Adab al-Ikhtilaf fi al-Islam
أدب الاختلاف في الإسلام
خپرندوی
المعهد العالمي للفكر الإسلامي
د خپرونکي ځای
فيرجينيا - الولايات المتحدة الأميريكية
ژانرونه
أدب الاختلاف في الاسلام
الدكتور طه جابر فياض العلواني
تقديم
بقلم: عمر عبيد حسنة
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور انفسنا وسيئات اعمالنا من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، واشهد ان لا اله الا الله وان محمدا ﷺ عبده ورسوله، وبعد:
فهذا الكتاب التاسع في سلسلة «كتاب الامة» التي تصدرها رئاسة المحاكم الشرعية والشؤون الدينية بدولة قطر «ادب الاختلاف في الاسلام» للدكتور جابر فياض العلواني، يأتي مساهمة جديدة في تحقيق الوعي الثقافي ومحاولة لراب الصدوع في البناء الاسلامي، ومعالجة جذور الازمة الفكرية التي اورثتنا الخلاف والتآكل الداخلي، وايقاظ البعد الايماني في نفوس المسلمين بعد ان كاد يغيب عن حكم علاقاتنا وتوجيهها الوجهة الصحيحة بسبب من الفهم المعوج والممارسات المخطئة ومن ضغوط المجتمعات غير الاسلامية، ذلك ان حضور البعد الايماني وتحقق الفهم السليم هو الضمانة الحقيقية لشرعية علاقاتنا، والملاذ الاخير لتصفية خلافاتنا ونزع اغلال قلوبنا. فقد يكون نصيبنا من العلم والمعرفة ليس بالقليل. لكن المشكلة التي نعاني منها اليوم اننا افتقدنا الموجه الصحيح والمؤشر الضروري الذي يمنحنا السلامة ويكسبنا الصواب لهذا العلم وتلك المعرفة، اننا اكتسبنا المعرفة وافتقدنا خلقها، وامتلكنا الوسيلة وضيعنا الهدف والغاية، وما اكثر ما فوتت علينا خلافاتنا حول مندوب او مباح امر مفروضا او واجبا، لقد اتقنا فن الاختلاف وافتقدنا آدابه والالتزام باخلاقياته، فكان ان سقطنا فريسة التآكل الداخل والتنازع الذي اورثنا هذه الحياة الفاشلة وادى الى ذهاب الريح، قال تعالى:
«ولاتنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم» «الانفال: ٢٦»
ولقد حذرنا الله تعالى من السقوط في علل اهل الاديان السابقة، وقص علينا تاريخهم للعبرة والحذر، فقال:
«ولاتكونوا من المشركين، من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا. كل حزب بما لديهم فرحون» «الروم:٣١ـ٣٢» . واعتبر الاختلاف الذي يسبب الافتراق والتمزق ابتعادا عن أي هدي للنبوة او انتساب لرسولها ﷺ حين قال تعالى: «ان الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء ... .» «الانعام:١٥٩» . ذلك ان اهل الكتاب لم يؤتوا من قلة علم وضآلة معرفة، وانما كان هلاكهم لانهم وظفوا ما عندهم من علوم ومعارف للبغي بينهم، قال تعالى: «وما اختلف الذين اوتوا الكتاب الا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ...» «آل عمران:١٩» .
فهل ورثنا علل اهل الكتاب بدل ان نرث الكتاب؟ وهل ورثنا البغي بدل ان نرث العلم والمعرفة ونلتزم باخلاقهما؟ ان الاختلاف والبغي وتفريق الدين من علل اهل الكتاب التي كانت سببا في هلاكهم ونسخ اديانهم وبقاء قصصهم وسائل ايضاح للدرس والعبرة لمن ورثوا الكتاب والنبوة، ذلك انه لاسبيل للاستبدال والنسخ في عالم المسلمين، وهم اصحاب الرسالة الخاتمة، وانما هي الامراض التي لاتقضي على الجسم نهائيا، فاما ان تستمر فتعيش الامة حالة الوهن الذائب، واما ان تعالج فيكون التصويب، وتكون المعافاة، ويكون النهوض وايقاف التآكل الداخلي، وهذا من خصائص الرسالة الخاتمة. ان ما يعانيه عالم المسلمين اليوم لايخرج عن ان يكون اعراضا للمشكلة الثقافية وخللا في البنية الفكرية التي يعيشها العقل المسلم، وآثارا للازمة الاخلاقية التي يعاني منها السلوك المسلم، وما من سبيل الى خروج الا بمعالجة جذور الازمة الفكرية وتصويب الفهم واعادة صياغة السلوك الخلقي، كضمانة ضرورية، والا كنا كالذي يضرب في حديد بارد. ولاشك ان الاختلاف في وجهات النظر وتقدير الاشياء والحكم عليها امر فطري طبيعي، له علاقة بالفروق الفردية الى حد بعيد، اذ يستحيل بناء الحياة وقيام شبكة العلاقات الاجتماعية بين الناس اصحاب القدرات الواحدة والنمطية الواحدة، ذلك ان الاعمال الذهنية والعملية تتطلب مهارات متفاوتة، وكأن حكمة الله تعالى اقتضت ان يكون بين الناس بفروقهم الفردية سواء أكانت خلقية ام مكتسبة بين الاعمال في الحياة تواعد والتقاء، وكل ميسر لما خلق له، وعلى ذلك فالناس مختلفون، والمؤمنون درجات، فمنهم الظالم لنفسه، ومنهم المقتصد، ومنهم السابق بالخيرات الخ ... «ولو شاء ربك لجعل الناس امة واحدة ولا يزالون مختلفين» «هود:١١٨» .
وهنا نقول: ان الاختلاف بوجهات النظر بدل ان يكون ظاهرة صحة تغني العقل المسلم بخصوبة في الرأي، والاطلاع على عدد من وجهات النظر، ورؤية الامور من ابعادها وزواياها كلها، واضافة عقول الى عقل، انقلب عند مسلم عصر التخلف الى وسيلة للتآكل الداخلي والانهاك، وفرصة للاقتتال، حتى كاد الامر ان نصل ببعض المختلفين الى حد التصفية الجسدية، والى الاستنصار والتقوي باعداء الدين على صاحب الرأي المخالف، ولهذا في التاريخ القريب والبعيد شواهد، فكثيرا ما يعجز الانسان عن النظرة الكلية السوية للامور، والرؤية الشاملة للابعاد المتعددة فيقبع وراء جزئية يضخمها ويكبرها حتى تستغرقه الى درجة لايمكن معها ان يرى شيئا آخر، او انسانا يرى رأيا آخر، وقد تصل به الى ان يرى بمقايسات محزنة اعداء الدين اقرب اليه من المخالفين له بالرأي من المسلمين الذين يلتقون معه على اصول العقيدة نفسها ... ولعل في الحادثة التاريخية الشهيرة ذر الاختلاف بقرنه، وفقد آدابه، وفرقت بعض طوائف الامة المسلمة دينها الجامع ما يلقي بعض الاضواء التي قد تكون ذات مغزى لحياتنا اليوم الى حد بعيد.. «يروى ان واصل بن عطاء اقبل في رفقة فاحسوا الخوارج فقال واصل لاهل الرفقة: ان هذا ليس من شانكم، فاعتزلوا ودعوني واياهم.، وكانوا قد اشرفوا على العطب. فقالوا: شانك. فخرج اليهم، فقالوا: ما انت واصحابك؟ قال: مشركون مستجيرون ليسمعوا كلام الله ويعرفوا حدوده. فقالوا: قد اجرناكم، قال: فعلمونا. فجعلوا يعلمونه احكامهم، وجعل يقول: قد قبلت انا ومن معي. قالوا: فامضوا مصاحبين فانكم اخواننا. قال: ليس ذلك لكم، قال الله ﵎: «وان احد من المشركين استجارك فاجره حتى يسمع كلام الله ثم ابلغه مأمنه٠٠» فابلغونا مامننا، فنظر بعضهم الى بعض ثم قالوا ذاك لكم. فساروا باجمعهم حتى بلغوا المأمن «الكامل في اللغة والادب للمبرد:٢/١١٢» .
لقد وصلت حدة الاختلاف الى مرحلة اصبح المشرك معها يامن على نفسه عند بعض الفرق الاسلامية التي ترى انها على الحق المحض اكثر من المسلم المخالف لها بوجهة النظر والاجتهاد، حيث اصبح لاسبيل معها للخلاص من التصفية الجسدية الا باظهار صفة الشرك. انه الاختلاف الذي يتطور ويتطور وتتعمق اخاديده فيسيطر على الشخص ويمتلك عليه حواسه الى درجة ينسى معها المعاني الجامعة والصيد المشترك الذي يلتقي عليه المسلمون، ويعدم صاحبه الابصار الا للمواطن التي تختلف فيها وجهات النظر، وتغيب عنه ابجديات الخلق الاسلامي، فتضطرب الموازين، وينقلب عنده الظني الى قطعي، والمتشابه الى محكم، وخفي الدلالة الى واضح الدلالة، والعام الى خاص، وتستهوي النفوس العليلة مواطن الخلاف، فتسقط، في هاوية تكفير المسلمين، وتفضيل غيرهم من المشركين عليهم ... وقد تنقلب الآراء الاجتهادية والمدارس الفقهية التي محلها اهل النظر والاجتهاد، على ايدي المقلدين والاتباع الى ضرب من التحزب الفكري، والتعصب السياسي، والتخريب الاجتماعي تؤول على ضوئه آيات القرآن واحاديث الرسول ﷺ فتصبح كل آية او حديث لاتوافق هذا اللون من التحزب الفكري اما مؤولة او منسوخة، وقد يشتد التعصب ويشتد فتعود الينا مقولة الجاهلية: «كذاب ربيعة افضل من صادق مضر ...» . ولعل مرد معظم اختلافاتنا اليوم الى عوج في الفهم تورثه علل النفوس من الكبر والعجب بالرأي، والطواف حول الذات والافتتان بها، واعتقاد ان الصواب والزعامة وبناء الكيان انما يكون باتهام الآخرين بالحق وبالباطل، الامر الذي قد يتطور حتى يصل الى فجور في الخصومة والعياذ بالله تعالى. اننا قلما ننظر الى الدخل، لان الانشغال بعيوب الناس، والتشهير بها، والاسقاط عليها، لم يدع لنا فرصة التأمل في بنائنا الداخلي، والاثر يقول: «طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس» .
لقد اختلف السلف الصالح رضوان الله عليهم، لكن اختلافهم في الرأي لم يكن سببا لافتراقهم، انهم اختلفوا لكنهم لم يتفرقوا، لان وحدة القلوب كانت اكبر من ان ينال منها شيء، انهم تخلصوا من العلل النفسية وان اصيب بعضهم بخطأ الجوارح، وكان الرجل الذي بشر الرسول ﷺ الصحابة بطلعته عليهم واخبرهم انه من اهل الجنة، هو الذي استكنهوا امره وعمله فتبين انه لاينام وفي قلبه غل على مسلم ... اما نحن اليوم فمصيبتنا في نفوسنا وقلوبنا، لذلك فان معظم مظاهر التوحد والدعوة اليه والانتصار له انما هي عبارة عن مخادعة للنفس، ومظاهر خارجية قد لا نختلف فيها كثيرا عن غيرنا والله تعالى يقول: «وذروا ظاهر الاثم وباطنه» «الانعام:١٢٠» . فالعالم الاسلامي بعد ان كان دولة واحدة تدين بالمشروعية العليا لكتاب الله تعلى وسنة رسوله اصبح اليوم سبعا وثمانين دويلة او يزيد، والاختلافات بينهم لايعلم مداها لا الله، وكلها ترفع شعارات الوحدة، بل قد توجد ضمن الدولة الواحدة كيانات عدة. وليس واقع بعض العاملين للاسلام اليوم الذين تناط بهم مهمة الانقاذ احسن حالا من مؤسساتهم الرسمية ... ان ازمتنا ازمة فكر، ومشكلتنا في عدم صدق الانتماء، والامة المسلمة عندما سلم لها عالم افكارها، وكانت المشروعية العليا الاساسية في حياتها للكتاب والسنة استطاعت ان تحمل رسالة وتقيم حضارة على الرغم من شظف العيش وقسوة الظروف المادية، فكان مع العسر يسر ... ذلك ان الحيدة عن الكتاب والسنة موقع في التنازع والفشل، قال تعالى. «واطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم ...» «الانفال:٤٦» . لقد اوقف الاسلام التشرذم والتآكل الداخلي ووجه العرب وجهة الاله الواحد الحق والغى الآلهة المزيفة حيث كان لكل قبيلة الهها الذي تتجه اليه. اما المسلمون اليوم في مواقعهم الكثيرة فانهم لا يشكون من قلة المادة وتوفر الاشياء، ومع ذلك انقلبوا الى امة مستهلكة على
مستوى الافكار والاشياء معا لانهم افتقدوا المعاني الجامعة والقواسم المشتركة، وغابت عنهم المشروعية الكبرى في حياتهم، واصاب الخلل بنيتهم الفكرية. من هنا نقول: لابد من اعادة الصياغة، واعادة الترتيب المفقود لفكر المسلم، ولا سبيل الى ذلك الا بالرجوع الى كتب الاصول، حيث وضع علماؤنا الضوابط والقواعد للمقايسة والاستنتاج لضبط الرأي وضمان مساره، واقتران العلم عندهم باخلاقه ... وتنمية الدراسات التي تؤكد وحدة الامة وقواسمها المشتركة، والمنهج التربوي الذي يسلحها باخلاق المعرفة، وابراز النقاط الجامعة واعتبار فترات الرفض والخروج وكتب الخلافات حالات مرضية لايعتد بها. من هنا ياتي هذا الكتاب في وقت احوج ما يكون المسلمين اليه، ومساهمة طيبة في اغناء هذا الموضوع الهام والخطير حيث يبصر المثقف المسلم بشكل عام بشيء من مناهج العلماء في الاستنباط، وبالاصول التي بنى عليها هؤلاء العلماء اجتهاداتهم ومبتنى اختلافاتهم، ليعلم ان هذه الاختلافات انما تحكمها ضوابط وقواعد واصول لايحسنها كل من اراد التطاول على الاجتهاد دون امتلاك اداته، وتنتظمها اخلاق وآداب، يحفظها من الجنوح والخروج وازع ديني ...
لقد قدم نماذج على ارفع المستويات من سيرة السلف الصالح للاقتداء والتأسي قبل ان تنقلب المدارس الاجتهادية على ايدي المقلدة مذاهب سياسية وتحزبات فكرية، وقد اعان المؤلف على ذلك تخصصه في العلوم الاسلامية واصول الفقه، ولا شك ان الكتاب في بعض جوانبه قد غلبت عليه الصفة العلمية الاكاديمية، ولا شك عندنا انها ضرورة لازمة، خاصة بالنسبة لاولئك المثقفين من المسلمين بشكل عام الذين لم تتح لهم ظروفهم الاطلاع على شيء من الاصول الشرعية، لذلك يمكن القول: ان هذا الكتاب يمكن ان يكون كتابا معلما الى حد بعيد، وان كنا نعتقد ان الاطلاع على هذه المناهج والآداب لا يكفي لحل مشكلة المسلمين ومعالجة ازمتهم الفكرية، بل لابد مع ذلك من التربية العملية والتدرب على آداب الخلاف والاخلاق التي يجب ان تحكمه ... ولا يفوتنا هنا ان نشيد بالروح الاسلامية في الاخوة والتعاون التي لمسناها من المعهد العالمي للفكر الاسلامي بواشنطن حيث آثرنا بهذا الكتاب ليكون في سلسلة «كتاب الامة» ايمانا منه بوحدة الغاية والقصد، والله نسأل ان يلهم الجميع الاخلاص في العمل والسداد في الرأي، انه الهادي الى سواء السبيل.
المقدمة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه من دعا بدعوته واهتدى أتهديه الى يوم الدين، وبعد: فان امراض المسلمين في عصرنا هذا قد تعددت وتشعبت وفشت حتى شملت جوانب متعددة من شؤونهم الدينية والدنيوية، ومن العجيب ان الامة المسلمة لا تزال على قيد الحياة، لم تصب منها تلك الادواء بحمد الله مقتلا على كثرتها وخطورتها، وكان بعها كفيلا بابادة امم وشعوب لم تغن عنها كثرتها ولا وفرة مواردها، ولعل مرد نجاة هذه الامة الى هذا اليوم رغم ضعفها هو وجود كتاب ربها وسنة نبيها عليه افضل الصلاة والتسليم بين ظهرانيها ثم دعوة نبيها ﷺ واستغفار الصالحين من ابنائها «وما كان الله ليعذبهم وانت فيهم، وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون» «الانفال:٣٣» . وان من اخطر ما اصيبت به هذه الامة في الآونة الاخيرة مرض «الاختلاف والمخالفة» ... الاختلاف في كل شيء، وعلى كل شيء، حتى شمل العقائد والافكار والتصورات والآراء الى جانب الاذواق والتصرفات والسلوك والاخلاق، وتعدى الاختلاف كل ذلك حتى بلغ اساليب الفقه، وفروض العبادات وكأن كل ما لدى هذه الامة من اوامر ونواه يحثها على الاختلاف او يدفعها اليه والامر عكس ذلك تماما، فان كتاب الله وسنة رسوله ﷺ ما حرصا على شيء بعد التوحيد حرصهما على تأكيد وحدة الامة، ونبذ الاختلاف بين ابنائها، ومعالجة كل ما من شانه ان يعكر صفو العلاقة بين المسلمين، او يخدش اخوة المؤمنين، ولعل مبادئ الاسلام ما نددت بشيء بعد الاشراك بالله تنديدها باختلاف الامة، وما حضت على امر بعد الايمان بالله حضها على الوحدة والائتلاف بين المسلمين. واوامر الله ورسوله واضحة في دعوتها لايجاد الامة التي تكون كالجسد الواحد اذا اشتكى بعضه اصابه الوهن كله.
ولكن رسالة الاسلام مع ذلك رسالة واقعية تتعامل مع الانسان على ما هو عليه، وخالق الانسان ﵎ يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير، فقد وهب لعباده عقولا ومقدرات متباينة من شانها ان تؤدي الى اختلاف في نظرتهم وافكارهم ومواقفهم من كثير من الاشياء، ولذلك فان الاسلام يتسع الى تلك الاختلافات كلها التي لا تهدد وحدة الامة، فيكفي ان تتفق الآراء، وتلتقي التصورات، وتتوحد المواقف ازاء القضايا الكبرى والقواعد الاساسية، اما ما عداها من امور فرعية، وقضايا ثانوية مما يساعد اختلاف الرأي فيها على الجنوح يحو الافضل والامثل فلا ضير فيه على ان يكون لهذا الاختلاف ضوابطه وحدوده، وقواعده وآدابه، والا يؤثر على وحدة فكر الامة ومواقفها من القضايا الاساسية الكبرى. فما حقيقة الاختلاف؟ وما الحدود التي لايجوز تجاوزها فيه؟ وما اسبابه؟ وما القدر المسموح به منه؟ وما ضوابطه وآدابه؟ وما السبيل للتخلص من سلبياته؟ هذا ما سنحاول بحثه في هذه المعالجة، ان شاء الله تعالى. ونظرا لتعدد جوانب هذا الموضوع فقد تنوعت مصادره فله جانب منطقي جدلي تكفلت ببحثه الكتب المنطقية الخاصة بآداب البحث والمناظرة (١) . _________ (١) وذلك مثل متن آداب البحث: لعضد الدين الإيجي المتوفى سنة (٧٥٦هـ) وهو متن صغير، شرحه كثيرون. وهناك منظومة لزين الدين المرصفي المتوفى سنة (١٣٠٠ هـ) نظم فيها جملة آداب البحث والمناظرة كما ان لـ: طاش كبرى زاده المتوفى سنة (٩٦٨هـ) وصاحب الكتاب المعروف في تصنيف العلوم المسمى بـ «مفتاح السعادة» منظومة في هامة في هذا الفن، بين فيها حقيقة المناظرة وآدابها وحصرها بتسعة، كما بين ما يطلب من السائل والمعلل من الآداب أثناء المناظرة، وهناك كتاب الفه السيد محمد الأمين الشنقيطي الجكني في هذا الموضوع لطلبة الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة.
وله جانب اصولي تناولته الكتب الاصولية التي تعرضت لمباحث اسباب الاختلاف (٢) . كما تعرض الاصوليون له في بعض مباحث القياس (٣)، وله جانب فقهي يرد في ثنايا الكتب التي عنيت بالبحث في مجال «الفقه المقارن» او ما يسمى بكتب «الخلافيات» . _________ (٢) من هذه الكتب: (أ) كتاب «التنبيه على الأسباب التي أوجبت الاختلاف بين المسلمين في آرائهم ومذاهبهم واعتقاداتهم، لأبي عبد الله بن محمد السيد البطليوسي المتوفى سنة (٥٢١ هـ) وقد طبع في القاهرة مرتين، الأخيرة منها صدرت في دار الاعتصام، بتحقيق وتعليق الأستاذين الدكتور أحمد حسن كحيل والدكتور حمزة عبد الله النشرتي. (ب) كتاب «رفع الملازم عن الأئمة الأعلام» لشيخ الإسلام ابن تيمية المتوفى سنة (٧٢٨ هـ) وقد طبع طبعات عدة في مصر والشام والهند والمملكة العربية السعودية، وهو مشهور متداول. (ج) كتاب «الإنصاف في بيان الاختلاف في الأحكام الفقهية» لشاه ولي الله أحمد بن عبد الرحيم الفاروقي الدهلوي المتوفى سنة (١١٧٦ هـ) وقد طبع مفردا عدة مرات، كما طبع ضمن كتابه القيم «حجة الله البالغة» كما أن هناك كثيرا من المحدثين، قد كتبوا في هذا الجانب الهام من الجوانب الأصولية الفقهية منها: * الشيخ علي الخفيف ﵀ الذي كتب كتابه «أسباب اختلاف الفقهاء» كما كتب الأستاذ مصطفى إبراهيم الزلمي رسالته للدكتوراه في «أسباب اختلاف الفقهاء في الأحكام الشرعية» . * وكذلك الدكتور: مصطفى سعيد الخن رسالته في «أثر الاختلاف في القواعد الأصولية في اختلاف الفقهاء» . * والدكتور عبد الله التركي رسالته للماجستير في «اسباب اختلاف الفقهاء» كما تناول الدكتور مصطفى البغا في رسالته للدكتوراه «أثر الأدلة المختلف فيها» وكتب محمد أبو الفتح البيانوني كتابه: «دراسات في الاختلافات الفقهية» كما كتب الشيخ عبد الجليل عيسى كتابه: «ما لا يجوز الاختلاف فيه بين المسلمين» . (٣) ويمكن مراجعة ذلك في المباحث المتعلقة بقواعد العلة والأسئلة الواردة على القياس.
واما الآداب فيمكن الحصول على امثلتها ونماذجها من كتب الطبقات والتراجم والمناظرات والتاريخ وغيرها. وقد حاولنا في هذا البحث ان نستفيد من جميع المصادر، كما اننا رتبناه على مقدمة وستة فصول وخاتمة، ثم اردفنا ذلك بمسرد للهوامش والحواشي والتعليقات لرغبتنا ان يكون كل ما اوردناه فيه موثقا، منسوبا الى مصادره، واعقبنا ذلك كله بفهرس للموضوعات، ونسأل الله التوفيق والسداد وان يجمع كلمة المسلمين، ويوجد بين قلوبهم على حبه، وحب رسوله ﷺ ويؤلف بينهم، ويزيل اسباب النفرة والخلاف.. انه سميع مجيب. الدكتور طه جابر فياض العلواني
«ولاتكونوا من المشركين، من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا. كل حزب بما لديهم فرحون» «الروم:٣١ـ٣٢» . واعتبر الاختلاف الذي يسبب الافتراق والتمزق ابتعادا عن أي هدي للنبوة او انتساب لرسولها ﷺ حين قال تعالى: «ان الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء ... .» «الانعام:١٥٩» . ذلك ان اهل الكتاب لم يؤتوا من قلة علم وضآلة معرفة، وانما كان هلاكهم لانهم وظفوا ما عندهم من علوم ومعارف للبغي بينهم، قال تعالى: «وما اختلف الذين اوتوا الكتاب الا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ...» «آل عمران:١٩» .
فهل ورثنا علل اهل الكتاب بدل ان نرث الكتاب؟ وهل ورثنا البغي بدل ان نرث العلم والمعرفة ونلتزم باخلاقهما؟ ان الاختلاف والبغي وتفريق الدين من علل اهل الكتاب التي كانت سببا في هلاكهم ونسخ اديانهم وبقاء قصصهم وسائل ايضاح للدرس والعبرة لمن ورثوا الكتاب والنبوة، ذلك انه لاسبيل للاستبدال والنسخ في عالم المسلمين، وهم اصحاب الرسالة الخاتمة، وانما هي الامراض التي لاتقضي على الجسم نهائيا، فاما ان تستمر فتعيش الامة حالة الوهن الذائب، واما ان تعالج فيكون التصويب، وتكون المعافاة، ويكون النهوض وايقاف التآكل الداخلي، وهذا من خصائص الرسالة الخاتمة. ان ما يعانيه عالم المسلمين اليوم لايخرج عن ان يكون اعراضا للمشكلة الثقافية وخللا في البنية الفكرية التي يعيشها العقل المسلم، وآثارا للازمة الاخلاقية التي يعاني منها السلوك المسلم، وما من سبيل الى خروج الا بمعالجة جذور الازمة الفكرية وتصويب الفهم واعادة صياغة السلوك الخلقي، كضمانة ضرورية، والا كنا كالذي يضرب في حديد بارد. ولاشك ان الاختلاف في وجهات النظر وتقدير الاشياء والحكم عليها امر فطري طبيعي، له علاقة بالفروق الفردية الى حد بعيد، اذ يستحيل بناء الحياة وقيام شبكة العلاقات الاجتماعية بين الناس اصحاب القدرات الواحدة والنمطية الواحدة، ذلك ان الاعمال الذهنية والعملية تتطلب مهارات متفاوتة، وكأن حكمة الله تعالى اقتضت ان يكون بين الناس بفروقهم الفردية سواء أكانت خلقية ام مكتسبة بين الاعمال في الحياة تواعد والتقاء، وكل ميسر لما خلق له، وعلى ذلك فالناس مختلفون، والمؤمنون درجات، فمنهم الظالم لنفسه، ومنهم المقتصد، ومنهم السابق بالخيرات الخ ... «ولو شاء ربك لجعل الناس امة واحدة ولا يزالون مختلفين» «هود:١١٨» .
وهنا نقول: ان الاختلاف بوجهات النظر بدل ان يكون ظاهرة صحة تغني العقل المسلم بخصوبة في الرأي، والاطلاع على عدد من وجهات النظر، ورؤية الامور من ابعادها وزواياها كلها، واضافة عقول الى عقل، انقلب عند مسلم عصر التخلف الى وسيلة للتآكل الداخلي والانهاك، وفرصة للاقتتال، حتى كاد الامر ان نصل ببعض المختلفين الى حد التصفية الجسدية، والى الاستنصار والتقوي باعداء الدين على صاحب الرأي المخالف، ولهذا في التاريخ القريب والبعيد شواهد، فكثيرا ما يعجز الانسان عن النظرة الكلية السوية للامور، والرؤية الشاملة للابعاد المتعددة فيقبع وراء جزئية يضخمها ويكبرها حتى تستغرقه الى درجة لايمكن معها ان يرى شيئا آخر، او انسانا يرى رأيا آخر، وقد تصل به الى ان يرى بمقايسات محزنة اعداء الدين اقرب اليه من المخالفين له بالرأي من المسلمين الذين يلتقون معه على اصول العقيدة نفسها ... ولعل في الحادثة التاريخية الشهيرة ذر الاختلاف بقرنه، وفقد آدابه، وفرقت بعض طوائف الامة المسلمة دينها الجامع ما يلقي بعض الاضواء التي قد تكون ذات مغزى لحياتنا اليوم الى حد بعيد.. «يروى ان واصل بن عطاء اقبل في رفقة فاحسوا الخوارج فقال واصل لاهل الرفقة: ان هذا ليس من شانكم، فاعتزلوا ودعوني واياهم.، وكانوا قد اشرفوا على العطب. فقالوا: شانك. فخرج اليهم، فقالوا: ما انت واصحابك؟ قال: مشركون مستجيرون ليسمعوا كلام الله ويعرفوا حدوده. فقالوا: قد اجرناكم، قال: فعلمونا. فجعلوا يعلمونه احكامهم، وجعل يقول: قد قبلت انا ومن معي. قالوا: فامضوا مصاحبين فانكم اخواننا. قال: ليس ذلك لكم، قال الله ﵎: «وان احد من المشركين استجارك فاجره حتى يسمع كلام الله ثم ابلغه مأمنه٠٠» فابلغونا مامننا، فنظر بعضهم الى بعض ثم قالوا ذاك لكم. فساروا باجمعهم حتى بلغوا المأمن «الكامل في اللغة والادب للمبرد:٢/١١٢» .
لقد وصلت حدة الاختلاف الى مرحلة اصبح المشرك معها يامن على نفسه عند بعض الفرق الاسلامية التي ترى انها على الحق المحض اكثر من المسلم المخالف لها بوجهة النظر والاجتهاد، حيث اصبح لاسبيل معها للخلاص من التصفية الجسدية الا باظهار صفة الشرك. انه الاختلاف الذي يتطور ويتطور وتتعمق اخاديده فيسيطر على الشخص ويمتلك عليه حواسه الى درجة ينسى معها المعاني الجامعة والصيد المشترك الذي يلتقي عليه المسلمون، ويعدم صاحبه الابصار الا للمواطن التي تختلف فيها وجهات النظر، وتغيب عنه ابجديات الخلق الاسلامي، فتضطرب الموازين، وينقلب عنده الظني الى قطعي، والمتشابه الى محكم، وخفي الدلالة الى واضح الدلالة، والعام الى خاص، وتستهوي النفوس العليلة مواطن الخلاف، فتسقط، في هاوية تكفير المسلمين، وتفضيل غيرهم من المشركين عليهم ... وقد تنقلب الآراء الاجتهادية والمدارس الفقهية التي محلها اهل النظر والاجتهاد، على ايدي المقلدين والاتباع الى ضرب من التحزب الفكري، والتعصب السياسي، والتخريب الاجتماعي تؤول على ضوئه آيات القرآن واحاديث الرسول ﷺ فتصبح كل آية او حديث لاتوافق هذا اللون من التحزب الفكري اما مؤولة او منسوخة، وقد يشتد التعصب ويشتد فتعود الينا مقولة الجاهلية: «كذاب ربيعة افضل من صادق مضر ...» . ولعل مرد معظم اختلافاتنا اليوم الى عوج في الفهم تورثه علل النفوس من الكبر والعجب بالرأي، والطواف حول الذات والافتتان بها، واعتقاد ان الصواب والزعامة وبناء الكيان انما يكون باتهام الآخرين بالحق وبالباطل، الامر الذي قد يتطور حتى يصل الى فجور في الخصومة والعياذ بالله تعالى. اننا قلما ننظر الى الدخل، لان الانشغال بعيوب الناس، والتشهير بها، والاسقاط عليها، لم يدع لنا فرصة التأمل في بنائنا الداخلي، والاثر يقول: «طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس» .
لقد اختلف السلف الصالح رضوان الله عليهم، لكن اختلافهم في الرأي لم يكن سببا لافتراقهم، انهم اختلفوا لكنهم لم يتفرقوا، لان وحدة القلوب كانت اكبر من ان ينال منها شيء، انهم تخلصوا من العلل النفسية وان اصيب بعضهم بخطأ الجوارح، وكان الرجل الذي بشر الرسول ﷺ الصحابة بطلعته عليهم واخبرهم انه من اهل الجنة، هو الذي استكنهوا امره وعمله فتبين انه لاينام وفي قلبه غل على مسلم ... اما نحن اليوم فمصيبتنا في نفوسنا وقلوبنا، لذلك فان معظم مظاهر التوحد والدعوة اليه والانتصار له انما هي عبارة عن مخادعة للنفس، ومظاهر خارجية قد لا نختلف فيها كثيرا عن غيرنا والله تعالى يقول: «وذروا ظاهر الاثم وباطنه» «الانعام:١٢٠» . فالعالم الاسلامي بعد ان كان دولة واحدة تدين بالمشروعية العليا لكتاب الله تعلى وسنة رسوله اصبح اليوم سبعا وثمانين دويلة او يزيد، والاختلافات بينهم لايعلم مداها لا الله، وكلها ترفع شعارات الوحدة، بل قد توجد ضمن الدولة الواحدة كيانات عدة. وليس واقع بعض العاملين للاسلام اليوم الذين تناط بهم مهمة الانقاذ احسن حالا من مؤسساتهم الرسمية ... ان ازمتنا ازمة فكر، ومشكلتنا في عدم صدق الانتماء، والامة المسلمة عندما سلم لها عالم افكارها، وكانت المشروعية العليا الاساسية في حياتها للكتاب والسنة استطاعت ان تحمل رسالة وتقيم حضارة على الرغم من شظف العيش وقسوة الظروف المادية، فكان مع العسر يسر ... ذلك ان الحيدة عن الكتاب والسنة موقع في التنازع والفشل، قال تعالى. «واطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم ...» «الانفال:٤٦» . لقد اوقف الاسلام التشرذم والتآكل الداخلي ووجه العرب وجهة الاله الواحد الحق والغى الآلهة المزيفة حيث كان لكل قبيلة الهها الذي تتجه اليه. اما المسلمون اليوم في مواقعهم الكثيرة فانهم لا يشكون من قلة المادة وتوفر الاشياء، ومع ذلك انقلبوا الى امة مستهلكة على
مستوى الافكار والاشياء معا لانهم افتقدوا المعاني الجامعة والقواسم المشتركة، وغابت عنهم المشروعية الكبرى في حياتهم، واصاب الخلل بنيتهم الفكرية. من هنا نقول: لابد من اعادة الصياغة، واعادة الترتيب المفقود لفكر المسلم، ولا سبيل الى ذلك الا بالرجوع الى كتب الاصول، حيث وضع علماؤنا الضوابط والقواعد للمقايسة والاستنتاج لضبط الرأي وضمان مساره، واقتران العلم عندهم باخلاقه ... وتنمية الدراسات التي تؤكد وحدة الامة وقواسمها المشتركة، والمنهج التربوي الذي يسلحها باخلاق المعرفة، وابراز النقاط الجامعة واعتبار فترات الرفض والخروج وكتب الخلافات حالات مرضية لايعتد بها. من هنا ياتي هذا الكتاب في وقت احوج ما يكون المسلمين اليه، ومساهمة طيبة في اغناء هذا الموضوع الهام والخطير حيث يبصر المثقف المسلم بشكل عام بشيء من مناهج العلماء في الاستنباط، وبالاصول التي بنى عليها هؤلاء العلماء اجتهاداتهم ومبتنى اختلافاتهم، ليعلم ان هذه الاختلافات انما تحكمها ضوابط وقواعد واصول لايحسنها كل من اراد التطاول على الاجتهاد دون امتلاك اداته، وتنتظمها اخلاق وآداب، يحفظها من الجنوح والخروج وازع ديني ...
لقد قدم نماذج على ارفع المستويات من سيرة السلف الصالح للاقتداء والتأسي قبل ان تنقلب المدارس الاجتهادية على ايدي المقلدة مذاهب سياسية وتحزبات فكرية، وقد اعان المؤلف على ذلك تخصصه في العلوم الاسلامية واصول الفقه، ولا شك ان الكتاب في بعض جوانبه قد غلبت عليه الصفة العلمية الاكاديمية، ولا شك عندنا انها ضرورة لازمة، خاصة بالنسبة لاولئك المثقفين من المسلمين بشكل عام الذين لم تتح لهم ظروفهم الاطلاع على شيء من الاصول الشرعية، لذلك يمكن القول: ان هذا الكتاب يمكن ان يكون كتابا معلما الى حد بعيد، وان كنا نعتقد ان الاطلاع على هذه المناهج والآداب لا يكفي لحل مشكلة المسلمين ومعالجة ازمتهم الفكرية، بل لابد مع ذلك من التربية العملية والتدرب على آداب الخلاف والاخلاق التي يجب ان تحكمه ... ولا يفوتنا هنا ان نشيد بالروح الاسلامية في الاخوة والتعاون التي لمسناها من المعهد العالمي للفكر الاسلامي بواشنطن حيث آثرنا بهذا الكتاب ليكون في سلسلة «كتاب الامة» ايمانا منه بوحدة الغاية والقصد، والله نسأل ان يلهم الجميع الاخلاص في العمل والسداد في الرأي، انه الهادي الى سواء السبيل.
المقدمة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه من دعا بدعوته واهتدى أتهديه الى يوم الدين، وبعد: فان امراض المسلمين في عصرنا هذا قد تعددت وتشعبت وفشت حتى شملت جوانب متعددة من شؤونهم الدينية والدنيوية، ومن العجيب ان الامة المسلمة لا تزال على قيد الحياة، لم تصب منها تلك الادواء بحمد الله مقتلا على كثرتها وخطورتها، وكان بعها كفيلا بابادة امم وشعوب لم تغن عنها كثرتها ولا وفرة مواردها، ولعل مرد نجاة هذه الامة الى هذا اليوم رغم ضعفها هو وجود كتاب ربها وسنة نبيها عليه افضل الصلاة والتسليم بين ظهرانيها ثم دعوة نبيها ﷺ واستغفار الصالحين من ابنائها «وما كان الله ليعذبهم وانت فيهم، وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون» «الانفال:٣٣» . وان من اخطر ما اصيبت به هذه الامة في الآونة الاخيرة مرض «الاختلاف والمخالفة» ... الاختلاف في كل شيء، وعلى كل شيء، حتى شمل العقائد والافكار والتصورات والآراء الى جانب الاذواق والتصرفات والسلوك والاخلاق، وتعدى الاختلاف كل ذلك حتى بلغ اساليب الفقه، وفروض العبادات وكأن كل ما لدى هذه الامة من اوامر ونواه يحثها على الاختلاف او يدفعها اليه والامر عكس ذلك تماما، فان كتاب الله وسنة رسوله ﷺ ما حرصا على شيء بعد التوحيد حرصهما على تأكيد وحدة الامة، ونبذ الاختلاف بين ابنائها، ومعالجة كل ما من شانه ان يعكر صفو العلاقة بين المسلمين، او يخدش اخوة المؤمنين، ولعل مبادئ الاسلام ما نددت بشيء بعد الاشراك بالله تنديدها باختلاف الامة، وما حضت على امر بعد الايمان بالله حضها على الوحدة والائتلاف بين المسلمين. واوامر الله ورسوله واضحة في دعوتها لايجاد الامة التي تكون كالجسد الواحد اذا اشتكى بعضه اصابه الوهن كله.
ولكن رسالة الاسلام مع ذلك رسالة واقعية تتعامل مع الانسان على ما هو عليه، وخالق الانسان ﵎ يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير، فقد وهب لعباده عقولا ومقدرات متباينة من شانها ان تؤدي الى اختلاف في نظرتهم وافكارهم ومواقفهم من كثير من الاشياء، ولذلك فان الاسلام يتسع الى تلك الاختلافات كلها التي لا تهدد وحدة الامة، فيكفي ان تتفق الآراء، وتلتقي التصورات، وتتوحد المواقف ازاء القضايا الكبرى والقواعد الاساسية، اما ما عداها من امور فرعية، وقضايا ثانوية مما يساعد اختلاف الرأي فيها على الجنوح يحو الافضل والامثل فلا ضير فيه على ان يكون لهذا الاختلاف ضوابطه وحدوده، وقواعده وآدابه، والا يؤثر على وحدة فكر الامة ومواقفها من القضايا الاساسية الكبرى. فما حقيقة الاختلاف؟ وما الحدود التي لايجوز تجاوزها فيه؟ وما اسبابه؟ وما القدر المسموح به منه؟ وما ضوابطه وآدابه؟ وما السبيل للتخلص من سلبياته؟ هذا ما سنحاول بحثه في هذه المعالجة، ان شاء الله تعالى. ونظرا لتعدد جوانب هذا الموضوع فقد تنوعت مصادره فله جانب منطقي جدلي تكفلت ببحثه الكتب المنطقية الخاصة بآداب البحث والمناظرة (١) . _________ (١) وذلك مثل متن آداب البحث: لعضد الدين الإيجي المتوفى سنة (٧٥٦هـ) وهو متن صغير، شرحه كثيرون. وهناك منظومة لزين الدين المرصفي المتوفى سنة (١٣٠٠ هـ) نظم فيها جملة آداب البحث والمناظرة كما ان لـ: طاش كبرى زاده المتوفى سنة (٩٦٨هـ) وصاحب الكتاب المعروف في تصنيف العلوم المسمى بـ «مفتاح السعادة» منظومة في هامة في هذا الفن، بين فيها حقيقة المناظرة وآدابها وحصرها بتسعة، كما بين ما يطلب من السائل والمعلل من الآداب أثناء المناظرة، وهناك كتاب الفه السيد محمد الأمين الشنقيطي الجكني في هذا الموضوع لطلبة الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة.
وله جانب اصولي تناولته الكتب الاصولية التي تعرضت لمباحث اسباب الاختلاف (٢) . كما تعرض الاصوليون له في بعض مباحث القياس (٣)، وله جانب فقهي يرد في ثنايا الكتب التي عنيت بالبحث في مجال «الفقه المقارن» او ما يسمى بكتب «الخلافيات» . _________ (٢) من هذه الكتب: (أ) كتاب «التنبيه على الأسباب التي أوجبت الاختلاف بين المسلمين في آرائهم ومذاهبهم واعتقاداتهم، لأبي عبد الله بن محمد السيد البطليوسي المتوفى سنة (٥٢١ هـ) وقد طبع في القاهرة مرتين، الأخيرة منها صدرت في دار الاعتصام، بتحقيق وتعليق الأستاذين الدكتور أحمد حسن كحيل والدكتور حمزة عبد الله النشرتي. (ب) كتاب «رفع الملازم عن الأئمة الأعلام» لشيخ الإسلام ابن تيمية المتوفى سنة (٧٢٨ هـ) وقد طبع طبعات عدة في مصر والشام والهند والمملكة العربية السعودية، وهو مشهور متداول. (ج) كتاب «الإنصاف في بيان الاختلاف في الأحكام الفقهية» لشاه ولي الله أحمد بن عبد الرحيم الفاروقي الدهلوي المتوفى سنة (١١٧٦ هـ) وقد طبع مفردا عدة مرات، كما طبع ضمن كتابه القيم «حجة الله البالغة» كما أن هناك كثيرا من المحدثين، قد كتبوا في هذا الجانب الهام من الجوانب الأصولية الفقهية منها: * الشيخ علي الخفيف ﵀ الذي كتب كتابه «أسباب اختلاف الفقهاء» كما كتب الأستاذ مصطفى إبراهيم الزلمي رسالته للدكتوراه في «أسباب اختلاف الفقهاء في الأحكام الشرعية» . * وكذلك الدكتور: مصطفى سعيد الخن رسالته في «أثر الاختلاف في القواعد الأصولية في اختلاف الفقهاء» . * والدكتور عبد الله التركي رسالته للماجستير في «اسباب اختلاف الفقهاء» كما تناول الدكتور مصطفى البغا في رسالته للدكتوراه «أثر الأدلة المختلف فيها» وكتب محمد أبو الفتح البيانوني كتابه: «دراسات في الاختلافات الفقهية» كما كتب الشيخ عبد الجليل عيسى كتابه: «ما لا يجوز الاختلاف فيه بين المسلمين» . (٣) ويمكن مراجعة ذلك في المباحث المتعلقة بقواعد العلة والأسئلة الواردة على القياس.
واما الآداب فيمكن الحصول على امثلتها ونماذجها من كتب الطبقات والتراجم والمناظرات والتاريخ وغيرها. وقد حاولنا في هذا البحث ان نستفيد من جميع المصادر، كما اننا رتبناه على مقدمة وستة فصول وخاتمة، ثم اردفنا ذلك بمسرد للهوامش والحواشي والتعليقات لرغبتنا ان يكون كل ما اوردناه فيه موثقا، منسوبا الى مصادره، واعقبنا ذلك كله بفهرس للموضوعات، ونسأل الله التوفيق والسداد وان يجمع كلمة المسلمين، ويوجد بين قلوبهم على حبه، وحب رسوله ﷺ ويؤلف بينهم، ويزيل اسباب النفرة والخلاف.. انه سميع مجيب. الدكتور طه جابر فياض العلواني
ناپیژندل شوی مخ
الفصل الاول في بيان حقيقة الاختلاف وما يتصل بها
الاختلاف والخلاف وعلم الخلاف:
الاختلاف والمخافة ان ينهج كل شخص طريقا مغايرا للآخر في حاله او في قوله. والخلاف اعم من «الضد» لان كل ضدين مختلفان، وليس كل مختلفين ضدين ولما كان الاختلاف بين الناس في القول قد يفضي الى التنازع استعير ذلك للمنازعة والمجادلة، قال تعالى:
«فاختلف الاحزاب من بينهم ...» «مريم:٣٧»
«ولا يزالون مختلفين» «هود:١١٨»
«انكم لفي قول مختلف» «الذاريات:٨»
1 / 21
«ان ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون» «يونس:٩٣» .
وعلى هذا يمكن القول بان «الخلاف والاختلاف يراد به مطلق المغايرة في القول او الرأي او الحالة او الهيئة او الموقف. وامال ما يعرف لدى اهل الاختصاص ب «علم الخلاف» فهو علم يمكن من حفظ الاشياء التي استنبطها امام من الائمة، وهدم ما خالفها دون الاستناد الى دليل مخصوص، اذ لو استند الى الدليل، واستدل به لاصبح مجتهدا واصوليا، والمفروض في الخلافي الا يكون باحثا عن احوال ادلة الفقه، بل حسبه ان يكون متمسكا بقول امامه لوجود مقتضيات الحكم اجمالا عند امامه كما يظن هو، وهذا يكفي عنده لاثبات الحكم، كما يكون قول امامه حجة لديه لنفي الحكم المخالف لما توصل اليه امامه كذلك.
الجدل و«علم الجدل»:
اذا اشتد اعتداد احد المخالفين او كليهما بما هو عليه من قول او رأي او موقف، وحاول الدفاع عنه واقناع الآخرين به، أو حملهم عليه سميت تلك المحاولة بالجدل.
فالجدل في اللغة «المفاوضة على سبيل المنازع والمغالبة» مأخوذ من «جدلت الحبل» اذا فتلته وأحكمت فتله، فان كل واحد من
1 / 22
المتجادلين يحاول ان يفتل صاحبه ويجدله بقوة واحكام على رأيه الذي يراه.
وأما «علم الجدل» فهو: علم يقوم على مقابلة الادلة لاظهار ارجح الاقوال الفقهية (٤) .
وعرّفه بعض العلماء بأنه «علم يقتدر به على حفظ أي وضع يراد ولو باطلا وهدم أي وضع يراد ولو حقا» (٥) .
ويظهر في هذا التعريف أثر المعنى اللغوي للجدل، لأنه على هذا علم لا يتعلق بأدلة معينة، بل هو قدرة أو ملكة يؤتاها الشخص ولو لم يحط بشيء من الكتاب والسنة ونحوهما.
الشقاق:
فاذا اشتدت خصومة المتجادلين وآثر كل منهما الغلبة بدل الحرص على ظهور الحق ووضوح الصواب، وتعذر أن يقوم بينهما تفاهم أو اتفاق سميت تلك الحالة بـ «الشقاق» و«الشقاق» أصله: ان يكون كل واحد في شق من الارض أي نصف او جانب منها، فكأن ارضا واحدة لا تتسع لهما معا وفي التنزيل (وأن خفتم شقاق بينهما) (النساء: ٣٥) أي خلافا حادا يعقبه نزاع يجعل كل واحد منهما في شق
_________
(٤) و(٥) يراجع مفتاح السعادة (٢/٥٩٩) طبعة دار الكتب الحديثة بمصر، والعريفات للجرجاني (٦٦) طبعة الحلبي.
1 / 23
غير شق صاحبه، ومثله قوله تعالى (فانما هم في شقاق) (البقرة ١٣٧) .
المقبول والمردود من الاختلاف:
قضت مشيئة الله تعالى خلق الناس بعقول ومدارك متباينة الى جانب اختلاف الالسنة والالوان والتصورات والافكار وكل تلك الامور تفضي الى تعدد الآراء والاحكام وتختلف باختلاف قائليها واذا كان اختلاف السنتنا وألواننا ومظاهر خلقنا آية من آيات الله تعالى، فان اختلاف مداركنا وعقولنا وما تثمره تلك المدارك والعقول آية من آيات الله تعالى كذلك ودليل من أدلة قدرته البالغة وإن اعمار الكون وازدهار الوجود وقيام الحياة لا يتحقق أي منها لو أن البشر خلقوا سواسية في كل شيء، وكل ميسر لما خلق له (ولو شاء ربك لجعل الناس امة واحدة ولا يزالون مختلفين الا من رحم ربك ولذلك خلقهم) (هود ١١٨، ١١٩) .
ان الاختلاف الذي وقع في سلف هذه الامة ولا يزال واقعا جزء من هذه الظاهرة الطبيعية فان لم يتجاوز الاختلاف حدوده بل التزمت آدابه كان ظاهرة ايجابية كثيرة الفوائد.
1 / 24
بعض فوائد الاختلاف المقبول:
وكما اسلفنا فانه اذا التزمت حدود الاختلاف وتأدب الناس بآدابه كان له بعض الايجابيات منها:
أانه يتيح اذا صدقت النوايا التعرف على جميع الاحتمالات التي يمكن ان يكون الدليل رمى اليها بوجه من وجوه الادلة.
ب وفي الاختلاف بالوصف الذي ذكرناه رياضة للاذهان وتلاقح للآراء وفتح مجالات التفكير للوصول الى سائر الافتراضات التي تستطيع العقول المختلفة الوصول اليها.
ج تعدد الحلول أمام صاحب كل واقعة ليهتدي الى الحل المناسب للوضع الذي هو فيه بما يتناسب ويسر هذا الدين الذي يتعامل مع الناس من واقع حياتهم.
تلك الفوائد وغيرها يمكن ان تتحقق اذا بقي الاختلاف ضمن الحدود والآداب التي يجب الحرص عليها ومراعاتها، ولكنه اذا جاوز حدوده، ولم تراع آدابه فتحول الى جدال وشقاق كان ظاهرة سلبية سيئة العواقب تحدث شرخا في الامة وفيهما ما يكفيها فيتحول الاختلاف من ظاهرة بناء الى معاول للهدم.
1 / 25
أقسام الخلاف من حيث الدوافع:
١ -خلاف املاه الهوى: قد يكون الخلاف وليد رغبات نفسية لتحقيق غرض ذاتي أو امر شخصي وقد يكون الدافع للخلاف رغبة التظاهر بالفهم او العلم او الفقه. وهذا النوع من الخلاف مذموم بكل اشكاله ومختلف صوره لان حظ الهوى فيه غلب الحرص على تحري الحق والهوى لا يأتي بخير فهو مطية الشيطان الى الكفر، قال تعالى:
(أفكلما جاءك رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون) «البقرة ٨٧» . وبالهوى جانب العدل من جانبه من الظالمين.
(فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا) «النساء ١٣٥»، وبالهوى ضل وانحرف الضالون.
(قل لا أتبع اهواءكم قد ضللت إذن وما أنا من المهتدين) «الانعام ٥٦» والهوى ضد العلم ونقيضه، وغريم الحق، ورديف الفساد، وسبيل الضلال:
(ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله) «ص ٢٦» .
(ولو اتبع الحق اهواءهم لفسدت السموات والارض ومن فيهن) «المؤمنون ٧١» .
(وان كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم) «الانعام ١١٦» .
1 / 26
وانواع الهوى متعددة وموارده متشعبة وان كانت في مجموعها ترجع الى «هوى النفس وحب الذات» فهذا الهوى منبت كثير من الاخطاء وحشد من الانحرافات ولا يقع انسان في شباكه حتى يزين له كل ما من شأنه الانحراف عن الحق والاسترسال في سبيل الضلال حتى يغدو الحق باطلا والباطل حقا والعياذ بالله. ويمكن رد خلاف أهل الملل والنحل ودعاة البدع في دين الله تعالى الى آفة الهوى ومن نعم الله على عبده ورعايته سبحانه أن يكشف له عن مدى ارتباط مذاهبه وأفكاره ومعتقداته بهوى نفسه، قبل أن تهوي به في مزالق الضلال، حتى يضيء المولى سبحانه مشاعل الايمان في قلبه فتكشف زيف تلك المذاهب أو الافكار أو المعتقدات ذلك لان حسنها في نفسه لم يكن له وجود حقيقي بل هو وجود ذهني او خيالي او صوري صوره الهوى وزينه في النفس ولو كان قبيحا في واقعه أو لا وجود له الا في ذهن المبتلى به.
ولاكتشاف تأثير الهوى في فكرة ما طرق كثيرة: بعضها خارجي وبعضها ذاتي.
أ - فالطرق الخارجية لاكتشاف أن الهوى وراء الفكرة موضع الاختلاف أن تكون مناقضة لصريح الوحي من كتاب وسنة ولا ينتظر ممن يزعم في نفسه الحرص على الحق أن يلهث وراء فكرة تناقض كتاب الله وسنة نبيه ﷺ.
ومما يكشف كون الفكرة وليدة الهوى: تصادمها مع مقتضيات
1 / 27
العقول السليمة التي يقبل الناس الاحتكام اليها ففكرة تدعو الى عبادة غير الله او تحكيم غير شريعته في حياة الناس وفكرة تدعو الى اباحة الزنا او تزيين الكذب او تحض على التبذير لايمكن ان يكون لها مصدر غير الهوى ولا يدعو لها الا من بيد الشيطان زمامه.
ب - اما الطرق الذاتية لاكتشاف ما اذا كان الهوى محضن الفكرة فتكون بنوع من التأمل والتدبر في مصدر تلك الفكرة ومساءلة النفس بصدق حول سبب تبنيها لتلك الفكرة دون غيرها، وما تأثير الظروف المحيطة بصاحب الفكرة ومدى ثباته عليها ان تبدلت؟ وهل هناك من ضغوط وجهت المسار دونما شعور؟ ثم الغوص في اعماق الفكرة نفسها، فان كانت قلقة غير ثابتة، تتذبذب بين القوة والضعف تبعا لمشاعر معينة، فاعلم أنها وليدة الهوى ونزغ من الشيطان فاستعذ بالله السميع العليم، واحمده على أن بصرك بالحقيقة قبل ان يسلسل قيادك لهوى النفس.
٢ -خلاف املاه الحق: قد يقع الخلاف دون ان يكون للنفس فيه حظ او للهوى عليه سلطان فهذا خلاف أملاه الحق، ودفع اليه العلم واقتضاه العقل، ورفضه الايمان، فمخالفة أهل الايمان لاهل الكفر والشرك والنفاق خلاف وواجب لا يمكن لمؤمن مسلم أن يتخلى عنه، او يدعو لازالته لانه خلاف سداه الايمان ولحمته الحق.
وكذلك اختلاف المسلم مع اهل العقائد الكافرة والملحدة،
1 / 28
كاليهودية والنصرانية والوثنية والشيوعية، ولكن الاختلاف مع أهل تلك الملل وهذه العقائد لا يمنع من الدعوة الى ازالة اسبابه بدخول الناس في دين الله افواجها وتخليهم عن دواعي الخلاف من الكفر والشرك والشقاق والنفاق وسوء الاخلاف والالحاد والبدع والترويج للعقائد الهدامة.
٣ -خلاف يتردد بين المدح والذم: ولا يتمحض لاحدهما، وهو خلاف في امور فرعية تتردد احكامها بين احتمالات متعددة يترجح بعضها على بعضها الآخر بمرجحات وأسباب سنأتي على ذكرها ان شاء الله ومن أمثلة هذا التقسيم: اختلاف العلماء في انتقاض الوضوء من الدم الخارج من الجرح، والقيء المتعمد، واختلافهم في حكم القراءة خلف الامام وقراءة البسملة قبل الفاتحة والجهر بـ «آمين» وغير ذلك من امثلة تضيق عن الحصر وهذا النوع من الاختلاف مزلة الاقدام، اذ يمكن فيه ان يلتبس الهوى بالتقوى، والعلم بالظن والراجح بالمرجوح والمردود بالمقبول ولا سبيل الى تحاشي الوقوع في تلك المزالق الا بأتباع قواعد يحتكم اليها في الاختلاف، وضوابط تنظمه، وآداب تهيمن عليه، والاّ تحول الى شقاق وتنازع وفشل، وهبط المختلفان فيه عن مقام التقوى الى درك الهوى، وسادت الفوضى، وذر الشيطان قرن.
1 / 29
رأي العلماء في الاختلاف:
ومع ما تقدم فان العلماء قد حذروا من الاختلاف بكل انواعه وأكدوا على وجوب اجتنابه.
يقول ابن مسعود ﵁: «الخلاف شر» (٦) وقال السبكي ﵀: «... ان الرحمة تقتضي عدم الاختلاف، قال تعالى (... ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر....) «البقرة ٢٥٣» وكذا السنة: قال ﵊: «انما هلكت بنو اسرائيل بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم» (٧)، والآيات والاحاديث في ذلك كثيرة، هذا وقد أدرج السبكي ﵀ تحت النوع الثالث من الاختلاف (الذي يتردد بين المدح والذم) اقساما ثلاثة، فقال: «... والاختلاف على ثلاثة اقسام، احدها في الاصول، وهو المشار اليه في القرآن، ولاش: انه بدعة وضلال. والثاني في الآراء والحروب هو حرام ايضا لما فيه من تضييع المصالح، والثالث في الفروع، كالاختلاف في الحل والحرمة ونحوهما» (٨) .
_________
(٦) انظر «تأويل مختلف الحديث» لابن قتيبة ص٢٢ و«العواصم من القواصم» ص٧٨. وراجع «المحصول» (٢ق١/٤٨٠) .
(٧) والحديث بتمامه من طريق أبي هريرة «ذروني ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم، واختلافهم على أنبيائهم فإذا أمرتكم بشيء فاتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعونه» رواه أحمد في مسنده، ومسلم والنسائي وابن ماجه على ما في الفتح الكبير (٢/١٢٠) والإحكام (٦٦/٥) .
(٨) أنظر الإبهام (٣/١٣) .
1 / 30
والذي قطع به أن الاتفاق فيه أي: في الثالث خير من الاختلاف.
كما نبه ﵀ الى كلام ابن حزم في ذم الاختلاف في ذلك ايضا اذ لم يجعل ابن حزم ﵀ شيئا من الاختلاف رحمة، بل اعتبره كله عذابا.
ويكفي لمعرفة اضرار الاختلاف وخطورته أن نبي الله هارون ﵇ عد الاختلاف اكبر خطرا، واشد ضررا من عبادة الاوثان. فحين صنع السامري لقومه عجلا من الذهب وقال لهم: (هذا الهكم واله موسى) (طه: ٨٨) التزم جانب الصمت وبقي ينتظر أخاه موسى ﵇، ولما وصل موسى ورأى القوم عاكفين على العجل وجه أشد اللوم الى اخيه، فما كان عذر أخيه الا أن قال: (يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي اني خشيت ان تقول فرقت بين بني اسرائيل ولم ترقب قوله ...) «طه ٩٤» فجعل من خوف الفرقة والاختلاف بين قومه عذرا له في عدم التشديد في الانكار، ومقاومة القوم والانفصال عنهم حين لا ينفع الانكار!!
1 / 31
الفصل الثاني: تاريخ الاختلاف وتطوره
اختلاف الصحابة في عهد رسول الله ﷺ:
لم يكن في عهد رسول الله ﷺ ما يمكن ان يؤدي الى الاختلاف بالمعنى الذي ذكرناه ذلك لان رسول الله ﷺ مرجع الجميع باتفاق ومردهم في كل أمر يحزبهم، ومفزعهم في كل شأن، وهاديهم من كل حيرة، فاذا اختلف الصحابة رضوان الله عليهم في شيء ردوه اليه ﵊ فبين لهم وجه الحق فيه، وأوضح لهم سبيل الهداية، وأما الذين ينزل بهم من الأمور مالا يستطيعون رده الى رسول الله ﷺ
1 / 33
لبعدهم عن المدينة المنورة، فكان يقع بينهم الاختلاف كاختلاف في تفسير ما يعرفونه من كتاب الله، او سنة رسوله ﷺ وتطبيقه على ما نابهم من احداث وقدا لا يجدون في ذلك نصا فتختلف اجتهاداتهم ... هؤلاء اذا عادوا الى المدينة، والتقوا برسول الله ﷺ عرضوا عليه ما فهموه من النصوص التي بين أيديهم او ما اجتهدوا فيه من القضايا فإما ان يقرهم على ذلك فيصبح جزءا من سنته ﷺ وإما أن يبين لهم وجه الحق والصواب فيطمئنون لحكمه ﷺ ويأخذون به ويرتفع الخلاف، ومن أمثلة ذلك ما يلي:
أما أخرجه البخاري ومسلم أن النبي ﷺ قال يوم الاحزاب: «لا يصلين أحد العصر الا في بني قريظة» فأدرك بعضهم العصر في الطريق، فقال بعضهم: لا نصلي حتى نأتيها، أي: ديار بني قريظة.
وقال بعظهم: بل نصلي، لم يرد منا ذلك. فذكر ذلك للنبي ﷺ فلم يعنف واحدا منهم» (٩) وظاهر من هذا الحديث الشريف ان الصحابة رضوان الله عليهم انقسموا الى فريقين في موقفهم من أداء صلاة العصر: فريق أخذ بظاهر اللفظ (كما يقول المناطقة) أوم بما يسميه أصوليو الحنفية بـ «عبارة النص» . وفريق استنبط من النص معنى خصصه به.
_________
(٩) انظر صحيح البخاري بهامش شرحه فتح الباري (٧/٣١٣)، وإرشاد الساري والعيني (٨/٢٥٤) ومتن البخاري (٥/٤٧) في كتاب المغازي ويستحسن مراجعته في باب صلاة الخوف، ومسلما في «كتاب الصلاة» .
1 / 34
وتصويب رسول الله ﷺ للفريقين دليل على مشروعية كل من المذهبين.
فالمسلم اذن، له أن يأخذ بظاهر النص وله ان يستنبط من المعاني ما يحتمله النص وبمكن التدليل عليه ولا لوم على من بذل جهده وكان مؤهلا لهذا النوع من الجهد. فالفريق الثاني من الصحابة رضوان الله عليهم فهموا أن رسول الله ﷺ انما اراد أن يأمرهم بالمبالغة في الاسراع ولذلك اعتبروا أن اداءهم الصلاة قبل الوصول الى بني قريظة لا ينافي أمر رسول الله ﷺ بالصلاة في بني قريظة ما دامت الصلاة لن تؤخرهم عن الوصول. ومن الطريف أن ابن القيم ﵀ أورد اختلاف الفقهاء في تصويب أي من الفريقين، وبيان الافضل من فعل كل منهما، فمن قائل: ان الافضل فعل من صلى في الطريق فحاز قصب السبق في أداء الصلاة في وقتها وتلبية أمر رسول الله ﷺ ومن قائل: ان الافضل فعل من أخرها ليليها في بني قريظة ... (١٠) .
قلت: وما دام رسول الله ﷺ لم يعنف واحدا منهما فكان على الفقهاء ﵏ ان يسعهم ذلك من سنة رسول الله ﷺ وألا يخوضوا في أمر قد تولى، ﵊، حسمه والانتهاء منه.
_________
(١٠) في كتابه «إعلام الموقعين» .
1 / 35
ب ومن امثلته كذلك ما أخرجه ابو داود والحاكم من حديث عمرو بن العاص ﵁، قال: (احتلمت في ليلة باردة في غزة ذات السلاسل (١١) فأشفقت ان اغتسلت ان أهلك، فتيممت ثم صليت بأصحابي الصبح، فذكروا ذلك للنفي ﷺ فقال: «يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب؟» فأخبرته بالذي (ولا تقتلوا انفسكم ان الله كان بكم رحيما) «النساء ٢٩» فضحك رسول الله ﷺ ولم يقل شيئا» (١٢) .
التأويل وأنواعه:
لسنا بصدد ذكر كل ما اختلف فيه الصحابة على عهد رسول الله ﷺ وبعده بين آخذ بظاهر النص، وبين متدبر ومقلب له على مختلف وجوهه، ومستنبط لشتى المعاني منه، فذلك امر يطول وتقصر دونه المجلدات فضلا عن هذا البحث ذلك لانهم رضوان الله عليهم قد فهموا من تلك الوقائع أن هذا الدين يسر، وأن الشرع متسع للطريقتين ومقر للمنهجين ...
والمجتهدون الحذقة، والفقهاء المهرة هم الذين يجتهدون في بيان
_________
(١١) موضع في مشارف الشام.
(١٢) انظر سنن أبي داود، الحديث (٣٣٤) باب «إذا خالف الجنب البرد» وأخرجه البخاري معلقا انظر فتح الباري (١/٣٨٥) ونيل الأوطار (١/٣٢٤) .
1 / 36
ما يحقق كليات الشريعة، ويوصل الى مقاصدها، فأحيانا يكون ذلك بالاخذ بظاهر اللفظ وأحيانا يكون بالاخذ بما وراء ظاهر اللفظ وهو ما يعرف بالتأويل ولعل من المفيد أن نلقي الضوء على هذا الموضوع مستعرضين بايجاز انواع التأويل وضوابطه..
يأتي التأويل من الاخذ بما وراء ظاهر اللفظ ويكون عبارة عن:
١ -تأويل قريب:
وهو ما يمكن معرفته بأدنى تأمل مع احتمال اللفظ له مثل: اعتبار التصدق بمال اليتيم، او التبرع به لغيره، او اتلافه مساويا لأكله، او ما أولى بالتحريم الذي دل عليه قوله تعالى:
(ان الذين يأكلون اموال اليتامى ظلما انما يأكلون في بطونهم نارا ...) «النساء ١٠» .
ومنه: اعتبار التبول في اناء ثم صب البول في الماء الراكد مساويا للتبول المباشر فيه الذي ورد النهي عنه بقوله ﷺ: «لا يبولن أحدكم في الماء الدائم، ثم يغتسل منه» (١٣)، باعتبار أن كلا العملين مؤد لتلوث الماء واثارة الوسوسة.
٢ -تأويل بعيد:
وهو ما يحتاج لمعرفته والوصول اليه مزيد من التأمل مع كون اللفظ يحتمله وذلك كاستنباط ابن عباس ﵄، أن اقل الحمل
_________
(١٣) متفق عليه على ما في الجامع الصغير (٢/٥٠١) كما أخرجه أبو داود والنسائي وأحمد والترمذي وابن ماجه على ما في الفتح الكبير (٣/٣٥٢) .
1 / 37
ستة اشهر من قوله تعالى:
(وحمله وفصاله ثلاثون شهرا) «الاحقاف: ١٥» مع قوله تعالى: (والوالدات يرضعن اولادهن حولين كاملين لمن اراد ان يتم الرضاعة) «البقرة ٢٣٣» .
وكاستدلال الامام الشافعي على كون الاجماع حجة بقوله تعالى: (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا) «النساء ١١٥» .
وكذلك استدلال الاصوليين بقوله تعالى:
(فاعتبروا يا أولي الابصار) «الحشر ٢٠» .. على حجية القياس، وكونه دليلا شرعيا. فهذه استنتاجات وان بدت يسيرة يتعذر الوصول اليها ما لم يكن الانسان جوال الفكر ثاقب النظر كما تحتاج الى تأمل وتدبر لا يتيسران لعامة الناس.
٣ -تأويل مستبعد:
وهو ما لا يحتمله اللفظ وليس لدى المؤول على تأويله أي نوع من انواع الدلالة وذلك نحو تفسير بعضهم قول الله تعالى:
(وعلامات وبالنجم هم يهتدون) «النحل ١٦» بأن النجم هو رسول الله ﷺ والعلامات هم الائمة. وكتفسير بعضهم قوله تعالى: (وما تغني الآيات عن قوم لا يؤمنون) «يونس ١٠١» بأن الآيات هم الائمة والنذر هم الانبياء.
1 / 38
وكتفسير آخرين قوله تعالى:
(عمّ يتساءلون عن النبأ العظيم) «النبأ ١ ٢» بالامام علي ﵁، وأنه هو النبأ العظيم. (١٤) .
ضوابط التأويل:
ويتبين مما ذكرنا أن التأويل يحتاج بالاضافة الى القدرة على التدبر والتأمل الى ما يدل عليه ويلجئ اليه، والا فان الاخذ بالظواهر أسلم، ولا يطرق باب التأويل الا في الامور الاجتهادية، وأما في المسائل الاعتقادية فلا مجال للاجتهاد فيها، فان الاخذ بظواهر النصوص مع تفويض المعاني المرادة منها، وما قد تدل عليه من كيفيات هو الاسلام دائما وهو موقف السلف رضوان الله عليهم.
وعند الاضطرار الى التأويل لا بد من فهم النص وتحليله، ومعرفة سائر أوجه دلالته التي تشهد لها اللغة، وتدعمها مقاصد الشريعة، وتساعد عليها كليّاتها وقواعدها العامة، ولذلك كان الحكم باعتبار النص على ظاهره او تحليله لمعرفة ما يستلزمه من وجوه الدلالات من أهم ضروب الاجتهاد الفقهي والاعتبار الشرعي المأمور به في قوله تعالى (فاعتبروا يا أولي الابصار) «الحشر ٢٠» .
_________
(١٤) انظر أصول الكافي (١/٢١٦) .
1 / 39
ان ابن عباس ﵄ عند بيانه ضوابط التفسير قد ذكر أنه على أربعة أوجه:
فوجه تعرفه العرب بكلامه.
ووجه لا يعذر أحد بجهالته.
ووجه يعلمه العلماء.
ووجه لا يعلمه الا الله.
وعلى ذلك فان التأويل وقد اتضح فيما تقدم معناه وأنواعه قد ظهرت الصلة الوثقى بينه وبين التفسير فقد جاء كل منهما في موضع الآخر في كثير من استعمالات الشارع الحكيم، وذلك في نحو قوله تعالى:
(وما يعلم تأويله الا الله، والراسخون في العلم يقولون آمنا به) «ال عمران ٧» .
فقد ذهب معظم المفسرين الى أن المراد بالتأويل هنا التفسير والبيان ومنهم: الطبري الذي نقل ذلك عن ابن عباس ﵄ وغيره من السلف.
كذلك ورد في دعاء رسول الله ﷺ لابن عباس ﵄: «الله فقهه في الدين، وعلمه التأويل» استعمل التأويل بمعنى التفسير والبيان، وان كان بعض العلماء، كالراغب الاصفهاني في مفرداته قد اعتبر التفسير أعم من التأويل، كما أنه نبه الى أن التفسير اكثر ما يستعمل في بيان الالفاظ وشرحها، وأن التأويل يكثر استعماله في بيان المعاني والجمل.
1 / 40