه مع نطق كلماته. وعلى الرغم من أنها تشبه الكتب المصورة، فإن هذه الإصدارات التي تعرض على شاشات الأجهزة الإلكترونية المختلفة تتضمن رسوما متحركة وأصواتا وبعض روابط النص التشعبي، والتي تتيح للأطفال التفاعل مع النص من خلال اللمس أو النقر.
وتتضمن الشبكات مجموعة مختلفة من المنتجات، بما في ذلك أقراص الفيديو الرقمية للبرامج التليفزيونية والأفلام المصنوعة خصوصا لتكون جزءا من هذه الشبكة، والكتب التفاعلية، وألعاب الكمبيوتر، والدمى. وفي حين أنه من الممكن الاستمتاع بكل جزء من هذه الشبكة على حدة، فإن العديد منها قد صمم خصوصا ليستخدم جنبا إلى جنب مع باقي أجزاء الشبكة؛ مما يزيد من احتمالية التفاعل بينما تستحدث محفزات لشراء المزيد من منتجات الشبكة. لذا، فعلى سبيل المثال، قد تتضمن دمية «بوب البناء» جهاز تحكم يرتبط بكتاب «بوب البناء»، بحيث يدفع الضغط على رقم ما بوب إلى التلفظ بعبارات تكمل الصفحة التي تحمل ذلك الرقم في الكتاب. وحجم الطلب على شبكات السرد عبر الوسائط المتعددة هذه يوضح كيف أن مهارات التعلم التقليدية باتت تمتزج بأشكال التعلم والتسلية الأخرى. فمثلا، بالإضافة إلى تدريس مثل هذه المهارات المألوفة كالتعرف على الأرقام والحروف والألوان، فإن متجر بوتون ساوند بوكس - المنتج لعدد كبير من كتب «بوب البناء» والمنتجات المرتبطة به - يعد بأن مستخدمي منتجاته من الأطفال سوف «يتعلمون كيفية استخدام الميكروفون، والكاميرا، والعزف على البيانو والجيتار»! توضح شبكات السرد عبر الوسائط المتعددة الأولية هذه عنصرين أساسيين عن عملية السرد عبر الوسائط المتعددة، ألا وهما: أنها تفاعلية؛ وذلك لأن الأطفال يحتاجون مساعدة الكبار في العديد من الجوانب المختلفة فيما يتعلق بالوصول إلى النصوص واستخدامها، كما أن لها بعدا اجتماعيا فطريا. ويمتد التواصل بين الأشخاص في حالة اشتراك أكثر من طفل واحد في النشاط، ويوضح ماكي (2010) أن الأطفال يستطيعون العمل معا على مثل هذه النصوص، حيث يتبادلون مهارات تفسير الرموز وحل المشكلات التي يتعلمونها من الكتب المصورة وألعاب الكمبيوتر بين الوسيطتين. وبالنسبة للأطفال الأكبر سنا، فإنهم يختبرون عنصر التواصل بين الأشخاص عبر الألعاب الإلكترونية ومنتديات الإنترنت التي أنشئت خصوصا للمستخدمين المتعددين.
أما العنصر الثالث لشبكات السرد عبر الوسائط المتعددة، فهو الانغماس، وهو تعبير دائما ما يستخدم لوصف مستوى انخراط شخص ما في لعب ألعاب الكمبيوتر. كذلك يمكن استخدام تعبير الانغماس لوصف تجربة «الاستغراق في الكتاب»، ودراسة الطرق التي قد تدعم بها سلاسل السرد عبر الوسائط المتعددة الانغماس أو تحول دونه تظهر مدى قدرة هذه السلاسل على أن تكون مكملا لقراءة المواد المطبوعة التقليدية. إن الانغماس التام في قراءة كتاب أو مشاهدة فيلم أو لعب لعبة إلكترونية أمر ممتع، ولكنه غالبا ما يعد حالة تتوقف فيها القدرات النقدية عن العمل. إن أول لقاء بالنص في شبكة السرد عبر الوسائط المتعددة ينتج على الأرجح درجة عالية من الانغماس، ولكن ما إن يبدأ «القراء» في التنقل عبر باقي أجزاء الشبكة والمشاركة في المناقشات الدائرة حول الصور المختلفة التي ظهر بها النص، حتى يأتي الشعور بالرضى الذي ينبع من الدراسة، وطرح الأسئلة، وفحص الأجزاء المختلفة من الشبكة ومحاولة التوصل إلى اكتشافات تعمق الفهم، بدلا من الكفاح من أجل الوصول إلى درجات أعلى من الانغماس. وهذا الأمر يثير بعض المقارنات المثيرة للاهتمام بأهداف تدريس الأدب والاستراتيجيات المستخدمة في ذلك.
مع تقدم الأطفال في مسار النظام التعليمي، يصبحون مطالبين بفهم القراءة كعملية تفسيرية؛ حيث إن القصص التي يتعلمونها تعمل على أكثر من مستوى؛ ومن ثم فهي في حاجة إلى التفسير. وهناك شكوى شائعة تتمثل في أن القصص التي تقرأ في المدارس تدمر بفعل المطالبة المستمرة للطلاب بالنظر إلى عمق النص وليس سطحه، وتركيز الانتباه على أشياء من قبيل الجنس الأدبي، والمنظور السردي، والاستطرادات، وتغير الأزمنة، وعناصر الأسلوب، والحاجة إلى سد الثغرات في السرد. والمثير للاهتمام أن العديد من هذه السمات يكون موضحا في عملية قراءة النصوص عبر الوسائط المختلفة، سواء أكان ذلك يتضمن جمع دلائل تتعلق بالأحداث، أم الأفعال، أم رسم الشخصيات، أم الزمان والمكان، أم محاولة اكتشاف المنظور السردي. وتتطلب ألعاب الكمبيوتر التفاعلية على وجه الخصوص حل المشكلات التي تحول الاستراتيجيات التفسيرية إلى أنشطة فعلية. فممارسة لعبة كمبيوتر قائمة على إحدى روايات «هاري بوتر» - على سبيل المثال - قد تجعل من الممكن تغيير المنظور السردي للقصة من خلال تغيير الصور الكرتونية، في حين أن طبيعة الاستطرادات وسبب تضمنها تغييرا في الأزمنة لا يمثلان إشكالية بالنسبة للاعب ينشط رابط نص تشعبي ويعيش أحد أحداث النص أثناء وقوعه، والذي يلقي الضوء على سمة من سمات الحبكة أو الدافع كانت خفية من قبل.
ومع تطور الألعاب الإلكترونية، فإنها توظف بشكل متزايد قصصا معقدة ومدروسة بعناية ومكتوبة بإتقان، وتقدمها من خلال مزيج من المواد المطبوعة؛ فالحاجة إلى قراءة الكتب، والخطابات، والرسائل، والمفكرات اليومية، وأنواع مختلفة من المستندات للحصول على معلومات حيوية تعتبر سمة من سمات الألعاب الإلكترونية. والأمثلة على الاهتمام بكتابة قصص ألعاب الكمبيوتر هي لعبة «أساسنز كريد» (2008)، و«أساسنز كريد 2» (2009)، اللتين تدور أحداثهما وسط مناظر تجسيدية موسعة ومفصلة للغاية للأرض المقدسة في حقبة الحملات الصليبية وفي إيطاليا القرن الخامس عشر على التوالي. وتعتبر هذه السلسلة قصص مغامرات تاريخية بقدر ما هي ألعاب إلكترونية، وقدرتها على التحفيز على الانغماس تعزى إلى الخلفية الدرامية مكتملة التطور، والتي نتعرف عليها من خلال الحوار ومستندات تصميم اللعبة، والتي أدت إلى خلق محيط زماني ومكاني واقعي إلى حد مدهش. وتتضح أهمية القصة بالنسبة لهاتين اللعبتين من حقيقة تعيين أومبيرتو إيكو - الباحث في تاريخ العصور الوسطى والروائي إلى جانب أشياء أخرى - مستشارا لذلك المشروع. ونظرا لاهتمام إيكو بخلق أدوار للقراء، بحيث يطلب منهم حل الألغاز التي غالبا ما تستند إلى نصوص أخرى وإلى نشاط القراءة، وكذلك جعل النصوص مفتوحة للعديد من التفسيرات؛ فإن حماسه للنص الروائي للألعاب الإلكترونية قد يكون غير مثير للدهشة. إن مهارات إيكو كمؤرخ وكاتب تشكل سلسلة ألعاب «أساسنز كريد»، ولكن العلاقة التأثيرية بين الألعاب والروايات ليست ذات اتجاه واحد، علاوة على أن كتاب أدب الأطفال ينجذبون انجذابا متزايدا إلى السمات المرتبطة بالألعاب لإنتاج أنواع جديدة من القصص وطرق جديدة لسردها. «إعادة إنتاج كتاب»: تقاليد جديدة للروايات القديمة
تعتبر رواية «هيكسوود» (1993) للكاتبة ديانا وين جونز أحد الكتب التي تستخدم تقاليد سردية ترتبط بألعاب الكمبيوتر من أجل خلق نهايات أدبية مبتكرة. تبدأ هذه الرواية المعقدة الثرية بسلسلة من الفصول القصيرة جدا، والتي تبدو أنها تكرر الأحداث نفسها من وجهات نظر أو مراحل زمنية مختلفة. ثم يتضح بالتدريج السبب وراء التكرار والربط بين الأحداث؛ فالأحداث جزء من لعبة تقمص أدوار واقعية افتراضية كونية تستخدم لاختيار حكام المجرة، وبنية الكتاب نفسها تقوم على أساس هذه اللعبة. ومثلما تنطلق رسالة «انتهت اللعبة» عدة مرات في تتابع سريع حين يرتكب اللاعبون الجدد أخطاء، أو يتسببون في مقتل شخصية اللعبة، ويضطرون للبدء من جديد وهم يستكشفون مساحة اللعبة، كذلك يبدأ قارئ «هيكسوود» القراءة من جديد مع شخصية آن، التي تلعب دور الشخصية الكرتونية للقارئ.
وبمجرد دخول الشخصيات في بيئة اللعبة، تفقد إحساسها بهويتها (بعبارة أخرى، تنغمس في اللعبة)، وتندمج مع الصور الكرتونية المحددة لها. وكل الصور الكرتونية عبارة عن شخصيات أسطورية، تتضمن الملك آرثر والساحر مرلين، وعددا من فرسان المائدة المستديرة، وقاتل التنين في أسطورة بيوولف؛ باختصار، إنه «فريق الأحلام» الأدبي. ونظرا لأن سلوك الشخصيات متأصل في تجسداتهم الأدبية؛ فإن العلاقة بين الكتب والألعاب تتضح أنها علاقة تكميلية. في الواقع، هذه العلاقة هي ما يحرك الحبكة، على الرغم من أن الحبكة في رواية «هيكسوود» ثانوية بالنسبة للسرد. وقد استخدمت عناصر التفاعل مع اللعبة من أجل تنظيم بنية الرواية وتطوير شخصياتها. على سبيل المثال، الانغماس، وإمكانية إعادة اللعب، وخلق عالم بديل قائم على مزيج من الأجناس الأدبية المذهلة، والمعركة بين الخير والشر للسيطرة على العالم، واستخدام الصور الكرتونية. وتكتسب الصور الكرتونية أهمية خاصة في هذه الرواية، حيث يتضح بالتدريج أن الاتفاق بين الهويات الأدبية الأصلية للشخصيات وصورهم الكرتونية قد خلق بعناية ويقدم لنا تلميحات بشأن ماضي الشخصيات، وطبائعهم، وقدراتهم.
هناك العديد من الطرق الأخرى التي يستفيد بها النص من خصائص ألعاب الكمبيوتر، ولكن رواية «هيكسوود» تعتبر مثيرة للاهتمام لهذه المناقشة؛ لأن ديانا وين جونز مزجت فيها أنماطا وشخصيات ونماذج وحبكات درامية من الخرافات والأساطير والحكايات الشعبية والخيالية بسمات ألعاب الحاسب لخلق قصة وأسلوب جديدين من رحم تلك المكونات المألوفة. وقد فعل سلمان رشدي شيئا مشابها في روايته «لوقا ونيران الحياة» (2010)، وهي تتمة لرواية «هارون وبحر القصص» (1990). وتدور أحداث رواية «لوقا ونيران الحياة» حول ابن آخر من أبناء رشيد راوي القصص، والذي عليه أن ينقذ والده. في هذه المرة، استسلم رشيد لتعويذة غامضة ألقيت عليه فأسلمته إلى نوم طويل، فانطلق لوقا يبحث عن نيران الحياة التي يأمل أن توقظ والده ليسترجع مهاراته في سرد القصص. وعلى غرار وين جونز، يجري سلمان رشدي - الذي أصبح خبيرا في ألعاب الكمبيوتر خلال سنوات الفتوى بإهدار دمه - مقارنات بين أسلوب السعي وراء الأهداف في ألعاب الكمبيوتر وفي الحكايات القديمة، بما في ذلك القصة الخيالية التي يكتبها في رواية لوقا. وتعتبر فكرة الفناء موضوعا رئيسيا في هذا الكتاب، وتتمثل إحدى طرق استكشاف ذلك في المقارنة بين القيم المختلفة التي تكتسبها فكرة الحياة في الألعاب الإلكترونية، حيث تمتلك الشخصيات/اللاعبون عددا لا يحصى من الحيوات (وهو ما يشبه أسلوب إعادة التشغيل الذي استخدمته وين جونز في رواية «هيكسوود»)، وفي الحياة الواقعية، حيث يتقدم العمر برشيد ويواجه لوقا حقيقة أن والده لن يتمكن من النجاة إلى الأبد.
إن المزيج الذي يصنعه رشدي بين الألعاب الإلكترونية والحكايات التقليدية يتمحور في الأساس حول قابلية النص السردي للتكيف وأهمية ذلك لكل الثقافات (وهو يستخدم مجموعة كبيرة مختلفة من تقاليد السرد الروائي في رواية «لوقا»). تشارك رواية «هيكسوود» كذلك هذه المخاوف وتؤكد على قدرة القصص على التعليق على أحوال المجتمع، وفي هذه الحالة، تعلق القصة على مغريات أهل السلطة للتلاعب بالقواعد. وقد ظهرت فكرة مشابهة لهذه في رواية «ملحمة» (2004) للكاتب كونر كوستيك، وهي قصة تدور أحداثها في المستقبل على كوكب ما حيث تستخدم لعبة تقمص أدوار متعددة اللاعبين - تسمى الملحمة - لإدارة المجتمع بنية تجنب النزاعات. ولكن، هناك عصبة من الفاسدين أمسكوا سرا بزمام اللعبة لجمع ثروة وتحصين أنفسهم، وتدور قصة الرواية حول محاولات استعادة السيطرة المشروعة على زمام اللعبة. وللقيام بذلك، كان على السكان أولا أن يدركوا أن هناك تلاعبا في اللعبة. ولكن من الصعب القيام بذلك؛ نظرا لأنهم منغمسون تماما في اللعبة. وتعمل فكرة الاستغراق في تلك اللعبة كاستعارة للأيديولوجية؛ حيث يجد المستعمرون أنه من المستحيل أن يدركوا أن الطريقة التي يعيشون بها ليست محتومة.
يأتي التغيير حين يتخلى إيريك - وهو لاعب صغير في اللعبة - فجأة عن الصورة الكرتونية التي يستخدمها طوال حياته - وهي تشبهه للغاية - ليجرب شيئا مختلفا تماما. فأتاح له الواقع الافتراضي أن يتقمص شخصية سينديلا قاتلة التنانين؛ وهي فتاة جذابة تستعين بالسحر عوضا عن المهارات القتالية. وتعد القدرة على إعادة ابتكار الذات المرتبطة بالفضاء الإلكتروني والواقع الافتراضي مصدرا للقلق في بعض الأحيان، إلا أن تصحيح الوضع يولد منظورا جديدا أو أكثر. مع اتخاذه لسينديلا كصورة كرتونية له، بدأت طرق جديدة للتفكير في اللعبة والحياة اليومية تطرأ على ذهن إيريك؛ مما مكنه هو ورفاقه من إكمال لعبة الملحمة، والإطاحة بالزمرة الحاكمة، واستعادة الحكم العادل لأهل الكوكب.
وعلى غرار روايتي «هيكسوود» و«لوقا ونيران الحياة»، توظف رواية «الملحمة» بنية السعي وراء تحقيق هدف محدد، بما في ذلك المحاولات والحاجة إلى إحراز تقدم عبر مستويات مختلفة من خلال هزيمة مجموعة متنوعة من الوحوش. كما أن جزءا كبيرا من نص هذه الرواية مكتوب كلعبة إلكترونية؛ ومن ثم يقرأ القراء الأوامر التي يعطيها إيريك لسينديلا، ثم يكتشفون ما يحدث عندما تنفذها. وفي حين أن كلا من روايتي وين جونز وسلمان رشدي تتعقب شخصية وحيدة بشكل أساسي وهي تجتاز المستويات المختلفة لعالم اللعبة، فإن الفوز في لعبة «الملحمة» يتحقق عندما يتعاون إيريك مع أصدقائه وعائلته والأفراد الأساسيين في المجتمع؛ حيث يبنون ثقافة تقارب في مجتمعهم. وكل فرد من هؤلاء يشارك في اللحظات الحرجة، حيث يوحدون مهاراتهم ويتعاونون في حل مشكلاتهم. ومن ثم، فإن هذه الرواية التي تنتمي إلى القرن الحادي والعشرين، تؤكد على قيمة أساليب وتقاليد ألعاب الكمبيوتر ومجتمعات الإنترنت وتوظفها، حيث تمزجها بعناصر من القصص التقليدية من أجل ابتكار طرق جديدة لسرد القصص، والتي تطرح كذلك طرقا جديدة للتفكير بشأن كيفية تنظيم المجتمع وإدارته.
توضح الأمثلة الثلاثة السابقة كيف تتأثر النصوص المطبوعة بمبدأ السرد عبر الوسائط المتعددة. ورغم أن أيا من هذه الروايات الثلاث ليست جزءا من شبكات سرد عبر الوسائط المتعددة، فإنها نصوص تفاعلية، حيث إنها تمزج بين سمات الألعاب الإلكترونية، والسرد الروائي، وتطورات الوسائط الجديدة، كما أنها جزء من عملية تعديل توقعات صغار القراء بشأن ماهية الرواية ووظيفتها. كما أنها تبين السبب وراء أن تحليل الروايات للأطفال يتطلب من الأكاديميين - على نحو متزايد - النظر إلى ما وراء المناهج النقدية التقليدية إلى تلك الطرق التي تطور لمناقشة التقنيات الجديدة. فالنصوص التفاعلية للأطفال تمهد الطريق لاتجاهات مستقبلية للرواية.
الفصل الرابع
الأجناس الأدبية والأجيال: القصة العائلية مثالا
في بعض الأحيان، يشار إلى أدب الأطفال بوصفه جنسا أدبيا مستقلا على أساس أنه صنف متميز من النشر له تقاليده المميزة التي ترسخ توقعات محددة لدى قرائه. وإحدى مشكلات هذا المنظور هي أن أدب الأطفال «يتضمن» كذلك كل الأجناس الأدبية والأجناس الأدبية الفرعية التي تستخدم في تصنيف أجناس الكتابة، بدءا من المصطلحات القديمة والقائمة على نطاق واسع مثل التراجيديا، والكوميديا، والملحمة، والشعر، والدراما، ووصولا إلى التسميات الحديثة والأكثر تخصصا مثل «أدب المراهقات». وفي الواقع، فإن التركيز على الأجناس الأدبية المترسخة والأدب القصصي الشعبي شديد في مجال النشر للأطفال مقارنة بالنشر للكبار، ويعكس ذلك العديد من الدراسات التاريخية والمقدمات والأعمال المرجعية المخصصة لأدب الأطفال. فالغالبية العظمى منها تغطي موضوعات أساسية مثل قصص المغامرات، وقصص العائلات، وقصص المدارس، وقصص الحيوانات، وربما كذلك روايات الفانتازيا، والروايات الواقعية، والشعرية، والتاريخية وروايات الحروب. ووفقا لطبيعة العمل، فقد تتناول هذه الأجناس الأدبية موضوعات أكثر تخصصا تمتلك مع ذلك أعرافا محددة وثابتة بوضوح مثل قصص الخيول، أو القصص الأخلاقية. وليس مقدار الأدب القصصي الذي يحدده الجنس الأدبي وحده هو ما يميز الكتابة للأطفال عن الكتابة للكبار، لكن الطرق التي يستخدم بها، والأجناس الأدبية الأكثر هيمنة داخله، وتأثيرات الكتابة في تقاليد الأجناس الأدبية يمكن أن تكون أيضا مختلفة تماما.
جاذبية الأدب القصصي الشعبي للصغار ومكانته
ترجع تسمية «الأدب القصصي الشعبي» إلى حقيقة أن هذا النوع من الكتابة يجذب أعدادا كبيرة من القراء عن طريق تقديم تجارب قراءة مألوفة. وهو ينزع إلى القيام بذلك عبر الالتزام بالتقاليد، وتوظيف الصور النمطية، واتباع صيغ معينة، وربما اللجوء إلى التعبيرات المبتكرة. وقد يفسر المستوى الرفيع للأدب القصصي الشعبي الذي يشكل أدب الأطفال تفسيرا جزئيا السبب في أنه - كقالب أدبي - غالبا ما ينبذ لأنه لا يتطلب كثيرا من المهارة، ولأنه شيء ينبغي التخلي عنه عند الكبر. ومع ذلك، فإن هذا التوجه نحو الأدب القصصي الشعبي، سواء أكان للكبار أم للأطفال، يعجز عن الأخذ في الاعتبار حقيقة أن الأدب القصصي الشعبي يتمحور حول التقاليد - التي لا تسفر في حد ذاتها عن كتابة مبتذلة أو خيال فقير - أكثر مما يتعلق بالأسلوب. وفي الواقع، قد تكون قيود التقاليد في حد ذاتها عاملا محفزا للابتكار؛ حيث تستفز الكتاب لاستكشاف احتمالات الامتثال بالتوقعات المرجوة من الجنس الأدبي وتجاوزها في آن واحد. فكثيرا ما يأتي فيليب بولمان بابتكارات عبر وضع الجنس الأدبي تحت التجربة؛ فروايته رباعية الأجزاء «سالي لوكهارت» (1985-1994) تحيي نمط روايات التشويق التي سادت إبان العصر الفيكتوري؛ أما روايته «كنت جرذا» (1999)، فتتلاعب بتقاليد القصة الخيالية، في حين أن روايته «الرجل الصالح يسوع والمسيح الشرير» (2010) - وهي ليست كتابا للأطفال - تعيد سرد أجزاء من الأناجيل الأربعة.
من المهم أن تضع نصب عينيك أنه في حين أن المؤلفين قد يكتبون في إطار الأجناس الأدبية التقليدية، فإن هذه النصوص بالنسبة لمعظم القراء الأطفال تمثل تجاربهم الأولى مع الأجناس الأدبية المتفردة؛ ومن ثم لن يجدوها مألوفة أو متوقعة. وعلى الرغم من أن صغار القراء قد يكونون على دراية بأن أنواعا معينة من الكتب توجد في أماكن مخصصة لها في المكتبات العامة أو متاجر الكتب، فإنهم يستغرقون وقتا على الأرجح ليفهموا التقاليد التي تحكمها أو ليدركوا أنهم أنفسهم لديهم توقعات حول نوع تجربة القراءة التي تقدمها مجموعات معينة من الكتب.
إن التعرف على تقاليد الأجناس الأدبية جانب مهم من تعلم القراءة. فالقدرة على توقع ما يدور يمكن أن تساعد على تنمية الثقة في القدرة على القراءة، والقدرات العقلية، والشعور بالرضى، بينما يعد التعرف على سمات الأجناس الأدبية خطوة أولى أساسية في تمكين القراء من الاستجابة لأساليب معينة من الكتابة مثل المحاكاة الساخرة أو بعض جوانب التناص. ونظرا لأن العديد من الروايات التي يصادفها الأطفال تكون في أشكال غير مطبوعة؛ فقد ينتهي بهم الحال إلى فهم الأجناس الأدبية جزئيا من خلال استقاء المعلومات من وسائط أخرى. على سبيل المثال، الخصائص المحيطة بالنص - مثل أغلفة الكتب - دائما ما تشير إلى الأجواء، والنبرات، وأنماط الخطوط، والصور الخاصة بالأفلام، مما يبرز تقاليد الجنس الأدبي التي ربما بدأ التعرف عليها من خلال الشاشة. وتقدم لنا طريقة تقديم سلسلة الروايات الشهيرة «قمة الرعب» - التي ظهرت في تسعينيات القرن العشرين - مثالا جيدا على هذا النوع من نقل المعلومات. فقد استخدمت هذه السلسلة شعارا منمقا وأغلفة داكنة وكئيبة، والتي كان من الواضح أنها مستلهمة من الأفكار التقليدية التي طورت للدعاية لأفلام الرعب؛ وذلك للإيحاء بتقديم تجربة قراءة على القدر نفسه من الرعب.
ومؤخرا، استخدم غلاف رواية «الشفق» للكاتبة ستيفاني ماير (2005) خلفية سوداء قوية لتمثل إطارا لصورة تتألف من أياد بيضاء تنشب أظافرها في تفاحة حمراء زاهية. وكانت الألوان والخط والصورة تثير طابعا قوطيا وتقدم الفكرة المحورية القوطية المميزة المتعلقة بالحب الممنوع والشهوات المحرمة. أما العروق المرئية بوضوح في الأرسغ الموضحة بالصورة، فهي تبرز ضعف اللحم البشري، وتمهد الطريق أمام مصاص الدماء العاشق (وهي سمة أخرى شائعة من سمات الفن الروائي القوطي) ليكون في مركز الحبكة. ونظرا لأن القراء الضمنيين الأصليين لرواية «الشفق» كانوا على الأرجح يعرفون المسلسل التليفزيوني «بافي، قاتلة مصاصي الدماء» (1997-2003)؛ فإن دافع مصاص الدماء المراهق كعاشق نبيل سيكون مألوفا، مثلما سيكون مألوفا أيضا ذلك الالتواء العاطفي المفاجئ للعرف السائد في روايات الرعب التقليدية بأن ينال مصاص الدماء من الفتاة الطيبة. إن الأيقونية التي نسجت حول سلسلة الكتب (2005-2008) والأفلام (2008- ) التي شكلت ملحمة «الشفق»؛ قد قدمت بدورها الأساس لوفرة من الروايات القوطية المقلدة للمراهقين والتي أفرزتها سلسلة روايات ماير، موضحة كيف أن تعريف القراء الصغار بتقاليد الجنس الأدبي، وكما هو الحال مع كل ما يتصل بأدب الأطفال، يمد الجسور بين الوسائط المختلفة ويخلط بينها. كما أن ذلك يعد مؤشرا على كيف أن تفضيل بعض الأجناس الأدبية على غيرها يختلف ما بين أدب الكبار وأدب الأطفال في وقت بعينه.
أوقات متغيرة وأجناس أدبية متغيرة
معظم الأجناس الأدبية تمتد ما بين كل من أدب الكبار وأدب الأطفال، ولكن بعض هذه الأجناس أكثر تطورا في الكتابات الموجهة للأطفال، وتأتي قصص الحيوان والمدارس في المقام الأول بين تلك الأجناس الأدبية. وليس من الصعب تفسير السبب وراء كون هذه الأجناس الأدبية (التي يتسع نطاقها لدرجة أنها تتضمن أنواعا أدبية فرعية متطورة تماما؛ مثل قصص الخيول وقصص المدرسة الخاصة بالفتيات) ترتبط ارتباطا وثيقا بأدب الأطفال. في حالة قصص المدرسة، فإن كل الأطفال تقريبا يذهبون إلى المدرسة؛ ومن ثم، فإن الظروف ونوعية الأحداث المرتبطة بالمدرسة - على الأرجح - ذات جاذبية فورية بالنسبة لهم وعلى علاقة مباشرة بهم. وعلاوة على ذلك، ونظرا لأن خبرة الأطفال بالحياة محدودة للغاية بطبيعة الحال؛ فإن عالم المدرسة الصغير يتيح استكشاف مجموعة مختلفة من الموضوعات والقضايا في سياق وعلى مستوى يفهمونه بسهولة؛ حيث إن الحديث عن سياسات البرلمان قد تكون محيرة بالنسبة للأطفال وغريبة عن عالمهم، ولكن سياسات فناء المدرسة شديدة الارتباط بهم وينبغي مناقشتها. وليس من المثير للدهشة في شيء إذن أن قصة المدرسة واحدة من أقدم الأجناس الأدبية المرتبطة بأدب الأطفال وأكثرها تطورا.
شكل 4-1: رواية «حياة وجولات فأر» (1783 تقريبا) للكاتبة دوروثي كيلنر. كانت دوروثي كيلنر واحدة من كاتبات القرن الثامن عشر الكثيرات اللاتي اكتشفن طرقا جديدة لجذب اهتمام القارئ الصغير من خلال إجراء العديد من التجارب على المنظور الروائي والصوت السردي؛ وفي هذه الحالة، راوي القصة فأر.
1
أما قصص الحيوان، فهي أطول وأكثر تنوعا. وقد كانت «خرافات أيسوب» من بين أوائل الكتب التي طبعها كاكستون، كما أن هناك العديد من الحيوانات في القصص الشعبية والخيالية والنصوص الدينية. وقد استخدم كتاب القرن الثامن العشر الحيوانات لتعليم الأطفال المسئولية تجاه الاعتناء بالعالم الذي يعيشون فيه - كما هو الحال في قصة «تاريخ عائلة طائر أبو الحناء» (1786) للكاتبة سارة تريمر - وكذلك واجباتهم كأطفال ورعايا في القصص الأخلاقية كما في قصة «حياة وجولات فأر» (1783) للكاتبة دوروثي كيلنر. لقد كانت قصة كيلنر نقطة الانطلاق لتقليد جعل الحيوان يروي أحداث حياته بنفسه؛ مما أدى إلى ظهور جنس أدبي فرعي انحدرت منه بعض الأعمال البارزة مثل قصة «الجمال الأسود» (1877) لآنا سويل، وقصة «بن وأنا: جانب من الحياة الرائعة لبنجامين فرانكلين مع فأره الطيب آموس» (1937) لروبرت لاوسون. وهناك قصص الحيوان الطبيعية مثل رواية الكاتب جاك لندن «نداء البرية» (1903)، والقصص التي تخلع على أبطالها من الحيوانات صفات بشرية إلى حد بالغ، مثل رواية «الريح في أشجار الصفصاف» (1908) لكينيث جراهام، وقصص الحيوان الخيالية مثل قصة «النمر، النمر» (1996) لميلفن بيرجس، والتي تدور أحداثها حول أنثى نمر تمتلك قدرات خارقة للطبيعة تحمي نوعها من الانقراض من خلال تحويل صبي صغير إلى نمر ذكر يتزاوج معها. وكما توضح الأمثلة السابقة، فإن كتاب قصص الحيوان يجعلون الحدود بين الحقيقة والخيال ضبابية بصورة حتمية تقريبا؛ وذلك نظرا لأن هذا النوع القصصي يتطلب منهم تقديم أفكار الحيوانات بلغة البشر. في المراحل الأولى من النشر التجاري على وجه الخصوص، كان هناك شعور بالقلق بشأن مثل هذه الأساليب الخيالية على أساس أنها قد تصعب على الأطفال التمييز بين الحقيقة والخيال. وبالرغم من اعتماد قصص الحيوان على أسلوب الحيوانات المتكلمة الخيالي، فإنها تعتبر جنسا أدبيا أساسيا في أدب الأطفال منذ القرن الثامن عشر.
لقد طرح العديد من الأسباب للاستخدام الشائع للحيوانات في أدب الأطفال. على سبيل المثال، يشير النقاد إلى أوجه التشابه في المنزلة بين الأطفال والحيوانات، والتي تجعل من الحيوانات نقاط تطابق فعالة بالنسبة للقارئ الصغير. والحيوانات المستأنسة على وجه التحديد قد تشارك الأطفال بعض أوجه الشبه؛ حيث إنها ضعيفة نسبيا، ولا يمكنها التعبير عن نفسها، ومغلوبة على أمرها مقارنة بالكبار. في حين أن هناك رأيا آخر يرى أن الظهور المتكرر للحيوانات في قصص الأطفال والصغار يعزى إلى أن نقل الموضوعات التي قد تكون مزعجة - مثل الموت والجنس والعنف وسوء المعاملة - من عالم الإنسان إلى عالم الحيوان يجعل التعامل معها أكثر سهولة. وهذه النوعية من الفصل يمكن أن تعمل بأشكال شتى. فعلى سبيل المثال، منح الحيوانات قدرة الإنسان على الكلام وعقلانيته يمثل مرآة تعكس سلوكياتنا؛ مما يمكن القراء الصغار من فهم أساليب مثل الهجاء أو استيعاب النقد السياسي. وتقدم فكرة الشياطين من الحيوانات في رواية «مواده المظلمة» لفيليب بولمان وجها مختلفا لهذه الوظيفة للحيوانات في أدب الأطفال؛ حيث تظهر جوانب من الطبيعة الداخلية لشخصيات الرواية. وفي حين أن الشياطين التي تظهر في صورة إنسان ترتبط ارتباطا وثيقا بالنوع والميول الجنسية، فإن الشخصيات الحيوانية تستخدم غالبا بدقة لتقليص الحاجة إلى الإسهاب في موضوعات مثل السن والنوع والطبقة والانتماءات العرقية. هذه الوظيفة يمكن أن تكون مفيدة على وجه الخصوص بالنسبة للرسامين الذين يرغبون في تجنب توضيح هذه المعلومات.
من المهم أن تتذكر أن تصوير العلاقة بين الأطفال والحيوانات خارج كتب الأطفال غالبا ما يكون مختلفا تماما عن ذلك الموجود في قصص الحيوان الموجهة للأطفال. فهناك - على سبيل المثال - القليل من الإحساس بالتعاطف بين الأطفال والحيوانات في رواية ويليام هوجارث المؤثرة «المرحلة الأولى من القسوة» (1751)، وحتى معظم أدب الأطفال في القرن التاسع عشر يتضمن توجيهات بعدم إيذاء الحيوانات أو سرقة البيض من عشش الطيور خاصة لأن ذلك كان سلوكا شائعا بين الأطفال.
كما أن أوجه التغير الاجتماعي التي حولت الموقف من الحيوانات أثرت أيضا على مكانة الأجناس الأدبية. فنسبة كبيرة مما يعرف الآن بأدب الأطفال يتألف من الأجناس الأدبية التي كانت يوما ما من أساسيات الكتابة للكبار، ولكنها باتت الآن موجهة للأطفال بشكل أكبر، ومن بين هذه الأنواع القصصية الخرافات والأساطير والقصص الشعبية والخيالية وأدب الهراء. ووفقا لجاكلين روز، يتهم أدب الأطفال بالاهتمام بأشكال أقدم من النصوص الأدبية كوسيلة للحفاظ على قيم تعتبر على «شفا الانهيار» في الثقافة المعاصرة واستعادتها. إن حقيقة أن أدب الأطفال يعمل كمستودع للأنواع الأدبية لا يعني أن هذه الأنواع تضمر أو تصبح طفولية بمجرد دخولها إلى مجال أدب الصغار. في الواقع، في كتابي «أدب الأطفال الراديكالي: رؤى مستقبلية وتحولات جمالية» (2007)، أقول بأنه حين تنتقل الأجناس الأدبية من أدب الكبار إلى أدب الأطفال، فإنها لا تحفظ فحسب، ولكنها تتجدد وتستعيد رونقها أيضا. ويمكن رؤية أمثلة على مثل هذا النوع من التجديد في النسخ النسائية المنقحة للقصص الخيالية، واستخدام أدب الهراء من قبل كتاب ما بعد الحداثة مثل سلمان رشدي، وخلط الحكايات التقليدية لخلق أساليب لغوية ورسائل جديدة في الأفلام مختلطة الجمهور مثل «سلسلة أفلام شريك» (2001، 2004، 2007، 2010).
إن الأجناس الأدبية لأدب الأطفال حساسة من الناحية الثقافية؛ فهي تتغير أو تعدل استجابة لمخاوف المجتمع، وفي بعض الأحيان تكون حساسة لتطورات الكتابة للكبار. لذا، فعلى سبيل المثال، ارتبطت قصص مغامرات الأطفال في الأساس بفترات الاستعمار، والاستكشافات، والصراعات وازدهرت فيها، كما أنها كانت تميل لأن تستخدم في دعم الخطاب القومي/الوطني، وغالبا ما تمتزج بنظرة ذكورية للعالم. والأشكال أو الفرص الجديدة لمثل هذه الأنشطة - استكشاف الفضاء واستعماره، على سبيل المثال - تثير أشكالا جديدة من قصص المغامرات. ولكن لكي تعتبر هذه الأنواع من القصص قصص مغامرات، يتعين عليها أن تحتفظ بالعديد من العناصر التقليدية، مثل بطل صالح يتعرض لابتلاءات، ورحلة إلى أماكن بعيدة، وصراعات مع الأشرار/الأعداء/المنافسين، ونهاية ناجحة، ودائما ما تتضمن العودة إلى الديار. وبالمثل، حين تكون التقاليد المرتبطة بجنس أدبي معين مستمدة من أسلوب حياة أو مجموعة من السلوكيات التي أصبحت أقل وضوحا وتأثيرا في المجتمع، فإن هذا الجنس الأدبي سيتقلص أو يخمل.
وتعتبر القصة الدينية مثالا على الأجناس الأدبية التي تضمحل. فكما تبين النظرة العامة التاريخية التي أوردناها في
الفصل الأول ، تكمن الجذور الأولى لأدب الأطفال في هذه المنطقة، ولكن خلال القرن العشرين، حين أصبحت المجتمعات الغربية أكثر علمانية، فإن الشخصيات والتقاليد المرتبطة بصورة تقليدية بالقصص الدينية - الأطفال الأتقياء، والهداية الدينية، والمبشرين، والميتات الهانئة لهؤلاء الذين عاشوا حياة تقية - باتت تعتبر عتيقة الطراز واختفت إلى حد كبير. في الواقع، أصبحت القصص الدينية موضوعا للسخرية، وباتت الشخصيات الدينية تجسد أدوار الشر في العديد من الأجناس الأدبية الأخرى، بدءا من رجال الدين الزائفين في رواية جون ماسفيلد الخيالية «صندوق المسرات» (1935)، وحتى الشخصية المؤذية التي تعرف باسم «المتنبئ» في رواية «المختار» (2010) لكارول لينش ويليامز، وهي رواية واقعية حول النشأة وسط طائفة دينية أصولية. ومع دنو القرن الحادي والعشرين، أثارت ظاهرتين - تزايد ظاهرة السكان متعددي الثقافات في الكثير من البلدان وظهور الأصولية - إحياء لتقليد كتابات الأطفال التي يلعب فيها الدين دورا محوريا. وكما يتضح من مناقشة سلسلة كتب «المنبوذين» (1998- ) للمؤلفين تيم لاهاي وجيري بي جنكينز الواردة في
الفصل السادس ، فإن هناك مؤشرات لنشاط جديد في هذا المجال من النشر للأطفال. ومع ذلك، ونظرا لأن العديد من السمات الرئيسية لهذا الجنس الأدبي قد تلاشت أو تغيرت تغيرا جذريا، ومعظمها بات يدمج الحبكات التي تنطوي على ملامح دينية بعناصر من الأجناس الأدبية الأخرى (القصة العائلية، وروايات المشكلات، وقصص الحرب، والقصص البوليسية، وقصص المغامرات)؛ فقد يثبت أن الاهتمام الذي تجدد بالكتابة الدينية إنما يتعلق بتطوير موضوع رئيسي أكثر مما يتعلق بإحياء لجنس أدبي مندثر.
يمكن تعلم الكثير حول ما يكشفه أدب الأطفال للأطفال حول الكيفية التي يسير بها العالم من حولهم من خلال تعقب ظهور واندثار الأجناس الأدبية المختلفة، ولكن قد يكون اكتشاف المزيد من خلال ملاحظة كيف تحتفظ الأجناس الأدبية المختلفة بسمات جوهرية بينما تتكيف مع الظروف المتغيرة. وتعد القصة العائلية أحد أقدم الأجناس الأدبية وأكثرها ديناميكية؛ مما يجعلها وسيلة جيدة لاستكشاف التغيرات الرئيسية في أدب الأطفال على مدار الوقت. وكما سيتضح، فإن القصة العائلية كما تروى في نصوص الأطفال تعد مصدرا مهما للمعلومات عن المؤثرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي شكلت مؤسسة الأسرة منذ أن بدأ النشر التجاري للأطفال في القرن الثامن عشر. والأكثر من ذلك، أن القصة العائلية تبرز كواحدة من وسائل ضبط وتنظيم فهم ماهية الأسرة وكيف تؤدي وظيفتها. ولتمييز التغيير، من الضروري أن نبدأ بالنظر إلى جذور وتراث القصة العائلية.
الروايات العائلية و...
بالنسبة لمعظم الأطفال، تدور أحداث فترة الطفولة في كنف الأسرة، ويهيمن تواجد الأسرة على أدب الأطفال؛ بدءا من نماذج آباء الطبقة المتوسطة الحذرين الذين تناولهم كتاب القرن الثامن عشر وحتى الآباء المهملين وغير المتحضرين والحمقى في رواية «ماتيلدا» (1988) للمؤلف رولد دال. تشير الغالبية العظمى من كتب الأطفال إلى حيوات الشخصيات الأسرية والمنزلية بدرجة ما. والعائلة في القصص التي يتشكل منها هذا الجنس الأدبي - الذي يشار إليه في بعض الأحيان بالقصة المنزلية - لا تقدم سياق الأحداث فحسب، بل وموضوع الرواية كذلك. وعلى أحد المستويات، يسهل هذا من تمييز القصص العائلية؛ حيث إنها تركز على الأفراد الذين يشكلون العائلة المركزية والعلاقات القائمة بينهم. وبطبيعة الحال، العائلة محل النقاش تبدأ كعائلة نواة محبة ومتكاملة تتكون من أبوين وتحيا حياة سعيدة ومريحة. ودائما ما توضح هذه القصص ما يحدث حين يتعكر صفو حياة الأسرة - على سبيل المثال - بغياب أو وفاة أحد الوالدين أو كليهما، أو بفعل أزمة مالية، أو الحاجة إلى الانتقال إلى بيت جديد في مكان بعيد (وفي الغالب، تتضافر هذه العوامل الثلاثة معا).
وتعد رواية «نساء صغيرات» (1868) للويزا ماي ألكوت واحدة من أشهر القصص العائلية وأكثرها تأثيرا؛ فهي تبدأ - على نحو مميز - بغياب السيد مارش عن عائلته (حيث يقوم على خدمة ورعاية الجنود إبان الحرب الأهلية الأمريكية). وعلى الرغم من أن عائلة مارش من الطبقة المتوسطة في التعليم والقيم والدور الاجتماعي، فإن دخلها قد تقلص إلى حد كبير؛ مما تسبب - بالإضافة إلى غياب السيد مارش - في أن تواجه العائلة التي تتكون من إناث أزمة مالية. وتتحرك البنية بين الفصول التي تركز على المسرات والأزمات التي تمر بالحياة الأسرية، والفصول التي تتابع كل أخت من الأخوات على حدة وهي مضطرة إلى مواجهة مغرياتها الخاصة. وفي النهاية، يجتمع شمل العائلة، وعند تلك النقطة، يصبح من المؤكد أن الفتيات قد أصبحن النساء الصغيرات اللاتي كان والدهن يتمنى أن يصبحن عليه لدى عودته. فقد تعلمن أن يؤثرن الآخرين على أنفسهن، وأن العمل يأتي قبل اللهو، وقد تشربن الرسائل المسيحية المرتبطة بكتاب «رحلة الحاج»، حيث تزخر الرواية باقتباسات من هذا الكتاب الذي يمثل العمود الفقري السردي لها. إن نضج فتيات السيد مارش يعزى إلى حد كبير إلى التربية الجيدة؛ فالأم مارمي كانت متواجدة دائما، تراقب وتستجيب لاحتياجات بناتها، في حين أن غياب السيد مارش وتوقعاته بشأن ما سيجد عند عودته تدعم من طرف خفي سلطته وتأثيره. وفي خضم العمل على الارتقاء إلى مستوى توقعات الأب، تعامل الفتيات والدهن كأنه صوت الضمير - الأنا العليا الأبوية - ومن ثم يتمكن من التحكم في تصرفاتهن. وتتمثل إحدى الرسائل الدائمة للقصص العائلية في أن المسافة والاضطرابات لا تقسمان العائلة أبدا، بل تلقيان على عاتقها بواجبات قد تمثل مصدر قوة لها.
يتكرر بنية ونمط رواية «نساء صغيرات» في العديد من القصص العائلية الأخرى. فنجد في محور سلسلة الروايات التي تتناول حياة عائلة بيبر (1881-1961)، للمؤلفة مارجريت سيدني (هارييت إم لوثروب)، شخصية مامسي، وهي أم أرملة على طراز شخصية مارمي، ساعدها اجتهادها وشخصيتها القوية القويمة على الحفاظ على تماسك العائلة وإخراج أفضل ما بداخل أبنائها الخمسة الصغار. يقضي القراء بعض الوقت مع كل ابن من الأبناء الصغار على حدة قبل أن تكافأ الأسرة على فضائلها حين يأخذ رجل خير ثري أفراد العائلة ليعيشوا بمنزله ويعولهم. كذلك تلتزم قصص الكاتبة إي نيسبيت بهذا التقليد: عائلات سعيدة تمر بأوقات عصيبة، وموت الأمهات، وغياب الآباء، ثم تستعيد الأسرة سيرتها الأولى. وتعتبر القصص العائلية لنيسبيت كذلك مثالا نموذجيا على هذا الجنس الأدبي من حيث الطريقة التي تضع بها قصصها شخصية كل طفل في مركز مغامرة معينة، والتي تلقن درسا محددا في السلوكيات. ولكنها، مع ذلك، تشير إلى تغير جدير بالملاحظة، ألا وهو: غياب الرسالة الدينية الضمنية التي كانت تميز القصص العائلية الأولى. وقد اقترن هذا التغير بتقلص أهمية الوالدين باعتبارهما مرشدين وموجهين للأبناء.
أصبحت العلمانية وما صاحبها من تقزيم لسلطة الوالدين السمتين الأساسيتين للقصص العائلية طوال القرن العشرين. فعلى الرغم من أن والد الكاتبة نويل ستريتفيلد كان أسقفا، فلم يرد ذكر للرب أو لعقيدة دينية في القصص العائلية التي كتبتها ما بين عامي 1936 و1968، وكان الآباء أو أولياء الأمور الآخرون يتسمون في الغالب بالسذاجة والافتقار إلى المهارات العملية، مما يعني أنه يجب على الأطفال تدبر أحوالهم بأنفسهم، بل وفي بعض الأحيان يعولون أنفسهم. ليس الفنانون وحدهم من يمكن أن يكونوا غامضين على المستوى الأسري؛ فالأبوان العالمان العبقريان في سلسلة كتب مادلين لانجل حول عائلة موري (1962-1973) يعتمدان كذلك على أبنائهما الأكفاء، الذين يزرعون الحديقة، ويعدون المشروبات الدافئة في منتصف الليل، وينقذون أبويهم وبعضهم بعضا من قوى الشر التي أخرجتها تجارب العلماء إلى النور . (تتجلى عقيدة لانجل المسيحية في كتاباتها، إلا أن أفراد عائلة موري لم يصوروا كمسيحيين ورعين.) الأمر نفسه ينطبق على عائلة كاسون في سلسلة كتب «هيلاري ماكاي» (2001-2007)، والتي تدور حول أربعة أطفال لأبوين فنانين يعيشان منفصلين، وكل منهما مستغرق في لوحاته؛ فيعيش الأطفال مع أمهم الحنون، ولكنها مشتتة الذهن؛ ومن ثم فإنهم يرعون بعضهم البعض إلى حد كبير ويديرون شئون المنزل.
تطرح الأمثلة السابقة بعض الطرق التي استجابت بها القصص العائلية إلى التغيرات الاجتماعية والثقافية في طبيعية العائلة، ولكنها لا تظهر إلى أي مدى حلت الأسر التي تمثل بصورة أكبر الأسر الواقعية في المجتمع محل الأسرة البيضاء من الطبقة المتوسطة التي تمثل نواة المجتمع التي طالما هيمنت على أدب الأطفال حتى وقت متأخر من القرن العشرين. ومنذ ستينيات القرن العشرين، ظهرت عائلات الطبقة العاملة، والعائلات ذات الخلفيات العنصرية والعرقية المختلفة، والعائلات التي لا يرأسها والدان من جنسين متقابلين في القصص العائلية. إلا أن تضمين أنواع أكثر من العائلات لم يؤثر بالضرورة على الخصائص الأساسية للقصة العائلية. فتلتزم روايات ميلدريد دي تايلور حول عائلة لوجان - وهي عائلة من السود من الجنوب الأمريكي تعيش في ثلاثينيات القرن العشرين - بتقاليد هذا الجنس الأدبي الذي وضعته رواية «نساء صغيرات». فيقوم على تربية أفراد عائلة لوجان أبوان قويان ميولهما الجنسية سوية وماهران وجديران بالاحترام، وكل طفل في العائلة عليه التعامل مع المشكلات، ويواجه أفراد العائلة أزمة معا؛ مما يوطد من أواصر علاقتهم أكثر وأكثر. ويتمثل الاختلاف عن تقاليد القصة العائلية في رواية عائلة لوجان في أنها عائلة من السود، وفي أن الرواية تناقش قضية العنصرية التي تؤثر على الكيفية التي تحيا بها العائلة. وهذا يعني أن رواية «يا دوي الرعد، اسمع صراخي» تولي تفاعلات العائلة مع العالم الواسع اهتماما أكبر مما تفعل العديد من القصص العائلية الأخرى.
في الحقيقة، هناك خيط يمر في ثنايا هذا الجنس الأدبي يتضمن العائلات التي تعيش بعيدا جدا عن المجتمع لدرجة تندر معها مثل تلك التفاعلات، هذا إن وجدت من الأساس . فبداية من رواية «عائلة روبنسون كروزو» للكاتب السويسري جوهان ديفيد وايس (ترجمت إلى الإنجليزية عام 1814، وتعرف الآن على نطاق واسع باسم «عائلة روبنسون السويسرية») ومرورا بقصص رحلات عائلة إينجالس عبر أراضي الولايات المتحدة الممتدة، والتي ترويها لورا إينجالس وايلدر (1932-1943)، أدى أدب الأطفال إلى ظهور جنس أدبي فرعي مكتمل التطور من القصص التي تدور حول العائلات المغامرة والمكتفية ذاتيا. فلقد بدأت كل من عائلتي روبنسون وإينجالس رحلتيهما لتحسين ظروفهما المعيشية، مما يشير إلى أحد العوامل الأقل وضوحا ولكن الأقوى تأثيرا في القصة العائلية، وهو: دور العائلة كوحدة اقتصادية.
تزامن مع بداية النشر التجاري لكتب الأطفال ظهور العائلة البرجوازية، وهيمنة الرأسمالية، وهما قوتان مؤثرتان تشكلان الطريقة التي تصور بها العائلات في روايات الأطفال. (أومالي 2003؛ رينولدز 2007). وفي عصرنا الحالي الذي يتسم بالأسفار السريعة، وطرق التواصل الفورية، يمكن أن تجتمع العائلة فعليا أو افتراضيا عند الضرورة في الغالب، ولكن القصص العائلية للأطفال ظلت لوقت طويل من تاريخها تعكس واقعا مختلفا. فبداية من القرن الثامن عشر وحتى العقود الأولى من القرن العشرين، كان تاريخ العائلة في الغالب زاخرا بالفراق الطويل، سواء بدافع الحاجة إلى ملاحقة فرص العمل، أو الحالة الاقتصادية في أوقات الاستعمار، أو متطلبات بناء الإمبراطورية، أو التقلبات السياسية، أو ما تمليه الحياة العسكرية والإدارية والدينية من أوامر؛ وقد يفسر هذا الإصرار على أهمية وحدة الأسرة في القصص العائلية من ناحية، وكذلك قدرة أفراد العائلة على أن يزدادوا قوة بالافتراق من ناحية أخرى. قد تكون وحدة العائلة فكرة مثالية، ووهما نتمنى تحققه؛ فحقيقة الفراق يشار إليها بشكل مباشر في ظاهرة غياب أحد الأبوين المتوطنة وفي القصص العديدة عن الأطفال الذين يرسلون للعيش مع الأقارب. في الأساس، كانت مثل هذه القصص تميل إلى تصوير الأطفال الأيتام؛ أما اليوم، فقد أصبح تغيير العائلة على الأرجح نتيجة للطلاق والزواج مرة أخرى. وسواء أكان التغيير الناتج عن العلاقات الأبوية الجديدة مرحبا به ويشكل مصدرا للبهجة - كما هو الحال في رواية «الاستحواذ» (1982) للكاتبة مارجريت ماهي - أو يبدأ بالرفض ثم ينتهي الصراع نهاية سعيدة - كما في رواية «عينان جاحظتان» (1989) للكاتبة آن فاين، ورواية «الغول بالطابق السفلي» (1974) لديانا وين جونز - أو كان سببا في شعور الطفل بعدم القدرة على البقاء في المنزل فيبحث عن ملاذ لدى أقاربه - كما هو الحال في رواية ميج روزوف «كيف أعيش الآن» (2004) - فإنه غالبا ما يسلط الضوء على المزايا المرتبطة بالعائلات في القصص العائلية التقليدية.
النزاعات العائلية
تستجيب القصص العائلية دائما للنظريات المتغيرة حول الأطفال والطفولة، إلى جانب أنها تتشكل بفعل العوامل العامة مثل التوجهات الاقتصادية والدينية. بعدما أصبح علم نفس الأطفال فرعا علميا معترفا به، فإن رؤاه العميقة - على سبيل المثال - بشأن العوالم الداخلية للأطفال وتطورهم الإدراكي واحتياجاتهم العاطفية، غزت أدب الأطفال بشكل عام وأثرت بقوة على القصة العائلية بشكل خاص. ويمكن رؤية ذلك بوضوح في فيض القصص العائلية للأطفال الصغار، والتي - بعيدا عن تسليط الضوء على غياب الأبوين والعائلات التي تجتث من أصولها أو تبتلى بأزمات - تؤكد على الاستقرار والروتين المنزلي. وتتمثل الأمثلة النموذجية على هذه الرؤية في قصص دوروثي إدواردز «أختي الصغيرة الشقية» (1952-1974) وروايات بيفرلي كليري التي تدور حول بيزوس كويمبي وشقيقتها الصغرى رامونا (1968-1999). وعلى الرغم من اسمي الأختين كويمبي الغريبين وصفة «الشقية» التي تصف بها الأخت الكبرى - وهي الراوية - أختها الصغيرة في قصص إدواردز، فليس هناك شيء غير معتاد يقع في أي من هذه القصص. وإنما تظهر العوالم الداخلية للأطفال ودراما الحياة اليومية في إطار العائلة. وفي حين أن أبطال هذه القصص مألوفون من واقع القصص العائلية التقليدية، فإن البناء السردي التقليدي الذي يعكس الاضطراب - حيث تبتلى العائلات بمحن ثم تنتصر - غائب إلى حد بعيد عن هذه القصص. وهذه القصص تستهدف قراء أصغر سنا إلى حد كبير من هؤلاء الذين استهدفتهم القصص العائلية السابقة، كما أنها - في السياق نفسه - تتكون من سلسلة من الحلقات المنفصلة بدلا من تطوير بناء سردي مطول.
شكل 4-2: رسم شيرلي هيوز لقصة «في الحفل»، إحدى قصص مجموعة «أختي الصغيرة الشقية» (1952)؛ حيث يصور الأخت الصغيرة الشقية وهاري السيئ وهما يأكلان خفية كل الحلوى في حفل عيد الميلاد لينتهي بهما الحال بألم في معدتيهما.
2
يمكن الزعم بأن معظم القصص العائلية اليوم موجهة للقراء الأصغر سنا. وتتشابه قصص فرانشيسكا سايمون العديدة بعنوان «هنري المروع» (1994- ) - والتي دائما ما تأتي في مجموعات قصصية متنوعة - في طبيعتها مع كتب إدواردز وكليري، بيد أن الجمهور يمكنه متابعة حظ هنري المروع في صيغ عدة. أما التغيير الأكثر جذرية الذي طرأ على الشكل، فهو فكرة القصة العائلية ككتاب مصور. من الصعب على الكتاب المصور بصورة فردية أن يخلق الإحساس بحميمية الأسرة الذي كان يميز القصص العائلية التقليدية. ومع ذلك، فإن القصص المترابطة مثل كتب شيرلي هيوز التي تدور حول لوسي وتوم (1960- ) أو ألفي وآني روز (1981- ) تتعقب أحداث حياة العائلة على مدار الزمن وعبر مجموعة متنوعة من الأحداث اليومية والدراما العائلية البسيطة. وربما تكون لورين تشايلد أول مؤيدي فكرة القصة العائلية ككتاب مصور، وتوضح أعمالها كيف تغيرت العائلات، وكذا طريقة تمثيلها في كتب الأطفال بمرور الوقت. فعلى سبيل المثال، مقارنة بالروتين الهادئ الذي يسهل توقعه والذي يميز قصص لوسي وتوم، يبدو منزل كلاريس بين فوضويا. ومن بين الجوانب المهمة كذلك، أن لورين تشايلد تجعل كلاريس تروي قصصها بنفسها (1999- )، وهكذا يختبر القارئ اضطرابات حياتها العائلية من منظورها الزاخر بالمشاعر؛ ومن ثم تختلف عن الوصف الدقيق الذي يأتينا بضمير الغائب، والذي يوضح كيف يقضي لوسي وتوم يومهما مع أمهما. ويعد تفضيل صوت الطفل ومنظوره تطورا منطقيا للاهتمام بشأن العالم الداخلي للطفل الذي طرح في القرن الماضي، ويظهر كيف أن السياسات العائلية قد تغيرت بعمق بمرور الوقت. ويمكن رؤية ذلك بوضوح شديد في الطريقة التي تعالج بها المشادات بين الإخوة في القصص العائلية.
فحين يتشاجر أطفال فيرتشايلد على دمية في رواية ماري مارثا شيروود «تاريخ عائلة فيرتشايلد» (1818)، يضربون بالعصا على أيديهم ويعاقبون بالوقوف في أحد الأركان طوال الصباح بدون تناول الإفطار، وفي المساء يصحبون لرؤية المشنقة التي تتدلى منها جثة رجل قتل أخيه فحكم عليه بالإعدام. ويوضح النص أن الأبوين فيرتشايلد يفعلان ما بوسعهما لأنهما يحبان أبناءهما، ويؤمنان أنه من واجبهما معاقبتهم أملا في منعهم من أن يلقوا مصير الإخوة الذين لم يعاقبوا على شجارهم معا. أما العقاب الذي يتبع الشجار الذي نشب بين جو وآمي مارش بعدما حرقت آمي بدافع من الحقد النسخة الوحيدة من الكتاب الذي كانت تكتبه جو، فهو عقاب ذو طبيعة أخرى، ولكنه صادم بالقدر نفسه، ويعتبر كذلك أن التنافس بين الإخوة أمر آثم ومهلك. ولشدة غضبها، لم تحذر جو أختها آمي من أن الجليد في المنطقة التي تتزلج بها ليس آمنا، فكادت آمي أن تغرق. ويتضح شعور جو بالندم حين تقر بأفعالها ومشاعرها لمارمي؛ ومن ثم لم تكن هناك حاجة لعقاب آخر. وتظهر شجارات الإخوة بصفة منتظمة في روايات «كلاريس بين» لحياتها العائلية. فكلاريس دائما ما تتشاجر مع أخيها الأصغر مينال - ولكن بعيدا عن الإشارة إلى أي نزعة شريرة فطرية أو الانزلاق إلى منحدر الهلاك - فإن سلوكهما يعتبر جزءا طبيعيا من الطفولة والحياة العائلية المعاصرة. وفي رواية «كلاريس بين، هذه أنا» (1999)، عوقبت كلاريس على قيامها بقلب طبق من المكرونة الإسباجيتي على رأس مينال أثناء مشاجرة لهما، ولكن بدلا من التأكيد على أهمية الإجراء التأديبي، أفسدت لورين تشايلد العقاب. وعلى مدار الكتاب، كانت كلاريس تتوق للحصول على بعض الهدوء والسكينة بعيدا عن عائلتها؛ ومن ثم فإنها تستمتع تماما بالثلاث ساعات الهادئة التي تقضيها في حجرتها كعقاب. كل من الكتب الثلاثة السابقة يشيد بحب الأسرة، ولكن سلوك كل منها تجاه المشاجرات التي تنشب بين الأطفال وأشكال العقاب تظهر بوضوح الطرق التي تغير بها التفكير على مدار القرون.
شكل 4-3: من رواية لورين تشايلد «كلاريس بين، هذه أنا» (1999). غرفة نوم كلاريس، توضح الطريقة التي تحاول بها كلاريس الفصل بين الجزء الخاص بها وذلك الخاص بأخيها من غرفة نومهما المشتركة في محاولة منها للحصول على مساحة شخصية لها في حياتها العائلية الصاخبة.
3
وبينما قد تستخف كتب الأطفال بالخلافات بين أفراد العائلة، فبالنسبة للقراء الأكبر سنا، مثل هذه الخلافات لا تزال تظهر كشيء مضر. بدأت القصص العائلية للقراء الأكبر سنا تعكس الوعي بالنظريات الجديدة التي تنسج حول العائلة مثل تلك المرتبطة بالطبيب النفسي آر دي لينج [أحد نشطاء حركة مكافحة الطب النفسي]. لقد كان لينج ناقدا قويا للمؤسسة الأسرية، حيث كان يتهمها بأنها كيان قمعي يمنع الأفراد من استخدام مواهبهم، وبأنها أصل كل الأمراض العقلية. ومنذ ستينيات القرن العشرين، أصبحت روايات صغار الشباب تتضمن قصصا عائلية مثل رواية إس إي هينتون «السمكة رامبل» (1975)، ورواية روبرت كورماير «إننا جميعنا نسقط» (1991)، حيث تصور العائلة على أنها تهمل أفرادها وتستغلهم وتسيء معاملتهم وتخذلهم؛ ومن ثم تخذل المجتمع بشكل عام، وليست كيانا لتقديم التوجيه والحماية والمساعدة على النمو.
العائلات والأصدقاء
بدأت هذه النظرة الشاملة بالإشارة إلى صمود القصة العائلية، رغم العديد من الضغوط التي مورست عليها مع اختلاف شكل العائلة على مدار الوقت. يتضح هذا الصمود في عدد من الروايات التي تبدو ظاهريا أنها حادت عن تقاليد القصة العائلية. على سبيل المثال، تحكي رواية جاكلين ويلسون «فتيات عائلة دايموند» (2004) قصة عن عائلة مكونة من أم عزباء وخمس بنات كل منهن من أب مختلف. وشخصية سو دايموند نموذج مختلف تماما عن شخصية مارمي التي تتميز بالحكمة والتحكم في النفس: فسو تعيش على الإعانات التي تمنحها لها الدولة، ولا يبدو أنها قادرة على رعاية شئون المنزل، ولا تهتم بإطعام أطفالها على نحو صحي أو التأكد من ذهابهم إلى المدرسة. وعلى الرغم من إخفاقاتها وحقيقة أن بناتها بدأن يكررن نفس أخطائها (حيث حملت إحداهن بنهاية الرواية)، فإن بناتها يحببنها ويحببن بعضهن بعضا، ووفقا لمعايير هذه الرواية العائلية، فإن هذا يجعلها أما صالحة، ويجعل عائلة دايموند عائلة ناجحة. ورغم أن هذه الرواية مبهمة وترسل رسائل مختلطة حول سمات العائلة الصالحة في القرن الحادي والعشرين، فإنها تلتزم بالعديد من تقاليد القصة العائلية، وربما يكون ذلك في أوضح صوره في الطريقة التي تنتهي بجمع شمل أفراد الأسرة معا والتأكيد على أن علاقتهم قد توطدت بفضل المشكلات التي واجهوها.
وعلى صعيد آخر، تعتبر رواية «ويتزي بات» (1989) لفرانشيسكا ليا بلوك، نسخة مختلفة تماما للقصة العائلية المعاصرة. تنتمي رواية «ويتزي بات» إلى تيار داخل القصة العائلية يهتم بالعائلات المكونة من خلال الاختيار الحر وليس بفعل الاختيار البيولوجي. مثل هذه القصص تستجيب إلى نقد فكرة العائلة النواة من قبل أنصار الحركة النسائية والمنظرين غريبي الأطوار الذين يرونها كيانا ذكوريا هرميا غير ديمقراطي. وتسعى هذه القصص العائلية الجديدة إلى تطوير روح الاعتماد المتبادل بين الأشخاص، والتي تقوم على أساس المساواة وليست مستمدة من هياكل القوى التي تقوم على النوع والسن وتتحكم فيها قوى قانونية و/أو دينية. وفي رواية بلوك، يرث كل من ويتزي وصديقها المثلي ديرك - اللذين تركا الدراسة بالمرحلة الثانوية - منزلا ويكونان عائلة تتشكل من شريك حياة ويتزي، وشريك حياة ديرك، وطفلة ويتزي، التي حملت فيها بمساعدة الرجلين المثليين، وطفل شريك حياة ويتزي من علاقة سابقة غير موفقة. وهذه العائلة حديثة الطراز المكونة من الأصدقاء - أو «العائلة المختارة» - أصبحت قاعدة ثابتة قائمة على العواطف في عالم فوضوي عقيم. على الرغم من أن بنيان العائلة في رواية «ويتزي بات» جديد، فإن القيم والقواعد ليست كذلك. فعلى سبيل المثال، وفقا للقصة العائلية التقليدية، فإن العائلة في هذه الرواية هي موضوع الكتاب، وكل شخصية تفرد لها مساحة خاصة. ويرتكب أفراد العائلة أخطاء، ويتعاملون معها معا، ولا يترتب على هذه الأخطاء أي نتائج مدمرة. ويكمن الاختلاف الرئيسي هنا في أن ويتزي وأصدقاءها يشكلون عائلتهم كما يريدونها أن تكون، وليس وفقا للتعريف القانوني أو الديني أو البيولوجي للعائلة.
تمثل رواية «ويتزي بات» وغيرها من الروايات التي تسلط الضوء على العائلات المختارة أعراض نزعة راديكالية ناشئة متعلقة بمفهوم العائلة التي يعكسها ويطورها هذا التيار من القصة العائلية الحديثة. وفي حين أن الروايات غير التقليدية التي تركز على الحياة العائلية تحتفظ ببعض العناصر الأساسية للقصة العائلية التقليدية - لا سيما تركيزها على الأحداث التي يبتلى بها أفراد العائلة الذين يجمعهم الحب والوفاء - فإنها تحث القارئ أيضا على تأمل آثار تغير طبيعة العائلة وهيكل القوة الخاص بها على الأفراد والمجتمع. وبذلك، فإن مثل هذه القصص تطرح بعض الجوانب القمعية والموروثات (عقدة أوديب، على سبيل المثال) المرتبطة بالنشأة في عائلة تقليدية، أو قد تنجح في محوها أو إزالة جوانبها السامة أو إعادة التوازن إليها. وكما يتضح من روايتي «ويتزي بات» و«فتيات عائلة دايموند»، تستمر القصة العائلية في التطور، دون أن تتأثر قدرتها على الصمود.
تبين قضية القصة العائلية أن الوضوح الشديد للجنس الأدبي وقصص الجنس الأدبي في أدب الأطفال لا يشير إلى التحفظ الأدبي أو التبعية الإبداعية. أما الفصل التالي، على النقيض، فيدرس ما يحدث حين يدخل أحد أنواع أدب الأطفال في مرحلة الاحتضار.
هوامش
الفصل الخامس
رؤى للمستقبل
لطالما كانت إحدى وظائف أدب الأطفال تتمثل في إعداد قرائه ليكونوا الجيل التالي من الكبار من خلال تعريفهم على أفكار حول كيفية تنظيم المجتمع من حولهم، وكيف يتلاءم هذا المجتمع مع المنظورات القومية والعالمية، وكيف قد يؤدي دوره في المستقبل. ولهذا السبب، غالبا ما يشير نقاد أدب الأطفال إليه على أنه أدب التثاقف؛ إذ إنه يعرف القراء على عادات وقيم وأنظمة المجتمعات التي ينشئون فيها. ولكن يمكن أن يكون أدب الأطفال كذلك أدب الجدال؛ حيث إنه يقدم رؤى بديلة، ويوفر نوعية المعلومات والمناهج التي من شأنها أن تثير طرق تفكير جديدة فيما يتعلق بالعالم وكيف يمكن تشكيله بطرق مختلفة، ربما تكون أفضل.
تركز خطط تغيير العالم بشكل عام على المستقبل، ويفترض أن تكون الكتابة عن المستقبل مرتبطة ارتباطا وثيقا بأدب الأطفال؛ نظرا لأن الأطفال لا علاقة لهم بالماضي، وإنما بالنسبة لمعظمهم، فإن الأحداث المهمة والرئيسية في حيواتهم لا تزال تنتظرهم في المستقبل. في الواقع، هناك ميل إلى معاملة فكرة المستقبل في أدب الأطفال بتناقض ملحوظ؛ فبعض أشهر أعمال أدب الأطفال - بما في ذلك «أليس في بلاد العجائب»، و«بيتر بان»، و«ويني الدبدوب» - كثيرا ما تبدو وكأنها ترثي حاجة الأطفال إلى النمو والانتقال إلى المستقبل. والنتيجة هي رسالة رثائية تكشف أن هذه الأعمال تتمحور حول حنين الكبار إلى الطفولة أكثر مما تركز على تجربة الأطفال مع العالم من حولهم.
وتعتبر مقاومة الدخول في مرحلة النضج واحدة من ضمن الطرق المتعددة التي يتجسد بها التناقض في التعامل مع فكرة المستقبل في أدب الأطفال. وتكشف مقارنة الطرق التي مثل بها أدب الأطفال المستقبل على مدار الوقت الكثير تغير المواقف تجاه الصغار وتطلعاتهم للمجتمع. والأمر المثير للاهتمام - وربما للقلق - بصورة خاصة هو طريقة تقديم المستقبل في كتابات الأطفال والشباب على مدار الخمسين سنة الأخيرة. فخلال هذه الفترة، اكتسب الأطفال حقوقا قانونية أكثر وسلطة إنفاق أكبر من أي وقت مضى، وصارت خطوط الأزياء والتسلية ووسائل الإعلام موجهة إلى الصغار بصورة متزايدة. ومع ذلك، حين يتعلق الأمر بالكتابة عن المستقبل، فإن الأدب الموجه للصغار حاليا - خاصة المراهقين - كثيرا ما يعمل بطرق من المحتمل أن تثبط من عزائمهم، وكذا يعمل من طرف خفي على إضعافهم. ولكن لم يكن الحال على هذا المنوال دائما.
الإشارات إلى الفناء
لقد نشأ أدب الأطفال الديني في القرن السابع عشر على خلفية مجتمع يتغير ببطء ويشيع فيه الموت بين الأطفال. فكانت معظم الكتابات التي تدور حول المستقبل لا تهتم بالشكل الذي سيصبح عليه عالمنا هذا، وإنما بالشكل الذي قد تكون عليه الحياة في العالم الآخر. وكانت فكرة الموت مفهومة في سياق مسيحي؛ مما يعني أن الموت في فترة الطفولة كان يرى على أنه إيجابي وتحريري بطرق قد تبدو غريبة بالنسبة لمفاهيم القرن الحادي والعشرين. وكان الموت المبكر يعني أن الطفل قد مات قبل أن تتاح له فرص ارتكاب خطايا خطيرة أو متكررة، وهكذا كان من المعتقد أن مصيره على الأرجح سيكون الجنة. وكانت فرش الموت النموذجية تصور أطفالا صالحين يتصرفون بجلد فيكون جزاؤهم رؤية لمحة من المستقبل في شكل رؤية للمسيح أو أحد الأقارب المحبوبين يكون قد توفي من قبلهم، مما يعزز الاعتقاد في الحياة الآخرة، ويغذي الأمل في الالتقاء مستقبلا بهؤلاء الذين رحلوا عنهم.
شكل 5-1: كتاب «دليل للأطفال» لجيمس جانواي (1671-1672). يشير هذا الرسم الموجود في صدر الكتاب إلى أن الأطفال الذين يدرسون كتبا كالتي يؤلفها جانواي سيحصلون على مكافأتهم بمكان في الجنة.
1
يمكن رؤية شيوع هذا التقليد وصموده في ثلاثة أمثلة نموذجية، ولنبدأ بجزء مقتطف من كتاب جيمس جانواي، «دليل للأطفال» (1671-1672)؛ فأول موت نموذجي يصفه جانواي في الرواية هو موت سارة هولي التي - بعد أن اكتشفت وجود الإله وهي في حوالي الثامنة من عمرها - قضت معظم حياتها القصيرة تتعبد، وفي اللحظات الأخيرة من حياتها، ترى يسوع وتردد قائلة: «إنه رائع الجمال، إنه رائع الجمال، إنه رائع الجمال!» وتلفظ الفتاة أنفاسها الأخيرة ما إن تقر مباهج الجنة قائلة: «يا إلهي! كم أنا سعيدة بأنني ذاهبة إلى النعيم الأبدي! إنني لن أعود مرة أخرى لهذا الكون» (الفقرة 7). وبالمثل، يشار إلى موت الصغيرة إيفا في رواية «كوخ العم توم» (1852) حين «ترتسم على وجهها ابتسامة مشرقة ومتألقة، وتقول في صوت متقطع: «أوه! الحب، السعادة، السكينة!»
وفي حين أن موت إيفا السعيد كان متوقعا، فإن موت همفري دنكومب الصغير في قصة فلورنس مونتجمري بعنوان «سوء الفهم» (1869) يأتي بشكل مفاجئ؛ وذلك لأنه - على عكس الأطفال الآخرين الذين يموتون بالشكل اللائق في روايات الأطفال حتى ذلك الحين - لم يكن واهنا أو متدينا، ولم تكن هناك أي إشارات واضحة على أنه سيموت صغيرا. فيظن والد همفري الذي فقد زوجته مؤخرا أن ابنه غير مبال بوفاة والدته، في حين أن القارئ يعرف أن عمق مشاعر الطفل يفوق قدرته على التعبير، وهذا هو سوء الفهم الذي يشير إليه العنوان. وحين يصاب همفري إصابة قاتلة وهو ينقذ أخاه الأصغر من الغرق، تتبدى طبيعته النبيلة لوالده. وللتأكيد على طبيعة همفري الخيرة، يستخدم مونتجمري كافة تقاليد الميتات الصالحة، وهكذا يحظى همفري أثناء احتضاره برؤية والدته وهي في انتظاره لاصطحابه إلى الجنة.
بالنسبة للأطفال الثلاثة، فإن حقيقة أنهم صغار وأبرياء تعني أن المستقبل قد قدم تقديما إيجابيا تماما. فالجنة هي المكان الذي نلقى فيه الله ويجتمع شملنا بمن نحبهم، حيث تتوقف المشكلات والمعاناة، ونستعيد عافيتنا. أما المستقبل المتوقع للأطفال سيئي الطباع، فبالطبع مختلف تماما، وكما هو موضح في
الفصل الأول ، هناك العديد من الأعمال التي تحذر مثل هؤلاء الأطفال من العذاب المقيم الذي ينتظرهم.
ومع اتجاه المجتمع إلى العلمانية بدرجة أكبر، وانحصار ظاهرة الموت بين الأطفال، بات تصوير ميتات الأطفال الجميلة والسيئة أقل شيوعا. وفي ذلك الوقت، أدى تكرار تصوير لحظات موت الأطفال بنبرتها المفرطة في العاطفية إلى جعلها موضوعا للسخرية في أعمال مشهورة مثل كتاب «بيتر الأشعث» (1845، وترجمت للإنجليزية في عام 1848) للكاتب الألماني هينريش هوفمان، وفي بعض الشعر التحذيري للكاتب هيلاري بيلوك (1907). ويدل هذا التحول في النبرة إلى حقيقة أن المستقبل يزداد ارتباطا بأحداث تقع في عالمنا هذا، وأن مسئولية تحقيق النجاح المستقبلي تقع على عاتق الأفراد والعائلات والأمم وليس الإله. وعلى الرغم من استمرار جزء من النبرة المسيحية في الكتابات الموجهة للأطفال في القرن العشرين، فإنه مع توجه المجتمع إلى العلمانية بصورة أكبر، تراجعت تلك النبرة حتى اختفت بالكامل تقريبا في وقتنا هذا. ويمكن رؤية تأثير هذا التحول في العلاقة بين الموت والمستقبل بوضوح في عملين حديثين.
تجسد رواية جيني دونهام «قبل أن أموت» (2007)، منهج القرن الحادي والعشرين لموضوع الموت في الطفولة. كما هو الحال في «دليل للأطفال» و«كوخ العم توم»، يعرف القراء أن المراهقة تيسا - الشخصية المحورية في رواية دونهام - سوف تموت بمرض السرطان. فتعتزم تيسا خوض أكبر عدد ممكن لها من التجارب - قانونية أو غير قانونية، صحية أو غير صحية، نبيلة كانت أو أنانية - في الوقت المتبقي لها وهي على قيد الحياة. ولكن حتما ينتصر المرض، وكما هو الحال في رواية «سوء فهم»، تتابع الصفحات الأخيرة من الرواية أحداث موتها. ولكن وجه التشابه ينتهي هنا، حيث إنه في حين يرى همفري لمحة من المستقبل ويتيقن من أنه سيعيش حياة الخلود بصحبة المسيح ووالدته، ليس هناك أي مواساة دينية لأي من شخصيات دونهام؛ فقد كانت أفكار تيسا الأخيرة عشوائية. ونجد أنها تركز على جمال آخر المشاهد التي تراها والأصوات التي تسمعها في هذا العالم؛ ليست هناك لمحات عن المستقبل المحتمل. يعتبر مشهد موت تيسا النسخة العلمانية للميتة الحسنة؛ فهي صغيرة، ولكنها عاشت حياة زاخرة، وتبادلت مشاعر الحب، ثم الآن يصيبها المرض وتستعد للموت. إن الرسالة الواضحة التي تحملها رواية «قبل أن أموت» هي أن المستقبل في هذا العالم. والأمر ذاته ينطبق على رواية «المطارد» (2005)، للكاتب ألكسندر شيرر.
شكل : رواية هينريش هوفمان «بيتر الأشعث» (1845). إن مصير هارييت التي تلعب بأعواد الثقاب مختلف تماما في النبرة والمعنى عن الموت التراجيدي لأوجستا نوبل في سلسلة «تاريخ عائلة فيرتشايلد» (1818) للسيدة ماري مارثا شيروود. فأوجستا تعاقب على غرورها بالموت محترقة حين أمسكت بشمعة للنظر إلى نفسها في المرآة.
2
تعتبر رواية «المطارد» ردا حادا لوهم الطفولة الدائمة في «بيتر بان». تروي القصة - التي تدور أحداثها في وقت ما من المستقبل، حين تكون الأدوية الطبية فعالة جدا لدرجة أن البشر يعيشون إلى سن 200 عام أو تزيد، ولكنهم يصابون بالعقم نتيجة ذلك - حكاية تارين، وهو أحد الأطفال النادرين لوالدين رفضا تناول أدوية مكافحة الشيخوخة. ويتم تأجير تارين من قبل الكبار الذين يرغبون في تجربة الشعور بالأمومة والأبوة لساعة أو ساعتين، ولكن عندما يدنو من سن البلوغ، ويوشك أن يفقد جاذبيته، يجد أن عليه اتخاذ القرار بشأن ما إذا كان سيخضع للعملية الجراحية التي يطلقون عليها (بيتر بان)، والتي ستجعله يبدو طفلا إلى الأبد. ويتجلى الوجه المخيف لهذا المستقبل حين يدخل تارين إلى حانة يتجمع بها كل الذين خضعوا لعملية (بيتر بان)، ويرى كائنات تبدو في الثانية عشرة من العمر على الأكثر يحتسون الخمر، ويسبون، ويشتهون بعضهم بعضا. لقد حكم عليهم أن يكونوا أشخاصا بالغين في أجساد أطفال مدى الحياة.
لا تتضمن رواية «المطارد» أي إشارة إلى الحياة الآخرة، وليس هناك بين شخوص الرواية من يشعر بالأسف على عدم وجودها؛ فهؤلاء الذين يلوح لهم الموت في الأفق أخيرا يكونون مستعدين لختام حياتهم. في حين يجعل العلم من حلم كبار السن بالشباب الدائم أمرا ممكنا، تحث رواية «المطارد» القراء على التفكر بشأن العلاقات بين الموت والسن والأبدية بطرق مثيرة للاهتمام، وتوضح كذلك إلى أي مدى حاد أدب الأطفال المعاصر عن الرؤى المسيحية للمستقبل، والتي شكلت ملامحه لأكثر من ثلاثة قرون.
هل نتخلى عن المستقبل؟
إن التحول عن الاعتقاد في المستقبل الذي يتحكم إله في مقدراته إلى المستقبل الذي يصنعه البشر ويتحكمون فيه قد أشير إليه في إحدى أشهر رؤى المستقبل في السنوات الأولى من القرن العشرين في أدب الأطفال: رواية «قصة التميمة» (1906) للكاتبة إي نيسبيت، وهي قصة حول أربعة إخوة يكتشفون نصف تميمة قديمة في محل خردة. وهكذا ينقلهم هذا الجزء من التميمة إلى مراحل زمنية مختلفة؛ بحثا عن النصف الآخر منها. وتدور معظم الرواية حول رحلاتهم إلى الماضي، ولكن في المغامرة الأخيرة يذهبون إلى المستقبل، حيث يجدون كل شيء أفضل إلى حد كبير. ففي المستقبل، الهواء نظيف، وليس هناك فقر، وتم علاج الكثير من الأمراض، وأصبح الأطفال يحبون المدرسة (حيث أصبحت المناهج منطقية ومناسبة)، وأصبحت هناك مساواة بين الجنسين، وصارت الأزياء صحية ومريحة، وأصبحت وسائل النقل نظيفة وسهلة، والأفضل من ذلك أن الناس أصبحوا لا تساورهم أي مخاوف أو قلق، ويستمتعون بالعمل النافع الذي يعود بالفائدة على الجميع. وبعد جولتهم في لندن المستقبل هذه، تتحدث الطفلة الصغرى جين باسم الجميع حين تقول متعجبة: «أتمنى لو أننا نعيش في المستقبل!» ولكن، رأي جين هذا لا يوجد حاليا في الكتابات الموجهة للأطفال؛ فجميع الأعمال القصصية تقريبا تفترض أن الحياة ستصبح أكثر صعوبة وتقييدا مما هي عليه اليوم. ونظرا لأن القراء الصغار الذين توجه إليهم هذه الأعمال القصصية سوف يصبحون بدورهم مسئولين عن إدارة المستقبل القريب؛ فإن الإشارات الضمنية لهذا التحول من التفاؤل والإثارة إلى التشاؤم واليأس جديرة بالتأمل.
كانت نيسبيت تضيف إلى تقليد راسخ في الكتابة للأطفال يقدر الأمل والتفاؤل لقدرتيهما على تحفيز القراء، وافترضت أنه إذا ما تم إعداد هؤلاء القراء جيدا في صغرهم، فإنهم سيتمكنون في كبرهم من تحقيق تغيير اجتماعي إيجابي. وقد سعى العديد من كتب ودوريات الأطفال التي نشرت في العقود الأولى من القرن الماضي إلى إثارة اهتمام قرائها بالابتكارات العلمية والتكنولوجية؛ فكان القراء الصغار يشعرون بالإثارة لفكرة السفر فائق السرعة بر وجوا، وتطلعوا لاختراعات ميكانيكية من شأنها أن تقلل من الكدح وتجعل الحياة أكثر متعة، وتأملوا احتمال أن تتاح فرصة تجربة خوض المغامرات في الفضاء الخارجي للصغار. وبدءا من روايات الفانتازيا كأعمال نيسبيت وحتى رواية «أقواس ضد البارونات» (1934) للكاتب جيفري تريس - وهي إعادة سرد يسارية لقصة «روبن هود»، والتي تتطلع إلى وقت ما في المستقبل حين «يملك العوام ضعف ما يملكون الآن، ولن يكون هناك مزيد من الجوع أو الفقر في الأرض - وعد أدب الأطفال قراءه بأن المستقبل سيكون أفضل بكثير وأكثر إثارة إلى حد كبير من الحاضر.
بالإضافة إلى الوعد بمستقبل أفضل، عمل أدب الأطفال على خلق جيل قادر على صنع هذا المستقبل. فقد شهدت ثلاثينيات القرن العشرين صدور العديد من المطبوعات للأطفال التي تخبرهم صراحة بأنهم مطالبون بإصلاح العالم الذي سيرثونه، وأنهم لكي يفعلوا هذا عليهم أن يكونوا خبراء اقتصاديين، وعلماء، ومهندسين، وفنانين، ومعماريين، وفلاسفة من الطراز الأول. ويعد كتاب «مخطط تمهيدي للصبية والفتيات وآبائهم» (1932) الذي حررته الكاتبة ناعومي ميتشيسون مثالا نموذجيا على هذه المحاولة. وفي حين أن هذا الكتاب ليس عملا قصصيا بالمعنى الحرفي، فإن هذا الكتاب يتضمن العديد من القطع التأملية التي تدخل في مجال الخيال العلمي والفانتازيا في رؤيتهما للمستقبل. كما أنه يعد تذكرة لحقيقة أن الفن القصصي لم يكن يهيمن على النشر الموجه للأطفال إلى الحد الذي عليه الأمر اليوم.
مثل هذه الإصدارات لم تعد موجودة الآن؛ مما يجعل دراسة كيف دمجت ميتشيسون والمساهمون معها التفكير الإبداعي في بنية واقعية لتحفيز القراء الصغار على التفكير بشأن ما قد يبدو عليه المستقبل أمرا يستحق العناء. ويثير القيام بهذا الأمر أسئلة حول الأسباب التي لا تقف فحسب وراء توقف نشر هذا النوع والطابع من الإصدارات، وإنما محوه كذلك من تواريخ الكتابة للأطفال على نطاق واسع (وقد بدأ بعض العمل على مادة أمريكية منذ ذلك الوقت - انظر ميكينبرج 2006، ميكينبرج ونيل 2008). يشرح تمهيد ميتشيسون أن هذا الكتاب يهدف إلى «جعل الأشخاص الذين سيمسكون بزمام الأمور في العشرين عاما القادمة على وعي بشتى أنواع المعرفة والقيم» التي يحتاجون إليها لتصحيح أخطاء الماضي وبناء المستقبل بذكاء. وقد كلفت بعضا من أفضل المفكرين في ذلك الوقت للكتابة للأطفال حول مجالات خبراتهم، وشجعت القراء على القراءة في الفنون والعلوم والسياسة على قدم المساواة لأنه «لكي تكون مواطنا صالحا، سواء من أجل بلادك أو من أجل العالم، عليك أن تفهم كيف يتم تنظيم القوة والمعرفة والنظام معا، وكيف يمكن تغيير هذه المنظومة». إن كتاب «مخطط تمهيدي للصبية والفتيات وآبائهم» مكرس لإمداد الجيل الصاعد بالمهارات الفكرية والأيديولوجية والعملية الضرورية لإدراك ذلك العالم المجسد في رواية «قصة التميمة». لقد كان تقدميا في سياساته على نحو جريء، وتناول التنمية في روسيا - وخاصة الخطة الخمسية - كنموذج سوف يبنى عليه مستقبل ناجح.
شكل 5-3: صورة من رواية أليكس ويدينج وجون هارتفيلد «إيدي والغجر» (1935). هذه الصورة التي تعبر عن الصداقة التي تتجاوز الفروق الطبقية والعرقية تعد نمطية في كتب الأطفال التقدمية في عشرينيات وثلاثينيات القرن العشرين.
3
وقد ظهر العديد من الكتب التثقيفية المثيرة للتفكير المماثلة في سنوات ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، ومن بينها رواية «إيدي والغجر» (1935، مترجمة عن النسخة الألمانية التي ظهرت عام 1932) للكاتب أليكس ويدينج (الاسم المستعار لجريت وايسكوف). وتدور أحداث هذه القصة التي تتناول صداقات الطفولة بين المجموعات العرقية في حي للطبقة العاملة في برلين، وتتضمن صورا فوتوغرافية بعدسة جون هارتفيلد (اسمه الحقيقي هيلموت هيرزفيلد، ويعرف بصوره المركبة المعادية للفاشية). وعلى غرار رواية «إيدي والغجر»، وتماشيا مع سياسة التعاون الدولي التي ميزت السياسات والفنون التقدمية في ذلك الوقت، غالبا ما كانت هذه الكتب تظهر خارج المملكة المتحدة والولايات المتحدة.
إن اختفاء الكتب التي تهدف إلى صقل مهارات القراء وتحفزهم على الحراك السياسي، إنما يدل على التغيرات التي طرأت على الكيفية التي يطالب بها أدب الأطفال القراء الصغار بالتفكير في أدوارهم ومسئولياتهم في العالم الذي سيمسكون بزمام أمره حين يكبرون. وفي كتاب «ملعب ما بين المجرات» (2009)، تتبع فرح ميندلسون الانتقال من نصوص ما قبل ستينيات القرن العشرين - التي تسعى إلى خلق كفاءة عملية وفكرية لدى قرائها، وتتضمن مناقشات ثرية وتفصيلية لكيفية عمل الأدوات والأفكار - إلى نصوص ما بعد ستينيات القرن العشرين - التي تركز على الذكاء العاطفي، وتتعامل مع الأنواع الأخرى من المعلومات على أنها إما دون المستوى أو مبهمة. ورغم أن ميندلسون تكتب عن الخيال العلمي، فإن النمط الذي تحدده ينطبق كذلك على الأعمال القصصية الشبابية بصورة أعم (فالأعمال الموجهة للصغار أقل تأثرا بهذا النمط).
مستقبل يملؤه الذعر
لا يعد التغيير الذي طرأ في النصف الثاني من القرن العشرين، من الثقة والإثارة بشأن المستقبل إلى التشاؤم منه، بالأمر المثير للدهشة بعد أن شهد العالم حربين عالميتين، والهولوكوست، وتصنيع الأسلحة الذرية واستخدامها، والقلق العام من التلوث والمبيدات بعد نشر كتاب «الربيع الصامت» (1962) لراشيل كارسون. وعلى الرغم من حقيقة أنه وفقا لمقياس نيسبيت، فإن عقود ما بعد الحرب شهدت تحسنا هائلا في الطريقة التي يعيش بها الغرب، بدءا من منتصف القرن العشرين فصاعدا، كانت هناك مخاوف شديدة بشأن الكوارث المحتملة المرتبطة بالتحديد بنوعيات الاختراعات التكنولوجية التي نسب لها من قبل الفضل في تحسين أسلوب الحياة. ومن ستينيات إلى ثمانينيات القرن العشرين، كان أدب الأطفال يصور بانتظام سيناريوهات معركة هرمجدون التي خلقتها كوارث الحرب النووية وسيطرة الماكينات على حياة البشر، وتتمثل أبرز الأمثلة على ذلك في رواية «زكريا» (1973) للكاتب روبرت سي أوبراين، ورواية «أخي في الأرض» (1984)، للكاتب روبرت سويندلز، ورواية «أطفال الغبار» (1985) للويس لورانس. ومن حين إلى آخر، تتعرض هذه الرؤية للمعارضة كما هو الحال في ثلاثية بيتر ديكنسون «التغيرات» (1968-1970).
تدور أحداث رواية ديكنسون في وقت غير محدد من المستقبل، على الرغم من أنه يمكن معذرة القراء لظنهم أن الأحداث تدور في ماض بديل، حيث إن المستقبل الذي تصوره هذه الثلاثية هو مستقبل رفض التكنولوجيا وعاد إلى أسلوب حياة العصور الوسطى القائم على الزراعة. إن ثلاثية «التغيرات» تنتمي إلى جنس أدبي فرعي يفترض أن عالم المستقبل سوف يرتد بالضرورة إلى طريقة العيش هذه. ومع ذلك، فإن هذا الجنس الأدبي غريب من حيث إن أي جاذبية سطحية قد تنطوي عليها إعادة صياغة المستقبل في صورة الماضي ستتلاشى بإظهار هذا المستقبل في صورة عالم كئيب يسوده القمع والجهل والمحاباة والخوف. ومن خلال إحياء أساليب العيش القديمة في المستقبل، تطالب ثلاثية «التغيرات» بأن يدرك القارئ أن الماضي ليس زمانا أفضل للعيش فيه، وأن الحياة العصرية بوجه عام في أكثر البلدان تقدما أكثر راحة وليبرالية على المستوى السياسي من أي وقت مضى.
لكن ما ينقص ثلاثية ديكنسون هو الإحساس بكيف يمكن تحقيق مستقبل أفضل، وإشارة لما قد يبدو عليه هذا المستقبل. إن هذا الصمت إنما يدل على فقدان ذلك التفاؤل - والذي بدأ مبكرا في النصف الثاني من القرن المنصرم - والرؤية اللذين كانا فيما سبق يمثلان أساس قصص الأطفال التي تتحدث عن المستقبل. فبدلا من النهايات السعيدة التي تأتي في شكل تصورات إيجابية محتملة للمستقبل، أصبح القراء الصغار منذ ستينيات القرن العشرين يمنحون جرعات من التكهنات الكئيبة التي تحمل بين طياتها الكوارث والدمار؛ مما يجعل من الروايات المستقبلية الخاصة بالصغار جزءا جوهريا ومؤثرا من الجنس الأدبي المسمى ب «المآسي البيئية» الذي أنشأه كل من الخبيرين الاستراتيجيين البيئيين تيد نوردهاوس ومايكل شيلينبرجر.
في الدراسة التي أجراها نوردهاوس وشيلينبرجر عن الحالة الراهنة للسياسات البيئية، والتي تحمل عنوان «طفرة: من نهاية حماية البيئة إلى سياسات الاحتمال» (2007)، يوضح الكاتبان أن النماذج العلمية والسياسية الحالية «غير ملائمة إطلاقا لفهم الاحترار العالمي والأزمات البيئية الأخرى والتعامل معها». ومع ذلك، فإنها لا تزال تتحكم في التفكير والسياسات والسلوكيات. ويتعقب الكاتبان التأثير المستمر للنماذج الفكرية والسياسية والاجتماعية عتيقة الطراز على نوعيات القصص التي نرويها عن أنفسنا، والكيفية التي نعيش بها وننظم بها المجتمع من حولنا، وكذلك - بوجه خاص - علاقتنا بالطبيعة. ومن خلال التركيز حصريا على الطرق السلبية التي أثر بها الناس على الكوكب، فإن المآسي البيئية - كما يزعمان - «تثير النزعات الجبرية والمحافظة والبقائية». مثل هذه النصوص لا تتجاهل التقدم فحسب، بل ابتكرت كذلك قصصا مأساوية بيئية تصر على أن البشر لن يكون لديهم مستقبل إلا إذا رفضوا التطورات الجديدة في العلوم والتكنولوجيا وعادوا إلى أساليب العيش في الماضي. وقد حددت ثلاثية «التغيرات» مشكلات هذا السيناريو، ولكن يبدو أن النسيان قد طوى ما حملته من دروس في الأعمال القصصية الحديثة عن المستقبل الموجهة للصغار.
المستقبل المأسوي للبيئة
هناك مجموعتان من القصص المستقبلية المحبوبة، والتي تتمتع بقاعدة عريضة من القراء من إنتاج العقد الماضي، تجسد الاتجاهات المأسوية البيئية في الكتابة للصغار. تدور أحداث سلسلة «حكايات المدينة الجائعة» (2001-2006)، للكاتب فيليب ريف، في المستقبل البعيد، بعد ألف عام من حرب الستين دقيقة التي نسف فيها العالم الذي نعرفه بأسلحة فتاكة لدرجة أن كوكب الأرض يدمر تماما وإلى الأبد. يعيش معظم الناس في مجتمعات حضرية هرمية بالمعنى الحرفي للكلمة؛ حيث يعيش الأغنياء والأقوياء في أعلى المستويات ويتمتعون بهواء نظيف وإمكانية تناول الطعام الطازج ورؤية الخضرة، في حين تعيش الطبقات الأدنى تحتهم في مستويات تزداد ظلمة وبؤسا. هذه المدن الجديدة تعمل وفقا لآليات نسخة متطرفة من النظام الرأسمالي تعرف باسم الداروينية المحلية؛ أي مدن «تأكل» مدنا أخرى من أجل البقاء، والمهارات التقنية التي نعتبرها اليوم من المسلمات هي محض أساطير. وبالرغم من موروث الكوارث التكنولوجية، فإن البشرية في الديستوبيا التي يصورها فيليب ريف لم تصبح أكثر حكمة - فقد أعيد اكتشاف ونشر عناصر ابتكار الأسلحة نفسها التي دمرت العالم من البداية بنهاية الكتاب الأول. ولكن بنهاية السلسلة، تفعل طريقة بديلة للعيش بعد أن يقتل عشر السكان عمدا ويعاد البقية إلى الطبيعة مرة أخرى.
تصور رباعية «القبحاء» (2005-2007) للكاتب سكوت ويسترفيلد مستقبلا يلي ثبوت أن اعتماد البشر على الوقود الحفري غير مستدام، وفيه تقوم مجموعة قوية - ولكنها سرية إلى حد كبير - بتجريد العامة من حقوقهم. فقد ابتكرت هذه المجموعة طريقة للتحكم في الناس تتضمن جراحة شاملة في سن السادسة عشرة، وذلك - ظاهريا - لجعل كل شخص نموذجا بشريا مثاليا على المستوى الجسدي ، والفائدة المقترنة بصفة «الجمال» هي نمط حياة خال من العمل والحاجة والقلق. ولكن، ما لا يعرفه هؤلاء «الحسان» هو أن الجراحين الذين أجروا لهم الجراحة قد أجروا كذلك تغييرات في أدمغتهم بهدف السيطرة على عقولهم، والتي من شأنها أن تحبسهم في مرحلة النرجسية والاهتمام بالأقران من سن المراهقة، والتي يمثل فيها الخوف من عدم الانتماء والتمتع بالمظهر الجيد في حد ذاته قوة مؤثرة للسيطرة على المجتمع وتحقيق الامتثال بتقاليد المجتمع. إن تحديد مرحلة الشباب كأكثر الأوقات فاعلية للتدخل بغرض السيطرة طويلة المدى على المجتمع، وإظهار الشباب في تلك المرحلة كأشخاص يتصفون بالصبيانية، يضع قصة «الحسان» ضمن مجموعة متنامية من روايات المستقبل التي تقدم مجتمعات تستخدم طرقا متطرفة للسيطرة على المراهقين وتقلل من أعدادهم. وبغض النظر عن الطريقة التي تقرأ بها مثل هذه الروايات، فإنها تتوقع أن المستقبل سيكون فترة عصيبة لصغار السن.
قد تكون الصعوبة حافزا على التغيير والعمل، وفي كل من «القبحاء» و«حكايات المدينة الجائعة»، تبدأ بعض الشخصيات الشابة في مقاومة السلطات من خلال عدد من أنشطة العصابات، ولكن لم تعرض أي من السلسلتين رؤية جديدة، سواء أولية أو تأملية، لتحل محل النماذج الفاشلة التي تنتقدها. وبعيدا عن التفكير الموسع الذي ميز الكتابات عن المستقبل للأطفال في القرن العشرين، تؤكد قصص المآسي البيئية المعاصرة على المشكلات والأخطاء والعواقب في حين تقدم القليل فيما يتعلق بالأفكار والمحفزات للتعامل مع هذه المشكلات. إن المسار السردي لقصص المآسي البيئية الحديثة ينتهي دائما بدرس إدراك أخطاء الحياة العصرية والتحول إلى طرق العيش القديمة على الأرض، ويعاقب الغالبية العظمى من الناس - حيث يجبرون على العيش في مستويات مماثلة لأدنى مستويات عالم المستقبل لدى ريف - أو يبادون.
يكرس كل من نوردهاوس وشيلينبرجر الكثير من الوقت لإظهار أن القصص التي تعيد تخيل شكل المجتمعات تعتبر محورية في جلب التغيير لهذه المجتمعات. فإذا كانا محقين في هذا الشأن، فإن القصص التي ألفت للصغار الذين سيكون عليهم العيش في المستقبل القريب سوف تلعب دورا مهما في تحديد الشكل الذي سيكون عليه هذا المستقبل. إن هناك وفرة في القصص التحذيرية من الوضع الذي نعيشه الآن، وبالمثل هناك مخزون وفير من القصص المستقبلية التأديبية التي تعاني فيها البشرية بسبب أخطاء الماضي، ولكن نادرة هي القصص التي ترسم للصغار مستقبلا يطمحون في الوصول إليه، وتدفعهم إلى التفكير بشأن سبل جعل هذا المستقبل حقيقة.
حكايات جديدة للغد
تبدأ بعض روايات المستقبل الإيجابية الحالمة في الظهور. على سبيل المثال، تجري رواية «اليوميات الكربونية 2017» (2010) للروائية ساسي لويد بعض التعديلات الأولية الهامة على تقاليد قصص المآسي البيئية. هناك حاليا نسختان من رواية «اليوميات الكربونية» «كتبتهما» لورا براون، التي تخط ما حدث لحياتها كطالبة جامعية في عام 2015، حين غمر الفيضان لندن نتيجة للاحترار العالمي، ونشبت حروب على المياه بين دول الشرق الأوسط، وبدأت الحكومة في التطبيق الصارم لتشريعات قمعية. يعتبر السيناريو مألوفا في قصص المآسي التقليدية، كما يحتفظ الكتاب بتقاليد أخرى من قصص المآسي البيئية. على سبيل المثال، مع انهيار الاقتصاد ومعه دولة الرفاهية، يهجر الناس المدن زاحفين إلى الريف حيث يمكنهم أن يزرعوا غذاءهم بأنفسهم. ولكن عند هذه النقطة تبدأ رواية «اليوميات الكربونية 2017» في مراجعة القصة التحذيرية المألوفة. فبدلا من أن يعمل كل فرد على النجاة بنفسه والرضوخ للقوى القمعية للدولة، يتجمع الناس في وحدات مبدعة وفعالة وينظمون احتجاجات ناجحة. فهذه القصة لا تتمحور حول البشرية المهزومة الأنانية المنهارة، وإنما حول قدرة البشر على التكيف، والعمل معا، والاهتمام بشأن من هم أكثر بؤسا. إن تاريخ البشر الطويل في حل المشكلات هو بالضبط ما تم إقصاؤه من الروايات المأساوية البيئية.
إن المجموعات ذاتية التنظيم تعرف أنها لا تستطيع أن تفكر على المستوى المحلي فحسب؛ فهناك مستوى مسلم به من الوعي والدعم العالميين يتدفق طوال رواية «اليوميات الكربونية 2017». وجزء كبير من هذا الدعم ينظمه الشباب الذين يشكلون دائرة أصدقاء لورا براون؛ مما يعني أنه بدلا من تصوير المراهقين كمجموعة من الحمقى المهووسين بأنفسهم، تتيح رواية «اليوميات الكربونية 2017» للمراهقين أن ينموا في ظل وعي سياسي مع القدرة على التصرف والعمل مع أشخاص من أعمار مختلفة. وكجزء من هذه العملية، يستخدم كل من نسختي هذه الرواية أشكالا وصيغا سردية جديدة تلائم الثقافة الشبابية، حيث تدمج ما بين الرسائل النصية والمحتويات الرقمية الأخرى، وهو ما يعد أمرا ذا أهمية في حد ذاته. إن القدرة على التواصل عبر مسافات شاسعة تعزز من الإحساس بالتواصل مع ما هو خارج المجموعة المباشرة، ويؤكد على الحاجة إلى العمل الجماعي. تظهر رواية «اليوميات الكربونية 2017» ثقافة الالتقاء في العمل، كما يقدم تقديرها للتكنولوجيا عنصرا آخر يحررها من قالب القصة المأساوية البيئية.
تشير رواية «اليوميات الكربونية» إلى ظهور اهتمام بإعادة وصف ورواية المستقبل بطرق منشطة وتحفيزية بدلا من تلك الطرق العدمية الاستهجانية. وفي حين أن الكتابين يمثلان نقطة انطلاق قيمة، فإن أيا منهما لا يفعل الكثير لتطوير الكفاءات الفعلية أو حتى يقترح المهارات التي ستكون لازمة في المستقبل. وعلى هذا الصعيد، بوسع أدب الأطفال القيام بالكثير والكثير.
هوامش
الفصل السادس
الجدل الأخلاقي في أدب الأطفال
إحدى مناطق الاختلاف الواضح بين أدب الأطفال وأدب الكبار هي طبيعة ومدى الاهتمام بما يمكن وصفه على نحو واسع بالقضايا الأخلاقية، سواء أكانت هذه القضايا تركز على الطريقة التي تتكون بها العلاقة بين المؤلفين والقراء، أم القضايا التي يجري تناولها، أم أخلاقيات الإنتاج (هل من المقبول أن ينتج كتاب للأطفال بواسطة أطفال آخرين يكدحون في العمل في دار نشر استغلالية، أو أن تدمر البيئة في أثناء إنتاج هذا الكتاب؟) ويبدو أن مناقشة التعقيدات الأخلاقية المرتبطة بأدب الأطفال خصوصا تعد طريقة مناسبة لختم هذه «المقدمة القصيرة جدا»؛ لأنها توضح كيف تؤثر حداثة سن الجمهور وعدم خبرته على الإنتاج الأدبي، وكيف يمكن لدراسة أدب الأطفال أن تلقي الضوء على جوانب الثقافة بصورة أعم.
على مدار تاريخ أدب الأطفال، استخدم الكبار أدب الأطفال كوسيلة لتحفيز القراء على التفكير بطرق معينة، ولتقدير سلوكيات وأنشطة معينة، والابتعاد عن أشخاص معينين. ونظرا لأن هذا النوع موجه إلى جمهور شديد التأثر وفي مرحلة تكوين الشخصية؛ فمن الضروري الانتباه إلى الطبقات المتعددة - والمتعارضة أحيانا - للنشاط والتفكير الأخلاقيين اللذين تتم في أجوائهما عملية الكتابة للأطفال والشباب، علاوة على حقيقة أن الأطفال لديهم الآن أكثر من أي وقت مضى إمكانية الوصول إلى العديد من مصادر المعلومات والأفكار. تغير المعلومات المستقاة من شبكة الإنترنت والقنوات التليفزيونية الفضائية وألعاب الكمبيوتر ما يعرفه الأطفال على الأرجح - أو مروا به - عن أمور مثل العنف والجنس وإيذاء النفس والتنمر؛ مما يؤثر على نوعية الموضوعات التي يقدمها الكاتب للقراء وطريقة عرض وتقديم وتناول الموضوعات.
أدب الأطفال كوسيلة دعاية
لطالما أشار النقاد وغيرهم من الكبار المهتمين بأدب الأطفال إلى أهمية أن ينتبه من يكتبون للأطفال إلى أن لديهم واجب رعاية تجاه قرائهم، بمعنى أن يحرصوا على عدم إيذاء الأطفال عاطفيا (مثل تخويفهم بشدة أو حرمانهم من الأمل)، أو تعليميا (مثل تجنب تقديم معلومات خاطئة أو الوقوع في أخطاء نحوية ولغوية)، وهذا القلق يذكرنا بأنه في أدب الأطفال لا تكون العلاقة بين الكاتب والقارئ علاقة طرفين متساويين؛ بل إنها أيضا علاقة بين شخص بالغ وطفل. وقد يتضمن واجب «الرعاية» هذا للقارئ ممارسة التحكم بطرق لا تخدم مصلحة القراء الصغار. فمثلا، تقدم جاكلين روز (1984) رؤية لعلاقة الكبار بالأطفال في أدب الأطفال بأنها علاقة يغوي فيها الكتاب القراء الصغار ويوقعونهم في شراك بطرق تقلل من احتمالات تحديهم لسلطة الكبار. وعند التفكير في روايات الشباب تحديدا، تقول روبرتا سيلنجر ترايتس (2000) أيضا بأن أدب الأطفال يحاول احتواء قوة واستقلال الشباب من خلال التأكيد على خطورة تحدي الوضع القائم. وتشير ماريا نيكولاييفا (2009) إلى الطريقة التي يميل من خلالها أدب الأطفال إلى جعل فترة البلوغ هي العرف السائد الذي يتمرد عليه الأطفال بأنها طريقة غير سوية. وسواء أكانت هناك نسخة قياسية للنضج خلف الكتابة للأطفال أم لا، فلا شك أن الكبار قد استخدموا أدب الأطفال مرارا وتكرارا لنشر معلومات وترسيخ قيم لأسباب متعددة.
وقد أدركت الأنظمة الشمولية الإمكانات الهائلة لأدب الأطفال. على سبيل المثال، تماشيا مع التزام موسوليني بغرس بذور الفاشية في الشباب الإيطالي، كتب المنظر المستقبلي فيليبو توماسو مارينيتي «بيان حول أدب الأطفال» يحدد فيه كتاب الأطفال المثالي بأنه ذلك الكتاب الذي ينقل رسالة البطولة المطلقة والوفاء للأمة، ويروج للشجاعة الجسدية والعمل الدءوب وروح الحداثة والديناميكية وفقا لمبادئ الحركة المستقبلية. وبالمثل، رأى ماو تسي تونج أن أدب الأطفال وسيلة مهمة لترويج الفكر الشيوعي، وفي عام 1938، كتب بيانا مؤثرا في الجريدة الجديدة «أطفال المناطق الحدودية»، حث فيه الشباب على «النهوض» لتحرير أنفسهم من القمع الياباني وأن يتحولوا ليصبحوا «قادة العصر الجديد». وكذلك استخدم أدب الأطفال المكتوب بالإنجليزية في عمليات الدعاية؛ فكما حدث في إيطاليا والصين، وجد الشيوعيون في الولايات المتحدة أن الأطفال جمهور مهم بالنسبة لهم. ففي المجموعة القصصية «كتاب الرائد الجديد القصصي» (1935) نجد أن المقدمة التي كتبها ماكس بيداخت - الذي كان آنذاك الأمين العام للتنظيم العالمي للعمال - تقول إن أدب الأطفال لديه القدرة على تغيير حياة الأفراد وثقافات بأكملها:
إن قراءة هذه القصص ستساعدكم على فهم الحياة التي تنتظركم. وعندما تتعلمون أن تفهموا الحياة، ستتعلمون كيف يمكنكم تشكيل حياتكم. ولن تكونوا مجرد بيادق شطرنج يحركها القدر بأصابعه، بل ستصبحون أسياد أقداركم. لن تكونوا جزءا من التاريخ فحسب، بل ستصنعون التاريخ بأنفسكم.
عند تأمل هذه الكتابات من منظور عصرنا الحالي، قد تبدو لنا بسيطة وبدائية، لكن هذه الأمثلة توضح كيف استخدم أدب الأطفال كوسيلة لتحدي الوضع الراهن وكذلك لإعادة إنتاجه. بيد أن استخدام أدب الأطفال للدعاية ليس أمرا مقصورا على الماضي فحسب. فنجد أن السلسلة الشاملة «المتروكون: الأطفال» (1998- ) بقلم جيري بي جنكينز وتيم لاهاي نموذج لذلك. فهذه السلسلة التي تبيع ملايين من النسخ تعد دعاية واضحة للحركة الإنجيلية. وتقص السلسلة قصة مجموعة من المراهقين الذين يتركون في الأرض بعد صعود المختارين إلى السماء - وهو الوقت الذي يتوقع فيه المسيحيون أن يتجمعوا للقاء المسيح العائد. وعندما يدرك هؤلاء المراهقون أخطاء حياتهم السابقة، فإنهم يكونون «قوة شباب المحنة» - وهي مجموعة مقاومة سرية إنجيلية مسيحية، وخلال سنوات المحنة السبع التي يجتاح فيها الأرض الوباء والبلاء والمصائب الأخرى التي تكون المحنة التالية، يقاوم هؤلاء الشباب المسيح الدجال من خلال نشر تعاليم الأناجيل.
والقراء الضمنيون لهذه النصوص هم شباب صغار يربون وفقا للمبادئ الإنجيلية، وتشير الإهداءات المكتوبة في النسخ المستخدمة من تلك الكتب إلى أنها أهديت للصغار من قبل أقاربهم الذين يعتبرون تلك الكتب حقيقية وتتنبأ بالمستقبل؛ ومن ثم فإن هذه الكتب تقدم موعظة لأشخاص متدينين. وهذه الأعمال التي تروج لأفكار على نحو واضح تعد أقل تعقيدا على المستوى الأخلاقي؛ لأن الأثر الذي تسعى لتركه على القراء يعد واضحا مقارنة بالأعمال الأخرى التي تروج لأفكارها ترويجا خفيا. ويمكن مقارنة تلك السلسلة بسلسلة روايات «سجلات نارنيا» (1950-1956) التي يحاول فيها سي إس لويس إعادة تخيل القصة المسيحية بطرق يعتقد أنها ستروق القراء من الأطفال. وينجح لويس بوضوح في جذب انتباه القراء الصغار؛ إذ أصبحت «سلسلة نارنيا» جزءا من تراث أدب الأطفال، واستمتعت بها أجيال متلاحقة من الأطفال. وهنا تكمن المعضلة الأخلاقية؛ إذ إنه لا يفهم كل أصدقاء نارنيا الرسائل المسيحية عند قراءة السلسلة وهم أطفال. ورغم أن لويس قال إن القصص ليست إسقاطات، ولكنها تتوافق بسلاسة مع الأحداث المذكورة في الكتاب المقدس، وإنها تعتمد على مصادر أخرى للأساطير والخرافات، فإنه لديه أجندة مسيحية متنكرة بصورة مناسبة لتبرير الاتهامات بالتبشير بصورة خفية. قد تكون أخلاقيات إخفاء الموقف الأيديولوجي بهذه الطريقة مثيرة للإزعاج، لكن لا يوجد نص أدبي يخلو من الأيديولوجية، ويمكن عمل دراسة توضح أن أعمال لويس تنجح غالبا في مساعدة الأطفال ليصبحوا فيما بعد قراء قادرين على نقد النصوص بكفاءة - بما فيها سلسلة نارنيا عند قراءتها مرة أخرى في كبرهم. فإذا صح هذا المنطق، يصبح اللغز الأخلاقي هو: هل الغاية تبرر الوسيلة حقا؟
وعند التفكير في القضايا الأخلاقية الناجمة عن المحاولات المتعمدة للتأثير على القراء من الأطفال، من المهم ألا نغض الطرف عن الأعمال الأدبية الكثيرة التي تهدف بالأساس إلى تشجيع الأطفال على التفكير باستقلالية وعلى أساس مستنير قدر الإمكان تجاه قضايا مثل العدل والحرية والصواب والخطأ ومعنى السلوك القويم. وتقف هذه الأعمال على طرف نقيض من الأعمال الدعائية، ويحفل التاريخ بعدد هائل من الكتابات التي تسعى إلى تحفيز القراء وتدريبهم على تحليل وتقييم مزايا ومسئوليات مناصب معينة سعيا وراء تحقيق الوعي الأخلاقي. ومما لا شك فيه أنه حتى الكتابات التي تحاول تعليم الأطفال جمع الأدلة من قراءاتهم وإخضاعها للفحص هي في حقيقة الأمر تتبنى موقفا أيديولوجيا عن قيمة هذا النوع من النشاط؛ ومن ثم لا يسع أيديولوجيات المؤلفين إلا تشكيل إنتاجهم الأدبي. وعلى أي حال، وكما توضح الأمثلة التالية، فإن كتب الأطفال تطرح العديد من الأسئلة الأخلاقية المعقدة، والتي قد تساعد القراء على اكتساب مهارات تحليلية فضلا عن اختبار ردود أفعالهم مقارنة بردود أفعال الآخرين.
أخلاقيات السلطة
هناك تاريخ طويل من الكتابة عن العبودية للأطفال، بل إنه في بعض الأوقات تم اعتبار الأطفال أنفسهم عبيدا أو خدما (وكثيرون منهم لم يكن وضعهم أفضل من وضع العبيد بكثير). ونشأت هذه المقارنة في القرن الثامن عشر على أساس أن الأطفال كانوا مغلوبين على أمرهم إلى حد كبير وخاضعين لسلطة معظم من حولهم؛ مما كان يعني أن القراء الصغار كان لديهم أسباب تجعلهم يستشعرون جيدا ظلم العبودية. وبالفعل، فقد شجعهم العديد من النصوص الداعية إلى إلغاء العبودية على ذلك.
ومن أبرز الأعمال الأدبية المقدمة للأطفال في تلك الفترة، والتي تتناول قضية العبودية، رواية الكاتب توماس داي بعنوان «سانفورد وميرتون» (وقد نشرت هذه الرواية في ثلاثة أجزاء في أعوام 1783، و1787، و1789). وقد قاد توماس داي حملات ضد التأثير الفاسد لتجارة العبيد على الحياة البريطانية. ومن بين الطرق التي قام بها بذلك تقديم الشاب تومي ميرتون - الذي ترصد القصة مرحلة تعليمه - إلى عبد سابق يعيش في إنجلترا. حتى سن السادسة، كان تومي يعيش حياة مدللة في مزرعة والديه في جامايكا، حيث تعلم أن يعتبر نفسه أفضل من العبيد الذين كانوا في خدمته. ومن خلال تعرفه على الزنجي (كما يشار إليه)، يدرك تومي أن نظام امتلاك العبيد - الذي كان يعتبره في السابق أمرا طبيعيا - هو في الواقع أمر بغيض. بل والأشهر منها على مستوى الدعوة إلى إلغاء العبودية الرواية الأكثر بيعا «كوخ العم توم» (1851-1852)، للكاتبة هارييت بيتشر ستو. ومن خلال شخصية إيفا سانت كلير، تقدم الكاتبة مثالا على قدرة الصغار على تغيير تفكير من حولهم من خلال عناية إيفا بعبيد عائلتها وعطفها عليهم.
شكل 6-1: كانت رواية «كوخ العم توم» من القصص التي يعاد سردها كثيرا على مسامع الأطفال. وقد ساعدت صور مثل هذه - والتي تظهر التفريق بين الأم وولدها - على إثارة التعاطف مع قضية إلغاء العبودية.
1
وتنقل رواية هارييت بيتشر ستو تركيزنا على أدب الأطفال المتعلق بالعبودية إلى الولايات المتحدة، التي استمرت فيها العبودية لما يزيد عن نصف قرن بعد حظرها في بريطانيا. شكليا، لم يعد الأمريكيون من أصول أفريقية عبيدا منذ نهاية الحرب الأهلية الأمريكية (1865)، لكن ميراث العبودية كان لا يزال يخيم على المجتمع، وقدم أدب الأطفال بعض الأعمال القوية التي عملت على مداواة آثار الوحشية والفظائع السابقة، وأشادت بإسهامات الأمريكيين الأفارقة في الثقافة الأمريكية، وتحدت الأفكار النمطية السائدة من خلال تمثيل تجربة السود وثقافتهم كجزء مميز من الحياة الأمريكية العادية. وخلال سبعينيات القرن العشرين، وبعد الفوز في المعارك الرئيسية للحقوق المدنية للسود، تحول تركيز أدب الأطفال بشكل كبير من تناول مساوئ العبودية إلى تناول الحاجة إلى مواجهة العنصرية عند تأليف كتب الأطفال. ورغم ذلك استمرت الكتابات والرسوم المقدمة للأطفال في تناول قضية العبودية كما في سلسلة الرسوم القوية والمثيرة للإعجاب التي تعكس الظروف على متن سفينة لتجارة العبيد في رواية «الممر الأوسط: سفينة بيضاء/شحنة سوداء» (1995) للكاتب توم فيلينج.
وتأتي ثنائية «أوكتيفيان ناثينج» (2006-2008) للكاتب إم تي أندرسون - التي تختلف مكانيا ووظيفيا - لتعرض حياة ولد أفريقي في مستعمرة بوسطن، حيث نشأ الولد كجزء من تجربة في عصر التنوير لإثبات أن السود أقل شأنا من البيض. ورغم أن الكتابين يركزان بالأساس على الظلم الذي تسببه العبودية، فإنهما في الوقت نفسه يثيران تساؤلات حول أحداث وتوجهات في القرن الحادي والعشرين بطرق تشجع التفكير الأخلاقي عن الحاضر. فعلى سبيل المثال، تعقد مقارنات بين سياسات أمريكا في حرب الاستقلال، والعبودية، والحرب على الإرهاب بما في ذلك تعذيب الجنود الأمريكيين للسجناء في سجن أبو غريب بالعراق. ويقدم الجزء الأول من الثنائية بعنوان «حفل الجدري» إمكانية مقارنة طريقة تفكير «الموت أو الشفاء» التي اعتنقها أوائل من وافقوا على التطعيم ضد الجدري بالمراهقين الشواذ اليوم والذين يخاطرون ويمارسون الجنس غير الآمن على أساس أن القلق المصاحب لانتظار الإصابة بفيروس نقص المناعة البشرية أسوأ من الإصابة به بالفعل.
الإنصاف
إن التمييز بين الصواب والخطأ في المواقف المختلفة يلمس موضوعا مألوفا طالما انشغلت به مرحلة الطفولة: ألا وهو الإنصاف. فكل من يتعامل مع الأطفال يواجه دائما شكواهم الغاضبة من الظلم. وتعد رواية «هنري هاجينز» (1950) للكاتبة بيفرلي كليري نموذجا لقصص الأطفال البسيطة التي بحثت هذا الموضوع بعمق، فهي تروي قصة واقعية حدثت في بلدة أمريكية صغيرة. تحكي القصة علاقة الصداقة القوية التي تنشأ بين هنري وكلب يظن أنه ضال يسمى ريبسي، لكن الحقيقة هي أن هذا الكلب ليس كلبا ضالا، بل ضائع من صاحبه الذي يحبه كثيرا. والولد الآخر لطيف تماما مثل هنري، ويحب الكلب كثيرا مثله. وفي الصفحات الأخيرة من الكتاب، يتفق الولدان على أن ريبسي يجب أن يختار صاحبه. وفي نهاية يسودها التوتر، يقف الولدان على مسافة متساوية من الكلب ويناديان عليه في الوقت نفسه، وبعد مرور بضع دقائق خيم فيها التوتر على الجميع بسبب التردد، يختار ريبسي أن يبقى مع هنري. وهذه النهاية حزينة وسعيدة في الوقت نفسه؛ لأن القراء قد شهدوا علاقة هنري مع ريبسي وأرادوا أن يكونا معا، لكن هذه السعادة تسبب الألم للولد الآخر. وتحاول كليري خفية أن تجعل القراء يتأملون إذا ما كان هذا هو القرار الأفضل والعادل، وأن يتساءلوا إذا ما كان بإمكانهم التوصل لحل أفضل لهذه المشكلة، وأن يتعاطفوا مع الخاسر في الوقت نفسه الذي يشاركون فيه هنري سعادته.
وتوضح رواية «هنري هاجينز» الأطفال وهم يتخذون قرارات عادلة دون تدخل الكبار، ويلتزمون بميثاق الشرف المفترض وجوده في أعمال أدب الأطفال. وفي هذه الحالة، فإن هذه القوانين تعني قبول عدم الغش وعدم الرجوع في القرارات وعدم التراشق بالاتهامات. وأحيانا يتم إعلان طبيعة هذه القوانين، فمثلا تحتوي القصص المدرسية على مواقف تقال فيها هذه القوانين للتلاميذ الجدد أو المخطئين، أما في رواية «كتب الأدغال» (1894-1895)، للكاتب روديارد كيبلينج، فنجد أن الذين لا يلتزمون بقانون الغابة يوبخون علانية. وتعد رواية «لعبة إندر» (كتبت في 1985، وتمت مراجعتها في 1991) للكاتب أورسون سكوت كارد من روايات الأطفال التي تختبر مبادئ شرف الطفولة غير المكتوبة في أدب الأطفال إلى أقصى حد. وتدور أحداث هذه الرواية مختلطة الجمهور (إذ إنها لم تكتب في الأصل للأطفال لكنها جذبت قاعدة عريضة من القراء الشباب حتى إنه تم تحويلها إلى كتاب للأطفال) في المستقبل بعد أن تعرضت الأرض مرتين لغزو المخلوقات الفضائية. وتتناول الرواية تطور طالب المدرسة أندرو ويجين - أو «إندر» - خلال «معركة المدرسة» التي صممت لتحديد القادة العسكريين المحتملين استعدادا لمواجهة الهجوم الثالث المحتمل من المخلوقات الفضائية. ورغم جو المنافسة الشديدة، نجد أن الأطفال يعلمون القوانين ويلتزمون بها؛ كما يعرف الكبار الذين يتلاعبون بهم من خلف الأستار أنهم سيلتزمون بتلك القوانين.
ويعد «عدم التسلل» جزءا راسخا من هذه القوانين، والذي يتم التلاعب به بطريقة ساخرة في رواية «لعبة إندر»؛ لأن القراء يعلمون أن الأولاد خاضعون باستمرار لمراقبة الكبار الذين لا يتدخلون حتى في حالة إصابة أحد الأولاد إصابة بالغة تكاد تودي بحياته؛ لأنهم يرون أن الوحشية من السمات الأساسية للقائد القادر على هزيمة المخلوقات الفضائية. ومن أول الاختبارات الأخلاقية التي يواجهها القراء هو تحديد ما إذا كان سلوك الكبار مبررا أخلاقيا أم لا، ورغم ذلك نجد أن الأزمة الأخلاقية في هذا الكتاب تكمن في قضية أخرى.
يتكون تدريب الأطفال على القيادة إلى حد كبير من ممارسة الألعاب، وقتال بعضهم البعض أحيانا، وأحيانا يتقاتلون عبر الكمبيوتر في بيئة محاكاة واقعية ومعقدة تحاكي هجوم المخلوقات الفضائية إلى حد كبير. وعندما ينتصر إندر وفريقه في المحاكاة التي تختبر تكتيكاتهم ومهاراتهم وقدرتهم على التحمل في تجربة تفوق أي شيء شهدوه في حياتهم، يتضح أن ذلك لم يكن ممارسة لعبة بل كانوا يشنون حربا. ونظرا لأن النصر تحقق من خلال تدمير كوكب المخلوقات الفضائية؛ فقد تمت إبادة عرق بأكمله. ومع هذا الاكتشاف علموا أن المخلوقات الفضائية - بعد أن أدركوا أن البشر نوع من أشكال الحياة الواعية - كانت قد قررت عدم محاولة احتلال الأرض وأرادت السلام.
إن عدد ومدى تعقيد القضايا الأخلاقية التي تعج بها رواية «لعبة إندر» هائلان؛ فهل من الصواب السماح للأطفال بالاقتتال إذا كان هذا من الممكن أن ينقذ البشرية؟ هل هناك ما يبرر للكبار قيامهم بالضغط على الأطفال ذهنيا وبدنيا وعاطفيا مهما كان السبب؟ هل من الصواب السماح لأي شخص بتنفيذ خطة إبادة جماعية تحت ستار ممارسة لعبة؟ هل هناك حدود للولاء؟ وحقيقة أن الأطفال قد اهتموا بقراءة رواية «لعبة إندر» إلى هذا الحد تدل على أن هذه الأسئلة تشغل بالهم، وأنهم يرون أن تلك الكتب وسيلة لاستكشافها.
كلا الجانبين الآن
ترجع المشكلات الكثيرة التي أثارتها رواية «لعبة إندر» إلى كونها قصة عن الحرب إلى جانب كونها قصة مدرسية. وبينما كانت قصص الحروب في الماضي تقدم أحداثا وطنية وواضحة مثل تلك الموجودة في روايات جي إيه هنتي (1832-1902)، نجد أن هذا الجنس الأدبي خرج من رحمه الكثير من أقوى الأعمال الأدبية المقدمة للأطفال في العقود الأخيرة وأكثرها تحديا على المستوى الأخلاقي. ومنذ سبعينيات القرن العشرين، لم تعد قصص الحرب تروى من منظور المنتصر كما كان الحال على مدار الجزء الأكبر من تاريخ أدب الأطفال، وغالبا ما كانت الحدود بين الصديق والعدو صعبة التمييز.
تحكي رواية «أنا ديفيد» (1963) للكاتبة آن هولم، عن ولد يهرب من أحد معسكرات الاعتقال التي نشأ فيها، وقد ترجمت هذه الرواية من اللغة الدانماركية إلى اللغة الإنجليزية في عام 1965، ومنذ ذلك الحين، أنتج أدب الأطفال عددا من الكتب التي تتناول أهوال الحرب ولا سيما محرقة الهولوكوست. وقد أثارت الأعمال الأدبية التي تناولت محرقة الهولوكوست تحديدا جدلا كبيرا؛ فتساءل بعض النقاد حول ما إذا كان من المناسب الكتابة عن مثل هذا الموضوع لجمهور من الصغار أم لا، لعدة أسباب منها أن فهم هذا الموضوع يتطلب تبسيطا شديدا حتى إن النصوص يجب أن تحرف الأحداث، كما أن مواجهة الأطفال بهذه الوحشية قد يكون أمرا مضرا لهم. وذهب البعض الآخر إلى قول أنه ليس مبكرا على الإطلاق رواية قصة الهولوكوست للأطفال؛ لأن هناك دافعا أخلاقيا لإخبارهم بما حدث كوسيلة لمنع تكرار هذه الوحشية في المستقبل، وإحياء لذكرى ضحايا الهولوكوست.
ويعتبر الكتاب المصور الذي كتبه المؤلف الإيطالي روبرتو إينوسينتي تحت عنوان «روز بلانش» (1985، وتحتوي النسخة البريطانية منه على نص أعاد سرده إيان ماكيوان؛ أما النسخة الأمريكية (وهي أفضل من البريطانية) فقد ترجمت من الإيطالية على يد مارثا كوفينتري وريتشارد كراليا) من أوائل الأعمال التي استخدمت وجهة نظر طفل يتمتع بالبراءة وتداخل الألفاظ والصور لخلق نص سردي بليغ. وهناك الكثير من الفجوات بين ما يقال وما يفهم من تلك القصة التي تحكي عن فتاة ألمانية تكتشف معسكر موت على أطراف قريتها، وتفعل ما في وسعها لمساعدة السجناء قبل أن تلقى حتفها خطأ برصاص القوات المنسحبة. لا تبسط رواية «روز بلانش» الأمور مطلقا، بدءا من حقيقة أن البطلة فتاة ألمانية طيبة، وأن مكافأتها على إنسانيتها ونكرانها لذاتها وشجاعتها هو الموت. ونجد أيضا أن الموت هو الثمن الذي يدفعه برونو - الشخصية المحورية في رواية «الولد ذو البيجامة المخططة» (2006) للكاتب جون بوين - مقابل صداقته لولد يدعى شمويل، وهو سجين في معسكر الموت الذي يديره والد برونو. وبينما يؤكد إينوسنتي على براءة روز بلانش وشجاعتها ليؤكد أن هناك ألمانا طيبين، يبرز بوين افتقار برونو للمعرفة وعجزه عن فهم الأمور التي يراها ويسمعها ليوضح أن كثيرا من الألمان كانوا مثله غير مدركين لما يحدث. والعنوان الفرعي لرواية «الولد ذو البيجامة المخططة» يقول إنها قصة خيالية، ربما ليلتمس العذر لعدم دقة الحقائق المذكورة والأحداث التي لا تصدق، والنهاية الغامضة. وفي الرواية نجد أن برونو - الذي لم يتصرف دائما بنبل - يتمكن من زيارة شمويل على الجانب الآخر من السياج السلكي الذي كان يفصل بينهما حتى ذلك الوقت، وينتهي به الأمر بالذهاب مع شمويل إلى غرفة الغاز. فهل تكون لحظة موته هي أكثر اللحظات التي تصرف فيها بحماقة، أم أكثر اللحظات التي أحسن فيها التصرف؟ إن موت برونو يدمر أسرته، لكن هل يجعله ذلك نوعا من العدالة أو يمثل تعويضا لمئات الآلاف من اليهود الذين أبيدوا في المعسكر؟ هذا الكتاب أيضا شديد التعقيد من الناحية الأخلاقية.
المتاهة الأخلاقية في أدب الأطفال
تنتمي روايتا «روز بلانش» و«الولد ذو البيجامة المخططة» إلى فرع متنام من أدب الأطفال، والذي يظهر إلى أي مدى قد يكون الصغار ضحايا للأعمال الوحشية وشهودا عليها، وفي بعض الحالات تكون تلك الأعمال الوحشية من صنع أيديهم. رغم أن أفكار الصراع والإبادة الجماعية من الموضوعات القديمة، فإنها لا تزال حاضرة في الجدل الأخلاقي؛ والأمر نفسه ينطبق على المعرفة المحرمة. فمنذ أساطير بروميثيوس وأسطورة السقوط في جنة عدن وحتى رواية «فرانكنشتاين» (1818)، للكاتبة ماري شيلي، وما انحدر من نسلها من أعمال مماثلة، نجد أن القصص التي تحكي عواقب امتلاك البشر لمعرفة لا يمكنهم فهمها فهما كاملا أو السيطرة عليها تماما هي عناصر أساسية في التراث الأدبي الذي نحكيه باستمرار للأطفال. ومن الأمور الحديثة التي تركز عليها هذه القصص علم الاستنساخ، وقد ظهر في أدب الأطفال جنس أدبي فرعي لا ينفك عن النمو يتحدث عن قصص الاستنساخ، ويستكشف بعض التحديات الأخلاقية التي يطرحها هذا الجانب العلمي سريع التطور.
شكل 6-2: من رواية «الرجل» (1992) للكاتب رايموند بريجز. يقرر الرجل دقيق الحجم الذي يقدمه بريجز ألا يتم تجاهله أو الحكم عليه بطريقة نمطية سلبية بسبب صغر حجمه. تواجه القصة أيضا الأفكار النمطية السائدة عن النوع وتمكن الولد من اعتبار التربية والعناية سمة مشروعة من سمات الرجولة.
2
وباستشراف المستقبل في الوقت الذي يمكن فيه استنساخ البشر بالكامل، ستهتم كتب الأطفال بطرح سؤالين متصلين ببعضهما؛ السؤال الأول هو: إلى أي مدى يعتبر هذا المستنسخ شخصا حقيقيا؟ أما السؤال الثاني فهو: هل من الصواب عمل شخص مستنسخ من أجل الحصول على أعضاء وأجزاء الجسم منه لإصلاح و/أو تجديد الأعضاء والأجزاء الأصلية التي استنسخ منها؟ تعمد مصطلحات مثل «الحصول على أعضاء» إلى اعتبار المستنسخ شخصا أقل من البشر، لكن النصوص الأدبية كثيرا ما تحاول إضفاء صفة بشرية على المستنسخ بجعله شخصية محورية. وقد يقدم المستنسخ على أنه نسخة من الشخص الأصلي ليس أكثر، لكن القراء يتعرفون عليه كفرد مستقل له ذكرياته وتجاربه الخاصة. ومن هذا المنظور، يعتبر المستنسخ شبيها بأخ توأم أو جزء من مجموعة أجنة تكونت من بويضة واحدة، بدلا من اعتباره نسخة من أصل، وطريقة التفكير هذه تشجع على التعاطف مع المستنسخ.
وقد ينبع الارتباط بشخصية المستنسخ من حقيقة أنه أصغر سنا من الشخص الأصلي؛ ومن ثم فإنه يكون دائما شخصية قريبة من الأطفال.
كما تتناول الروايات المعاصرة للأطفال والشباب أيضا قضايا أقرب إلى تجربتهم وما يشغل بالهم من قضية الاستنساخ. فتشتمل الكتب للمراهقين الأكبر سنا الآن على قصص حول أشكال جديدة من التنمر عبر الإنترنت؛ فمثلا نجد أن رواية «فتيات طيبات» (2006) للكاتبة لورا روبي، تحكي عن فتاة صورتها زميلتها سرا وهي تمارس الجنس الفموي مع رفيقها. وانتشرت الصور عبر الإنترنت ورآها والداها ومدرسوها. في حين نجد أن شخصية المدرس هي المشكلة في رواية «الولد اللعبة» (2007) للكاتبة باري ليجا، والتي تحكي عن الصبي جوش الذي تعرض للإيذاء الجنسي من مدرسته وهو صغير، ويضطر إلى مواجهة إحساسه بالذنب والخوف عندما تخرج تلك المدرسة من السجن. وعلى صعيد آخر، ينتهي الحال ببطلة رواية «البحث عن جيه جيه» (2005) للكاتبة آن كاسيدي - وهي الطالبة جيه جيه - في السجن بعد أن قتلت صديقتها المقربة عندما كانتا في سن العاشرة، في حين يفلت زميل ميليندا الذي اغتصبها في الحفل من العقاب في رواية «تحدثي» (1999) للكاتبة لوري هالس أندرسون؛ لأن ميليندا تخشى فضح أمره. وفي رواية «الفتاة الميتة الحية» (2009) للكاتبة إليزابيث سكوت، نجد أن السجن هو مصير مختطف أليس الذي ظل يعتدي عليها على مدار خمس سنوات وهو يهددها بقتل أسرتها إذا لم تخضع لأوامره - التي من بينها إحضار فتاة أخرى صغيرة له بعد أن بدأ جسمها يدخل في مرحلة النضج - ومن ثم لا تجد أليس مهربا منه سوى الموت. وفي رواية «برسبوليس» - وهي رواية مصورة للكاتبة مارجان ساترابي، ترجمت في عام 2003 - تجد مارجان نفسها بين خيارين؛ ألا وهما موت والديها أو إلقاء القبض عليهما، فتتركهما في إيران وتبدأ حياة جديدة في أوروبا. وفي رواية «الرجل»، يستخدم الكاتب رايموند بريجز صيغة قصصية مشابهة لاستكشاف قضايا أخلاقية متعلقة بالحجم والجنس والتهميش. وتتساءل الكاتبة سوزان كولينز في ثلاثية «ألعاب الجوع» (2008-2010)، عما إذا كان من المقبول قتل المنافسين من أجل أن تعيش وتعول أسرتك؟ يبدو أنه ليست هناك حدود لنوعية المعضلات الأخلاقية التي يطرحها أدب الأطفال المعاصر، أو للطرق المختلفة التي تطالب القراء بالتمييز بين ما يرغبون في فعله، وما يستطيعون فعله، وما يجب عليهم فعله.
قد تشير القضايا التي يتناولها أدب الأطفال المعاصر إلى أن الفوارق التي تفصل بين الكتابة للكبار والكتابة للأطفال قليلة؛ فالفرق لا يكمن في الموضوع الذي يتم تناوله، بل في طريقة سرد القصص. وكقاعدة عامة، تميل كتب الأطفال والشباب إلى الغموض عند الإشارة إلى أفعال أو أحداث مزعجة، ويمكن للقراء ملء الفراغات وإضافة التفاصيل قدر استطاعتهم أو رغبتهم، لكن لا يطلب منهم إطلاقا مواجهة أمور وحشية أو إباحية. وهذه الحساسية تعد جزءا من فهم مستمر بين المؤلفين والقراء، وبين أهل ومدرسي هؤلاء القراء: ألا وهي أن أدب الأطفال سيقدم طريقة آمنة لاستكشاف الأفكار والمشكلات. من بين أول الموضوعات التي نوقشت في هذه «المقدمة القصيرة جدا» هو ما الذي يجعل أحد النصوص «مخصصا» للأطفال؛ فربما تكون هذه الاعتبارات الأخلاقية المرتبطة بالقراء الصغار الذين ليس لديهم خبرة إلى حد ما، هي المعيار الذي يحدد ما إذا كان هذا العمل ينتمي إلى مجال أدب الأطفال أم لا.
هوامش
مراجع وقراءات إضافية
مقدمة
In
vol. 126, January 2011, pp. 209-16, Marah Gubar details the problems that have resulted in a series of failed attempts to define children’s literature, suggests a definition is unnecessary for good scholarship, and proposes that such efforts be abandoned.
Walter Benjamin discusses children’s books in 'Old Forgotten Children’s Books’, in Marcus Bullock and Michael W. Jennings (eds.),
Walter Benjamin: Selected Writing, Vol. I, 1913-1926 (Cambridge, MA: Belknap of Harvard University Press, 1996 [1924]), pp. 406-13.
Works cited: Jacqueline Rose,
The Case of Peter
(London: Macmillan, 1984).
الفصل الأول: دراسة تاريخية موجزة عن النشر للأطفال باللغة الإنجليزية
More information about individual works, writers, printers, and publishers for children mentioned throughout can be found in the following, many of which are referred to in this chapter: Brian Alderson and Felix de Marez Oyens,
Be Merry and Wise: Origins of Children’s Book Publishing in England, 1650-1850 (London: British Library and New Castle; Delaware: Oak Knoll
Children’s Books in England: Five Centuries of Social Life (Cambridge: Cambridge University Press, 1982 [1932]); Humphrey Carpenter and Mari
The Oxford Companion to Children’s Literature (Oxford and New York: Oxford University Press, 1984); J. S. Bratton,
The Impact of Victorian Children’s Fiction (London: Croom Helm, 1981); Patricia Demers (ed.),
From Instruction to Delight: An Anthology of Children’s Literature to 1850 , 2nd edn. (Ontario: Oxford University Press, 2004); Peter Hunt (ed.),
Children’s Literature: An Illustrated History (Oxford and New York: Oxford University Press, 1995); Seth Lerer,
Children’s Literature: A Reader’s History from Aesop to Harry Potter (London and Chicago: University of Chicago Press, 2008); Percy Muir,
English Children’s Books, 1600-1900 (London: B. T. Batsford, 1954); John Rowe Townsend,
Written for Children: An Outline of English-Language Children’s Literature , 5th edn. (London: Bodley Head, 1995 [1965]); Jack Zipes (ed.),
The Oxford Encyclopedia of Children’s Literature (New York: Oxford University Press, 2006).
Digital versions of many early children’s books can be read at, for example, Eighteenth-Century Collections Online (information at http://gale.cengage.co.uk/product- highlights/history/eighteenthcentury-collections-online.aspx), the Hockcliffe Collection (http://www.cts.dmu.ac.uk/hockliffe/) and Project Gutenberg (http://www.gutenberg.org/catalog/).
The importance of radical Protestantism in relation to children’s literature is considered in C. John Sommerville,
The Discovery of Childhood in Puritan England (Athens, GA: University of Georgia Press, 1992).
For information about the materials made by Jane Johnson, see Evelyn Arizpe, Morag Styles, and Shirley Brice Heath,
Reading Lessons from the Eighteenth Century (Lichfield: Pied Piper Press, 2006).
Charles Lamb is quoted by Nicholas Tucker in
Suitable for Children? Controversies in Children’s Literature (London: Chatto & Windus for Sussex University Press, 1976), p. 116.
The quote from George Crabbe appears in Mary Trim, 'A Rediscovery of John Bunyan’s
A Book for Boys and Girls ’, in
International Review of Children’s Literature and Librarianship , 8.3, pp. 149-67, p. 150.
Attention to marginalia and other evidence of how books were used and valued by the child readers has been discussed by Brian Alderson and Felix de Marez Oyens (as above) and more by M. O. Grenby,
The Child Reader, 1700-1840 (Cambridge: Cambridge University Press, 2011).
Henry James’s views and their impact on children’s literature are discussed in Felicity A. Hughes, 'Children’s Literature: Theory and Practice’, in
Children’s Literature: The Development of Criticism (London and New York: Routledge, 1990 [1978]), pp. 71-90.
A useful discussion of 'the century of the child’ appears in Hugh Cunningham,
Children and Childhood in Western Society since 1500 (London: Longman, 1995).
The quote from Myles McDowell comes from 'Fiction for Children and Adults: Some Essential Differences’, in Geoff Fox (ed.),
Children’s Literature in Education , 4.1 (March 1973), pp. 50-63, p. 58.
were for children’ in 'Passing on the Past’,
Children’s Literature Association Quarterly , 21.4 (1996), pp. 200-2.
For details about reading levels and Potter’s books, see http:// americanenglishdoctor.com/wordpress/.
Rumer Godden’s invented exchange of letters between Beatrix Potter and an American publisher committed to simple language in children’s texts deserves to be read: 'An Imaginary Correspondence’, in
Horn Book Magazine , 38 (August 1963), pp. 197-206.
Works cited: Erik Erikson,
Childhood and Society (New York: W. W. Norton, 1993 [1950]); Maria Nikolajeva,
Subjectivity in Literature for Young Readers (London: Routledge, 2009);
The Hidden Adult: Defining Children’s Literature (Baltimore: Johns Hopkins University Press, 2008); Barbara Wall,
The Narrator’s Voice: The Dilemma of Children’s Fiction (London: Macmillan, 1991); Torben Weinreich,
Children’s Literature-Art or Pedagogy? (Copenhagen: Rothskilde University Press, 2000).
الفصل الثاني : لماذا تدرس كتب الأطفال وكيف؟
Discussions of the relationship between children’s literature and critical theory are contained in Peter Hunt,
Criticism, Theory and Children’s Literature (Oxford: Basil Blackwell, 1991); Roderick McGillis,
The Nimble Reader: Literary Theory and Children’s Literature (New York: Twayne, 1996); David Rudd (ed.),
The Routledge Companion to Children’s Literature (London and New York: Routledge, 2010) and David Rudd, 'Theorizing and Theories: The Conditions of Possibility of Children’s Literature’, in Peter Hunt (ed.),
International Companion Encyclopedia of Children’s Literature , 2nd edn. (London and New York: Routledge, 2004), where more detailed discussions of individual critical approaches can also be found.
The quote from T. S. Eliot is taken from Margaret Drabble’s
The Pattern in the Carpet: A Personal History with Jigsaws (London: Atlantic Books, 2009), p. 56.
The references from Spufford occur in the first chapter of
The Child that Books Built (London: Faber and Faber, 2002).
The quote from F. J. Harvey Darton (Alderson’s 1982 revised edition as above) appears on p. 260.
Emer O’Sullivan discusses Hazard and the founding of comparative children’s literature in Peter Hunt (ed., 2004), as above, pp. 13-25.
Discussions of the more open style of writing used by some writers when addressing children are found in Hamida Bosmajian, 'Psychoanalytic Criticism’, in
Child Loving: The Erotic Child and Victorian Culture (London: Routledge, 1992); Catherine Robson,
Men in Wonderland: The Lost Girlhood of the Victorian Gentleman (Princeton and Oxford: Princeton University Press, 2001), and Jacqueline Rose (as above).
For more on Jungian theory and children’s literature, see Susan Hancock,
The Child that Haunts Us: Symbols and Images in Fairy Tales and Miniature Literature (London and New York: Routledge, 2008).
Discussion of Jacqueline Rose’s
The Case of Peter
can be found in Karín Lesnik-Oberstein,
Children’s Literature: Criticism and the Fictional Child (Oxford: Clarendon Press, 1994); Kimberley Reynolds,
Radical Children’s Literature: Future Visions and Aesthetic Transformations (Basingstoke:
of Children’s Fiction: Rose Twenty-Five Years On’,
Children’s Literature Association Quarterly , 35.3 (2010).
For a detailed analysis of progressive children’s literature during the McCarthy era, see Julia L. Mickenberg,
Learning from the Left: Children’s Literature, the Cold War, and Radical Politics in the United States (New York: Oxford University Press, 2006).
The quote from Peter Hunt comes from 'How Not to Read a Children’s Book’, in
Children’s Literature in Education , 26.4 (1995), pp. 231-40, p. 239.
The quote from Aidan Chambers appears in Peter Hunt (ed.),
Children’s Literature: The Development of Criticism (London and New York: Routledge, 1990 [1985]), pp. 91-114, p. 91.
The quote from C. Walter Hodges is taken from David Rudd (2004) as above.
Comics Scholarship on the Net: A Brief Annotated Bibliography
is accessed at
http://www.dr-mel-comics.co.uk/sources/academic. html ).
Works cited: Brian Alderson and Felix de Marez Oyens,
Be Merry and Wise (as above); Bruno Bettelheim,
The Uses of Enchantment: The Meaning and Importance of Fairy Tales (London: Thames and Hudson, 1976); Aidan Chambers, 'The Reader in the Book’, in
Booktalk: Occasional Writing on Literature and Children (Stroud: Thimble Press, 1977), pp. 34-58; Karen Coats,
Looking Glasses and Neverlands: Lacan, Desire and Subjectivity in Children’s Literature (Iowa City: University of Iowa Press, 2004); F. J. Harvey Darton (see Brian Alderson, above); Jane Doonan,
Looking at Pictures in Picture Books (Stroud: Thimble Press, 1992); Stanley Fish,
Is There a Text in this Class? (Cambridge, MA: Harvard University Press, 1980); Gretchin R. Galbraith,
Reading Lives: Reconstructing Childhood, Books and Schools in Britain, 1870-1920 (New York: St Martin’s Press, 1997); M. O. Grenby, 'Children’s Literature: Birth, Infancy, Maturity’, in Janet Maybin and Nicola J. Watson (eds.) (2009) as below; D. W. Harding, 'Psychological Processes in the Reading of Fiction’, in
British Journal of Aesthetics
2, 2 (1962), pp. 113-47; Norman Holland,
5 Readers Reading (New Haven: Yale University Press, 1975); Peter Hollindale,
Signs of Childness in Children’s Books (Stroud: Thimble Press, 1997); Wolfgang Iser,
The Act of Reading: A Theory of Aesthetic Response (London: Routledge, 1978); U. C. Knoepflmacher and Mitzi Myers, '“Cross-Writing” and the Reconceptualizing of Children’s Literary Studies’,
Children’s Literature , 25 (New Haven: Yale University
Children’s Literature: Criticism and the Fictional Child (Oxford: Clarendon Press, 1994); David Lewis,
Reading Contemporary Picturebooks:
(London: Routledge Falmer, 2001); Scott McCloud,
Understanding Comics: The Invisible Art (New York: HarperCollins, 1993); Margaret Mackey,
Literacies Across Media: Playing the Text (London and New York: Routledge, 2007 [2002]); Kerry Mallan,
Gender Dilemmas in Children’s Fiction (Basingstoke: Palgrave Macmillan, 2009); Janet Maybin and Nicola J. Watson (eds.),
Children’s Literature: Approaches and Territories (Basingstoke: Palgrave Macmillan with the Open University, 2009); Margaret Meek, Aidan Warlow, and Griselda Barton (eds.),
The Cool Web: The Pattern of Children’s Reading (London: Random House, 1977); William Moebius, 'Introduction to Picturebook Codes’, in
Word and Image , 2, 2 (1986), pp. 63-6; Beverley Naidoo
Through Whose Eyes? Exploring Racism: Reader, Text and Context (Stoke-on-Trent: Trentham Books, 1992); Maria Nikolajeva (as above); Maria Nikolajeva and Carole Scott,
How Picturebooks Work (New York: Garland, 2001); Perry Nodelman,
Words about Pictures: The Narrative Art of Children’s Picture Books (Athens, GA: University of Georgia Press, 1988); Perry Nodelman, 'The Other, Orientalism, Colonialism, and Children’s Literature’, in
Children’s Literature Association Quarterly , 17.1 (1992), pp. 29-35; Nicholas Orme,
Medieval Children (New Haven: Yale University Press, 2001); Jacqueline Rose (as above); Louise Rosenblatt,
Literature as Exploration (New York: Appleton-Century, 1938); Margaret and Michael Rustin,
Narratives of Love and Loss: Studies in Modern Children’s Literature , revised edn. (London and New York: Karnac, 2001); Edward Said,
Orientalism (London: Routledge and Kegan Paul, 1978); Zohar Shavit,
The Poetics of Children’s Literature (Athens, GA: University of Georgia Press, 1986); Francis Spufford,
The Child that Books Built (London: Faber and Faber, 2002); John Stephens,
Language and Ideology in Children’s Fiction (London: Longman, 1992) and
Ways of Being Male: Representing Masculinity in Children’s Literature and Film (London: Routledge, 2002); Maria Tatar,
Enchanted Hunters: The Power of Stories in Childhood (New York: W. W. Norton, 2009); Nicholas Tucker,
The Child and the Book: A
(Cambridge: Cambridge University
الفصل الثالث: تحويل نصوص الطفولة
Discussions of the effects of new media on how children read and how new media are represented in children’s literature are found in Noga Applebaum,
Representations of Technology in Science Fiction for Young
(New York and London: Routledge, 2009); Peter Hunt, 'Futures for Children’s Literature: Evolution or Radical Break?’, in Peter Hunt (ed.),
Children’s Literature: Critical Concepts in Literary and Cultural Studies, Vol. 1 (London: Routledge, 2006), pp. 237-45; Gunther Kress,
Literacy in the New Media Age (London: Routledge, 2003); Sonia Livingstone,
Young People and New Media (London: Sage, 2002).
The quotes from Henry Jenkins’s
Convergence Culture: Where Old and New Media Collide (New York and London: New York University Press, 2008 [2006]) appear on pp. 186, 2, and 21. 'Remediation’ is a term coined by Jay David Bolter and Richard Grusin in
Remediation: Understanding New Media (Cambridge, MA, and London: MIT Press, 1999). For a discussion of remediation in relation to children’s literature, see Lisa Sainsbury, 'Rousseau’s Raft: The Remediation of Narrative in Romain Victor-Pujebet’s CD-ROM Version of
Robinson Crusoe ’, in Fiona M. Collins and Jeremy Ridgman (eds.),
Turning the Page: Children’s Literature in Performance and the Media (Bern: Peter Lang, 2006), pp. 207-26.
The quote from Button Sound Books is found at http://www.buttonsoundbook.com.
For more on the narrative qualities of
Assassin’s Creed I
and
II , see Marcello Arnaldo
Games of the Twenty-First Century’, unpublished M.Litt thesis for Newcastle University, UK, 2010.
Works cited: Andrew Burn, 'Multi-Text Magic: Harry Potter in Book, Film and Videogame’, in Fiona M. Collins and Jeremy Ridgman (eds.),
Turning the Page: Children’s Literature in Performance and the Media (Bern: Peter Lang, 2006), pp. 227-49, and 'Potterliteracy: Cross-Media Narratives, Cultures and Grammars’, in
Children’s Literature , 14.2 (2004), pp. 5-17; Margaret Mackey, 'Media Adaptations’, in David Rudd (ed., 2010) as above, pp. 112-24; Maria Tatar, as above; Jacquelyn Ford Morie and Celia Pearce, 'Uses of Digital Enchantment: Computer Games as the New Fairy Tales’ (n.d.) can be read online at
http://www.lcc.gatech.edu/~cpearce3/PearcePubs/ MoriePearceFROG-FINAL.pdf (accessed 04/11/2010).
الفصل الرابع: الأجناس الأدبية والأجيال: القصة العائلية مثالا
Details of the development of the individual genres discussed are found in Peter Hunt (ed., 2004) as above; discussions of the family/domestic story are found in M. O. Grenby,
Edinburgh Critical Guide: Children’s Literature (Edinburgh: Edinburgh University Press, 2008); Nicholas Tucker and Nikki Gamble,
Family Fictions (London: Continuum, 2001).
For a discussion of children’s literature as a genre, see Perry Nodelman (2008) as above.
The quote from Jacqueline Rose (1984, as above) appears on p. 44.
Works cited: Kimberley Reynolds (2007) as above; Andrew O’Malley,
The Making of the Modern Child: Children’s Literature and Childhood in the Late Eighteenth Century (New York and London: Routledge, 2003).
الفصل الخامس: رؤى للمستقبل
Works that raise questions about messages contained in children’s literature include: Herbert R. Kohl,
Should We Burn Babar?: Essays on Children’s Literature and the Power of Stories (New York: The New Press, 1995), and Joseph Zornado,
Inventing the Child: Culture, Ideology and the Story of Childhood (London: Garland, 2000). A detailed study of recent dystopian children’s fiction is Clare Bradford, Kerry Mallan, John Stephens, and Robyn McCallum,
New World Orders in Contemporary Children’s Literature: Utopian Transformations (Basingstoke: Palgrave Macmillan, 2008).
The quote is from Chapter 26 of
Uncle Tom’s Cabin .
The quote from Trease is from the 2009 edition (London: Elliott and Thompson), p. 102.
The quotes from Mitchison appear on pp. 5 and 11.
Other works that show adolescents as victimized include Gillian Rubenstein’s
Galax-Arena (1992), Koushun Takemi’s
Battle Royale (1999, also released as a film and serialized in manga form), and Suzanne Collins’s
Hunger Games
trilogy (2008-10).
Works cited: Farah Mendlesohn,
The Inter-Galactic
(Jefferson, NC: McFarland, 2009); Julia Mickenberg (2006), as above; Julia Mickenberg and Philip Nel (eds.),
Tales for Little Rebels: A Collection of Radical Children’s Literature (New York: New York University Press, 2008); Ted Nordhaus and Michael Shellenberger,
Break Through: From the Death of Environmentalism to the Politics of Possibility (Boston: Houghton Mifflin, 2007).
الفصل السادس: الجدل الأخلاقي في أدب الأطفال
Italian Fascism and children’s literature are discussed in Lindsay Myers, 'Meo’s Fists-Fighting For or Against Facism? The Subversive Nature of Text and Image in Giovanni Bertinetti’s
I pugni de Meo ’, in
International Research in Children’s Literature , 1.1 (2008), pp. 1-15.
The quote from
The New Pioneer Story Book
is taken from Paul C. Misher, 'Communism for Kids: Class, Race and Gender in Communist Books in the United States’, in Anne Lundin and Wayne A. Wiegand (eds.),
Defining Print Culture for Youth: The Cultural Work of Children’s Literature (Westport, CT: Libraries Unlimited, 2003), pp. 27-41, p. 31.
Lisa Sainsbury is currently writing a monograph on the relationship between philosophical thinking and children’s literature. She explores aspects of this material in 'A Boy’s Duty: Ethics and Masculinity in B.B.’s
Brendon Chase
and Nina Bawden’s
The Real Plato Jones’ , in Paola Bottala and Monica Santini (eds.),
What Are Little Boys and Girls Made Of? (Padua: Unipress, 2009), pp. 67-85.
For more on the similarities between children, servants, and animals, see Seth Lerer (2008) as above, and Kristina Straub, 'In the Posture of Children’, in Andrea Immel and Michael Witmore (eds.),
Childhood and Children’s Books in Early Modern Europe, 1550-1800 (New York and London: Routledge, 2006), pp. 127-52.
The quote from Mao Tse-tung is taken from Hsing, Chia Hui, 'Gained in Translation: The Effects of Translators’ Gender on English-Language Children’s Literature as Translated in China and Taiwan’, unpublished PhD thesis submitted to the University of Newcastle, UK, 2011, p. 15.
For discussions of writing about the Holocaust for children, see Hamida Bosmajian,
Sparing the Child: Grief and the Unspeakable in Youth Literature about Nazism and the Holocaust (New York: Routledge, 2002); Adrienne Kertzer,
My Mother’s Voice: Children, Literature and the Holocaust (Peterborough, Ontario: Broadview Press, 2001); Lydia Kokola, 'Holocaust Narratives and the Ethics of Truthfulness’, in
Bookbird , 45.4 (2007), pp. 5-12.
Works cited: Roberta Seelinger Trites,
Disturbing the Universe: Power and Repression in Adolescent Literature (Iowa City: University of Iowa Press, 2000); Maria Nikolajeva (2009) as above.
ناپیژندل شوی مخ