Acts of the Messenger ﷺ and Their Indications for Sharia Rulings
أفعال الرسول ﷺ ودلالتها على الأحكام الشرعية
خپرندوی
مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع
د ایډیشن شمېره
السادسة
د چاپ کال
١٤٢٤ هـ - ٢٠٠٣ م
د خپرونکي ځای
بيروت - لبنان
ژانرونه
أَفْعَالُ الرَّسُول ﷺ
وَدَلاَلَتَهَا عَلَى الأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ
مُحَمَّد سُلَيْمَان الأشْقَر
دكتورَاه فِي الشَّرِيعَةِ الإِسْلاَمِيَّة
مِن الجَامِعَةِ الأَزْهَرِيَّةِ
الجُزْءُ الأوَّلُ
مؤسسة الرسالة
1 / 1
بسم الله الرحمن الرحيم
1 / 2
أَفْعَالُ الرَّسُول ﷺ
وَدَلاَلَتَهَا عَلَى الأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ
١
1 / 3
بسم الله الرحمن الرحيم
غاية في كلمة
جميع الحقوق محفوظة للمؤلف
الطبعة السادسة
١٤٢٤ هـ - ٢٠٠٣ م
ISBN ٩٩٥٣ - ٤ - ٠١٦٦ - ٧
جميع الحقوق محفوظة ١٩٨٨ م. لا يسمح بإعادة هذا الكتاب أو جزء منه بأي شكل من الأشكال أو حفظه ونسخه في أي نظام ميكانيكي أو إليكتروني يمكن من استرجاع الكتاب أو أي جزء منه. ولا يسمح باقتباس أي جزء من الكتاب أو ترجمته إلى أي لغة أخرى دون الحصول على إذن خطي مسبق من الناشر. (٦)
مؤسسة الرسالة
للطباعة والنشر والتوزيع
وطى المصيطبة
شارع حبيب أبي شهلا
بناء المسكن
هاتف: ٣١٩٠٣٩ - ٨١٥١١٢
فاكس: ٨١٨٢١٥ (٩٦١١)
ص. ب: ١١٧٤٦٠
بيروت - لبنان
resalah
publishers
Tel: ٣١٩٠٣٩ - ٨١٥١١٢
fax: (٩٦١١) ٨١٨٦١٥
Beirut - lebanon
Email:
resalah@resalah.com
web location:
Http://www.resalah.com
1 / 4
بسم الله الرحمن الرحم
سبحانك لا علم لنا إلّا ما علمتنا
إنك أنت العليم الحكيم
ربنا آتنا من لدنك رحمة،
وهيّء لنا من أمرنا رشدًا
اللهم أرنا الحق حقًا وارزقنا اتباعه
وأرنا الباطل باطلًا وارزقنا اجتنابه
اللَّهمَّ:
منك
ولك
1 / 5
نال المؤلف بهذه الرسالة درجة العالمية (الدكتوراه) بمرتبة الشرف الأولى، في أصول الفقه، من كلية الشريعة بجامعة الأزهر، بعد مناقشتها في الجلسة المنعقدة لذلك بقاعة الشيخ محمد عبده. يوم الاثنين ٢٥/ ١٠/ ١٩٧٦م. من قبل لجنة مؤلفة من فضيلة الشيخ عبد الغني عبد الخالق مشرفًا، وفضيلة الشيخ محمد أنيس عبادة عضوًا وفضيلة الدكتور محمد السعيد عبد ربه عضوًا.
1 / 6
بسم الله الرحمن الرحيم
فاتِحَة القَول
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه. وصلوات الله وتسليمه على نبيه الأمين، الذي حمل وحيه، وأدّاه إلينا كاملًا، مبينًا، لا عوج فيه، فعلمنا به من الجهالة، وهدانا به من الضلالة، وجمعنا به بعد الفرقة، وجعل لنا في الدنيا والآخرة مكانًا لا تنكره الأمم.
وبعد، فإن نهر الشريعة الخالد ينبع أوّلًا من كتاب الله العظيم وحي الله المبارك، وكلمته إلى العالمين. ويستمد هذا النهر بعدُ من سنن النبيّ ﷺ.
منذ أن اختار اللُه نبيه محمدًا ﷺ لحمل الرسالة، استشعر عظم المهمة التي ألقيت على عاتقه لهداية البشر، وتخوّف ثقل القول الذي كلّف به. لقد أهمّه أمر الجموع الزائغة من البشر، في الجزيرة وخارجها، من يهديها؟ وتلك الأجيال المتلاحقة عبر الزمان إلى أن تقوم الساعة، من يعلمها أحكام الله!
حتى وردت الطمأنينة له من السماء: ﴿ما ودّعك ربك وما قلى * وللآخرة خير لك من الأولى * ولسوف يعطيك ربك فترضى﴾ الله معك، أما أنت فاستقم كما أمرت، ولا تحد عنه. لا تقهر اليتيم، ولا تنهر السائل، وحدّث الناس بما جاءك من الوحي، واعبد الله واتّقِه حق تقاته. فهذا الذي عليك. ولست عليهم بمسيطر.
إذن الأمر هيّن: تبليغ واستقامة، بيان بالقول، وضرب مثل بالفعل. أما الهداية والإضلال فهما بيد الله وحده.
1 / 7
فشرح الله صدره للأمر، ووضع عنه وزره الذي أنقض ظهره، ويسر له ما كان عليه عسيرًا.
ولكن هل كانت المهمة يسيرة حقًا؟ لقد كان عليه ﷺ أن يقوم الليل إلا قليلًا، يتدبّر تلك الكلمات الإلهية، ويقوّم بقيلها فكره وقلبه، حتى إذا أصبح، بلّغها قومه، واستقام عليها ليُقْتَدَى به، ونفّذ ما علّمه الله، ليكون شاهدًا عليهم، كما أرسل اللُه إلى فرعون رسولًا، فعصاه فأخذه الله أخذًا وبيلًا. فالأمر جدّ، وليس عبثًا.
لقد حرصت الأمة على تدوين ما صدر عنه ﷺ من أقواله وأفعاله، وحفظ الله الذّكر بتلك الجهود المضنية التي بذلتها الأمّة، في شتّى ميادين العلم، والتي تكاد تماثل ما بذلته من الجهود في الجهاد والتبليغ. فكان في كلا النوعين من الجهاد، رفع ذكر محمد ﷺ، وذكر قومه في العالمين.
أفعال النبي ﷺ في حقيقة الأمر أكثر من أقواله أضعافًا مضاعفة.
وهذا ملاحظ في سائر البشر. فقلّما ينفكّ البشر عن فعل. ولكنه لا يتكلم إلاّ إذا بدا له ذلك.
والتقرير أكثر من ذلك كله، فإن ما رآه النبي ﷺ من أفعال الصحابة وتروكهم، وما رآه في بيئته من الأمور فلم يغيره، لا يحصى، والذي أنكره من ذلك قليل جدًا.
لكن ما نقل إلينا في دواوين السنة من الأفعال والتقارير، أقلّ من الأقوال أو يساويه. وقد جمع السيوطي عامة السنن المروية في جامعه الكبير، فكانت الروايات الفعلية مساويًا تقريبًا للروايات القولية.
ومع ذلك، فهل خدَمَ الأصوليون الأفعال التي نقلت كما خدموا الأقوال؟
إن كتب الأصول الشاملة تعرضت للأقوال، من جميع جوانبها تقريبًا. فبحثت في الأمر والنهي، والعموم والخصوص، والحقيقة والمجاز، وغيرها.
1 / 8
بل تعرضوا لألفاظٍ معينة ودلالتها، فتكلموا في من وإلى وعن وعلى وأمثالها.
وهناك المباحث التي تدخل فيها الأفعال مع الأقوال، كالحكم، والنسخ، والبيان والإجمال، وما سواها، كادت هذه المباحث أن تكون في كلام الأصوليين مقصورة على الأقوال، ولا يذكر الفعل فيها إلاّ لِمامًا، كأنه ضيف زائر، أو حبيب معاتَب.
وكتب الباحثون المتخصصون قديمًا وحديثًا في مباحث الأقوال، وأفردوا أكثرها بمؤلفات متخصصة. فكتبوا في الأمر والنهي، وفي الحقيقة والمجاز، وفي تفسير النصوص المجملة. وكتبوا في العموم والخصوص وغير ذلك.
وبالإضافة إلى ذلك كانت الدراسات اللغوية في النحو والبيان والمعاني تقوم بخدمة الأقوال، وبيان أدقّ الفروق في دلالاتها.
لقد حرمت الأفعال النبوية إلاّ من مجهودات ضئيلة، لقد مسّها الأصوليون مسًّا سريعًا في مؤلفاتهم الأصولية الشاملة.
فهل ذلك هو الوزن الحقيقيّ للأفعال؟ هل أعطيت الأفعال (كامل حقوقها وما ينبغي لها؟) إن استقراء مواقع الخلاف بين الفقهاء يظهر بجلاء، أن من أسباب الخلاف بينهم اختلافهم في الأحكام المستفادة من الأفعال، بل لعلّي لا أكون مبالِغًا إذا قلت: إنّ الخلاف في قواعد الأفعال هذه هو السبب الأكبر في الخلاف الفقهي.
ولم نجد، بعد طول البحث، أحدًا خصّ الأفعال بمؤلّف خاص، ما عدا اثنين من فضلاء المتأخرين، أحدهما الشيخ أبو شامة المقدسي، من رجال القرن السابع. ورسالته في ستين ورقة تقريبًا. والآخر من رجال القرن الثامن وهو الحافظ العلائيّ، ورسالته في نحو ثلاثين ورقة.
لم يُغَطِّ المؤلفان المذكورات جميع نواحي مباحث الأفعال، وكان بحثهما في المواضع التي طرقاها قاصرًا من جهات.
1 / 9
لقد كان ذلك كله حافزًا لاختيار الأفعال النبوية موضوعًا لدراسة أصولية، أخدم بها السنة المطهرة.
وقد سرت في عملي بحماس شديد شاعرًا بعظم المهمة، ناظرًا إلى الفراغ الكبير الذي ينتظر السداد.
لقد كان السير في الطريق الممهّدة سيرًا رفيقًا. أما الفراغ الذي لم يطرق من قبل فقد كان السير فيه عسيرًا مضلِّلًا، لولا عون الله وتسديده وتوفيقه.
وحرصًا على الطريق الممهّدة، لم أشأ أن أبدأ السير قبل أن أطّلع على كتابات شاملة في الأفعال، فحرصت كل الحرص على الحصول على رسالتي الحافظ العلائي وأبي شامة.
أما الأولى فقد حصلت عليها بيسر، إذ وجدتها هنا بالقاهرة.
وأما الأخرى، فقد طال البحث عنها في مكتبات العالم العربي فلم توجد فيه. ثم يسّر الله الكريم العثور عليها صدفة في إحدى المكتبات النائية في أوروبا، ولعلها النسخة الوحيدة في العالم من المؤلف المذكور. فحصّلت صورتها بعد عناء شديد.
إلاّ أنه قد تبيّن أن كلًا من الرسالتين المذكورتين عجالة، تغني من جوع ولكنها لا تُسمِن، وتنقع الغلة دون أن تعطي الريّ أو تشفي الصدر.
واستعنت بالله.
ورأيت أن من الأفعال ما ليس في فعليّته خفاء، كالصلاة والصوم والجهاد والركوع والسجود والأكل والشرب والنوم.
وأنّ من الأفعال ما اختلف في أنه فعل أو ليس بفعل كالترك والكتابة والإشارة والسكوت والإقرار.
فخصصت النوع الأول بباب وسمّيته باب الأفعال الصريحة.
1 / 10
وخصصت النوع الثاني بباب وسمّيته باب الأفعال غير الصريحة.
وجعلت للتعارض بين الأفعال وما سواها من الدلائل بابًا ثالثًا.
وقد مهّدت للرسالة بتعريف السنة لغة واصطلاحًا. وبيان حجية السنة إجمالًا ومنزلتها من القرآن. وفي تحرير المهمات النبوية وبيان دور الأفعال في أدائها على الوجه الأكمل.
وأما الباب الأول وهو باب الأفعال الصريحة فقد انتظم في تسعة فصول:
الفصل الأول تعرضت فيه للبيان بالأفعال في حالة انفرادها أو اجتماعها مختلفة أو متفقة. وفي حال اجتماعها مع الأقوال.
والفصل الثاني تعرضت فيه لأحكام أفعال النبي ﷺ. فأوضحت أن فعله قد يصدر عن النصوص القرآنية، أو عن اجتهاد، أو تفويض، وأنه قد يصدر على أساس مرتبة العفو، أي عدم الحكم.
وبينت في الفصل الثاني أن الأفعال التي تصدر عنه ﷺ، إما أن تكون من قبيل الواجبات، أو المندوبات، أو المباحات، وتعرضت للعصمة عن المكروهات والمحرمات.
وذكرت الطرق التي يتعيّن بها حكم فعله ﷺ. فحصرت ذلك، وناقشت النظريات التي أُورِدَت في أماكن شتى من كلام الأصوليين حول ذلك.
وفي الفصل الثالث بيّنت أن الأفعال النبوية من حيث الجملة حجّة شرعية. وناقشت المخالفين في ذلك. وأوردت الأدلة المقنعة.
وفي الفصل الرابع قسّمت الأفعال النبوية الصريحة عشرة أقسام: الفعل الجبِلّيّ. والعاديّ. والدنيويّ. والخصائص. والمعجزات. والفعل البيانيّ. والامتثاليّ. والمتعدّي. والمفعول لانتظار الوحي. ثم الفعل المجرّد.
وخصصت كل واحد منها بمبحث خاص أوضحت ما يستدل به منها وما لا يستدل به، وكيفية ذلك.
1 / 11
غير أني خصصت الفعل المجرّد بفصل خاص هو الفصل الخامس، لمَّا أنه لبُّ باب الأفعال، وهو الذي يقع فيه الخلاف.
وفي الفصل السادس تحدثت عن الأحكام التي يصح استفادتها من الأفعال، ومن أين يؤخذ كل منها، سواء الأفعال التكليفية والوضعية.
وفي الفصل السابع تحدثت عن صفة الدلالة الفعليّة، وطبيعتها، وهل تنتمي إلى الدلالة المطابقيّة أو التضمنيّة أو الالتزامية. وذكرت أن الفعل قد يدل بالمفهوم. وبيّنت كيفية انسحاب حكم الفعل النبويّ على أفعال الأمة.
وتعرضت في الفصل الثامن لدلالة متعلّقات الفعل النبوي. فذكرت دلالة سبب الفعل، وفاعله، ومفعوله، ومكانه، وزمانه، وهيئته، وما يقارنه، وأدواته المادّية، وعدد الفعل ومقداره.
وفي الفصل التاسع ذكرت مباحث متنوّعة تتعلق بالأفعال، فعقدت مبحثًا بيّنْتُ فيه للمجتهد الطريق العمليَّ الذي يسلكه لاستفادة الحكم من الفعل النبويّ؛
ومبحثًا آخر للاعتراضات التي تورد على الاستدلال بالأفعال، وكيف الجواب عنها.
ومبحثًا ثالثًا لنقل الفعل النبوي، وما قد يقع من الخلل في أدوات النقل وعباراته، وما يحصل من الأوهام بسبب ذلك، ليحصل التنبه لها، والحذر من الوقوع فيها.
أما الباب الثاني: فقد عقدته للأفعال غير الصريحة وهي الكتابة والإشارة والأوجه الفعلية للقول، والترك، والسكوت، والتقرير، والهم بالفعل. وعقدت لكل منها فصلًا. ثم عقدت فصلًا لأمور تلحق بالأفعال النبوية.
أما الباب الثالث: فقد عقدته للتعارض بين الأفعال النبوية بعضها ببعض، والتعارض بينها وبين الأدلة الأخرى. وانتظم عندي في أربعة فصول. وألحقت به قطعة من رسالة الحافظ العلائيّ المسمّاة (تفصيل الإجمال في تعارض
1 / 12
الأقوال والأفعال) رأيت من الضروري أن تكون بين يدَيْ من يطّلع على هذا البحث.
وقد كان مما أخذته على نفسي في هذا البحث أن أزن الأمور بما تستحقه، فلا أستقلّ قولًا للجهالة بقائله، أو لأنه نُبِزَ بوصف غير لائق، ولا أغترّ بقول نسب إلى الجمهور أو الكثير، أو إلى فلان أو فلان من المشهورين.
وقد أوردت من الفروع الفقهية أمثلة تتّضح بها القواعد، ويبين بها المراد. وأخذت على نفسي ألاّ أستطرد وراء تلك الفروع نقاشًا واستدلالًا إلاّ بمقدار ما تتضح به القاعدة الأصولية ويبين به المراد منها. والذي يريد دراسة الفرع الفقهيّ ينبغي أن يأخذه من مظانّه من كتب الفقه.
وخرّجت ما ورد في هذه الرسالة من الآيات والأحاديث. وترجمت للأعلام المستغربة نوعًا ما، وتركت الترجمة للمشهورين اكتفاء بشهرتهم.
ولست أدّعي العصمة، ولا أزعم الإحاطة. وإنما أدّعي وأزعم أنني بذلت جهدًا في جمع شمل نواحي هذا الموضوع الهام، وأنني حللت جزءًا من تلك المشكلات، وسلطت الأضواء على مواضع الإشكال الأخرى.
وليس ذلك بحولي ولا بقوّتي، وإنما بفضل الله وعونه وتيسيره لكل صعب، لمست ذلك عندما رأيت تفتّح المقفلات، وتيسير الشدائد، وتسهيل كل عسير.
وأتقدم بالشكر إلى أستاذي فضيلة الشيخ عبد الغني محمد عبد الخالق، الذي كان لتشجيعه وتوجيهه أثره الكبير في خروج هذه الرسالة على هذا الوضع، ولكل من أسدى في ذلك يدًا.
"والحمد لله أولًا وآخرًا"
القاهرة - مدينة نصر
يوم الخميس ١٧ من رجب الحرام ١٣٩٦ هـ
١٥ من يوليو ١٩٧٦ م
1 / 13
تمهيد
١ - السنة في اللغة وفي الاصطلاح.
٢ - حجية السنة إجمالًا، ومنزلتها من القرآن.
٣ - تحرير المهمات النبوية وبيان دور الأفعال في أدائها على الوجه الأكمل.
٤ - تعريف (الفعل) وانقسامه إلى صريح وغير صريح.
٥ - الأفعال النبوية في الدراسات الحديثية والأصولية.
1 / 15
المبحث الأول السنّة فى اللغة وفي الاصطلاح
السنة في اللغة الطريق: المسلوك حسيًا كان أو معنويًا (١). قال صاحب اللسان: "السنة، وسُنن الطريق وسَنَنُهُ، نهجه. وقال شمر: السنة في الأصل سنة الطريق. وهو طريق سنّه أوائل الناس فصار مسلكًا لمن بعدهم".
وقال اللُه تعالى: ﴿سنة الله في الذين خلوا من قبل﴾ (٢) أي: "سن الله في الذين نافقوا الأنبياء وأرجفوا بهم أن يقتلوا أينما وجدوا" (٣). وقال أيضًا: فهل ينظرون إلا سنة الأولين ﴿فلن تجد لسنة الله تبديلًا ولن تجد لسنة الله تحويلًا﴾ (٤)، أي: "إنما ينتظرون العذاب الذي نزل بالكفار الأولين. فقد أجرى الله العذاب على الكفار، وجعل ذلك سنة فيهم، فهو يعذِّب بمثله من استحقه. لا يقدر أحد أن يبدّل ذلك" (٥).
وسواء أكانت الطريقة حميدة أو ذميمة، فكلاهما في اللغة سنة، يدلّ للنوع الأول قول لبيد في معلقته:
من معشر سنت لهم آباؤهم ... ولكل قوم سنة وإمامها
_________
(١) المعاني الحسية الواردة في اللغة لمادة (سنن) ثلاثة:
١ - السن بمعنى تحديد السكين ونحوها.
٢ - السنة بمعنى الحظ. وقد ذكر في اللسان من معاني السنة الخط في جلد الحمار (الوحشي).
٣ - السنن والسنة بمعنى الطريق.
(٢) سورة الأحزاب: آية ٣٨ و٦٢
(٣) تفسير الآية عن لسان العرب.
(٤) سورة فاطر: آية ٤٣.
(٥) تفسير هذه الآية عن القرطبي ١٤/ ٣٦٠
1 / 17
ويدل للنوع الثاني قول خالد بن زهير:
ولا تَعْجَبَنّ من سيرةٍ أنتَ سرتَها (١) ... فأول راضٍ سُنّةً مَنْ يسيرها
بل ورد هذا الاستعمال في السنة، كما في حديث الصحيحين، أنه ﷺ قال: "من سنّ في الإسلام سنّة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سنّ في الإسلام سنّة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة". وقال ﷺ: "لتتبعُنّ سُنن الذين من قبلكم، شبرًا بشبر، وذراعًا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضبّ لدخلتموه" (٢).
وبهذا يتبيّن ضعف قول الخطابي: "إن "السنة" في اللغة للطريقة المحمودة خاصة" (٣).
"السنة" في الاصطلاح:
السنة في اصطلاح الأصوليين ما صدر عن النبي ﷺ غير القرآن من الأقوال والأفعال.
وهي في اصطلاح المحدّثين لمعنى أوسع من ذلك، إذ هي عندهم: "ما أضيف إلى النبي ﷺ، من قول، أو فعل، أو صفة خَلْقيّة، أو خُلُقيّة، وما يتصل بالرسالة من أحواله الشريفة قبل البعثة ونحو ذلك" (٤). وإنما جعلوها كذلك لأنهم أهل العناية برواية الأخبار.
وتطلق السنة على ما يقابل البدعة. وبذلك تصدق على كل الشريعة، من قرآن، وحديث ثابت، واجتهاد صحيح. ومن هنا استعمل الاصطلاح المشهور
_________
(١) هذه رواية ابن قتيبة في (عيون الأخبار) ٤/ ١٠٨ ولكن في (الشعر والشعراء): و(الأغاني. ط بولاق ٦/ ٦٢ - ٦٣): فلا تجزعن من سنة أنت سرتها. وللبيت قصة، فلتراجع في هذه المواضع.
(٢) متفق عليه (الفتح الكبير).
(٣) إرشاد الفحول ص ٣٣
(٤) محمد محمد أبو زهو: الحديث والمحدثون / ١٠
1 / 18
"أهل السنة" تمييزًا لهم عن المبتدعة في الأعمال أو الاعتقادات، كالمعتزلة، والشيعة، والخوارج. ولهذا الاستعمال أصل في الحديث النبوي، قال ﷺ: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي. تَمَسّكوا بها، وعَضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة" (١). فقابل السنن بالبدع.
وفي الصدر الأول كانت السنّة تطلق على طريقة الخلفاء الراشدين، بالإضافة إلى طريقة النبي ﷺ. وقد روي ذلك من قول النبي ﷺ (سنة الخلفاء الراشدين) كما في الحديث الآنف الذكر. وقال علي بن أبي طالب ﵁: "جلَد النبي ﷺ أربعين، وجلد أبو بكر أربعين، وجلد عمر ثمانين، وكلٌّ سنة" (٢). إلا أنه لما أخذ الفقهاء فيما بعد بالمبدأ القائل بأنه لا حجّة في قول أحد بعد النبي ﷺ، قُصِرت دلالة لفظ "السنة" على أقوالِ وأفعالِ النبي ﷺ وحده. قال ابن فارس: "كره العلماء قول من قال: سنة أبي بكر وعمر، وإنما يقال سنة الله وسنة رسوله" (٣).
أما في اصطلاح الفقهاء فالسنة بمعنى النافلة والمندوب، أي ما يتقرب به إلى الله تعالى مما ليس بمتحتم على المسلم.
وبعضهم جعله لنوع خاص من القربة هي ما داوم عليه النبي ﷺ من التعبدات، كالوتر والرواتب وصوم الاثنين والخميس، دون ما لم يداوم عليه، كالنوافل المطلقة. واستعمل الفقهاء "السنة" في باب الطلاق خاصة للدلالة على الجواز الشرعي، فقالوا: طلاق السنة، وقابلوه بقولهم: طلاق البدعة، وهو غير المشروع، كالطلاق في الحيض، وطلاق الثلاث دفعة واحدة.
هذا ويلاحظ على تعريف الأصوليين للسنة، أنه يدخل فيه ما لم يكن من أقوال النبي ﷺ وأفعاله حجة، كأفعاله وأقواله في شؤون الدنيا الصرفة، لقوله:
_________
(١) رواه أبو داود ١٢/ ٣٦٠ وحسنه الترمذي. ورواه الترمذي وابن ماجه (الفتح الكبير).
(٢) رواه مسلم (نيل الأوطار ٧/ ١٤٧).
(٣) إرشاد الفحول ص ٦
1 / 19
"أنتم أعلم بأمر دنياكم" (١). والأولى إخراج مثل هذا (٢)، ولعلّهم إنما تركوا التصريح به لظهوره، لأن من ترك العمل بما لا حجة فيه، لا يقال إنه تارك للسنة. ويشير إلى هذا قول عائشة: "نزول الأبطح ليس بسنّة، إنما نزله رسول الله ﷺ لأنه كان أسمح لخروجه" (٣). مع أن النبي ﷺ فعله.
ويلاحظ أيضًا أن أقواله وأفعاله ﷺ، قبل النبوة، ليست بتشريع، وتخرج بقولهم في التعريف (ما صدر عن النبي) فإن ما صدر عنه ﷺ قبل النبوة لا يصدق عليه أنه (صادر عن النبي).
وملاحظة ثالثة، وهي أن قول المحدّثين (ما أضيف إلى النبي ﷺ) أشمل مما قال الأصوليون، فالحديث عند المحدثين سنة بقطع النظر عن ثبوته. ولا يكون سنة عند الأصوليين إلاّ بقيد ثبوته عن النبي ﷺ، ومن أجل ذلك عبّروا بقولهم (ما صدر عن النبي ﷺ).
وملاحظة رابعة، وهي أن بعض الأصوليين قال في تعريف السنة: إنها ما صدر عن النبي ﷺ من قول أو فعل أو تقرير، وبعضهم يضيف الترك، وبعضهم يضيف الهمّ والإشارة ونحو ذلك. والأولى ترك ذكر ما عدا الأقوال والأفعال، كما صنع البيضاوي في المنهاج، لأن كلّ ما ذكر مما سواهما فهو فعل على الراجح، كما سنذكره في مواضعه إن شاء الله.
وأما من ادّعى أن شيئًا مما ذكر ليس فعلًا، وأنه حجة، فيلزمه ذكره في التعريف.
_________
(١) رواه مسلم ١٦/ ١١٨
(٢) عبد الوهاب خلاف نص على أن ذلك "من السنة ولكنه ليس تشريعًا واجبًا اتباعه". وعندي أن ذلك هو من "السنة" في اصطلاح المحدثين لا في اصطلاح الأصوليين لأن الأصوليين يعتمدون (الحجية). وقد أشار إلى اعتبار قيد الحجية في التعريف صاحب تيسير التحرير ٣/ ٢٠
(٣) رواه مسلم ٩/ ٥٨
1 / 20
المبحث الثاني حجية السنّة إجمالًا
الاحتجاج بالسنة الواردة عن النبي ﷺ، واعتبارها أحد أصول الشريعة الإسلاميّة الدالة على الأحكام الشرعية، هو دأب المسلمين قديمًا وحديثًا. والذين يعرضون عن اتخاذها كذلك، ولا يعتبرونها عليهم حجة، قوم زائغون منحرفون عن الحق. بل قال الشوكاني: "إن ثبوت حجيّتها، واستقلالها بتشريع الأحكام، ضرورة دينية، ولا يخالف في ذلك إلّا من لا حظّ له في دين الإسلام" (١).
القرآنيون:
وقد نبغ بين المسلمين قوم سمّوا أنفسهم "القرآنيين"، ادّعوا أن الشريعة لا تؤخذ إلّا من القرآن، وأن المسلمين ليسوا بحاجة إلى السنة. وصنعوا من فهمهم المجرد للقرآن تركيبة شرعيّة في الطهارات والصلاة والزكاة والحج وغيرها، يعلم المطّلع عليها يقينًا أنها مخالفة لما كان عليه رسول الله ﷺ وأصحابه. ولهؤلاء القوم المعاصرين المذكورين سلف فيمن مضى، لم يزالوا تذرّ نجومهم، فتطمسها شموس الحق من أئمة الهدى في كل زمان. وقد ألّف السيوطي رسالته المشهورة "مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة" للرد على من وجد من دعاة هذه الفكرة في زمانه من الرافضة. وذكر فيه أن أصحاب هذا الرأي من الزنادقة والرافضة، كانوا موجودين
_________
(١) إرشاد الفحول ص ٣٣
1 / 21
بكثرة في زمن الأئمة الأربعة فمن بعدهم "وتصدى لهم الأئمة الأربعة، وأصحابهم، في دروسهم ومناظراتهم وتصانيفهم" (١).
وذكر الشاطبيّ (٢) طائفة شبيهًا حالها بحال هؤلاء، إلّا أنها كانت تقبل الحديث إذا وافق القرآن. ومع ذلك فقد قال الشاطبي عنهم: "أنهم قوم لا خلاق لهم". ولا شك أنهم أهل لهذا الحكم.
ومما تمسّك به هؤلاء ظواهر قرآنية، نحو ظاهر قوله تعالى: ﴿ما فرطنا في الكتاب من شيء﴾ (٣) وقوله: ﴿ونزلنا عليك الكتاب تبيانًا لكل شيء﴾ (٤).
والجواب أن الآية الأولى ليس المراد بالكتاب فيها القرآن، بل اللوح المحفوظ، كما هو واضح من السياق. وكان القرآن تبيانًا لكل شيء بما دل عليه من الأدلة الأخرى، وهي السنة والإجماع والقياس.
ومما تمسّكوا به أيضًا أحاديث ضعيفة مردودة، كما روي أن النبي ﷺ قال: "ما أتاكم عني فأعرضوه على كتاب الله، فإن وافق كتاب الله فأنا قلته، وإن خالف كتاب الله فلم أقله أنا، وكيف أخالف كتاب الله وبه هداني الله؟ ". قال عبد الرحمن بن مهدي: "الزنادقة وضعوا هذا الحديث" (٥). وقال الصَّغَاني: "هذا الحديث موضوع" (٦).
ومنه ما روي أن النبي ﷺ قال: "لا تكتبوا عني شيئًا إلا القرآن، فمن كتب عني شيئًا غير القرآن فليمحه" (٧). وهو معارض بقوله ﷺ: "اكتبوا لأبي شاهٍ" (٨). وإذنه لعبد الله بن عمرو (٩) في كتابة ما يسمعه منه ﷺ.
_________
(١) السيوطي: مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة ص ٣، ٤
(٢) الموافقات ٤/ ١٧، ١٨
(٣) سورة الأنعام: آية ٣٨
(٤) سورة النحل: آية ٨٩
(٥) الموافقات للشاطبي ٤/ ١٨
(٦) المقاصد الحسنة. وانظر أيضًا: السيوطي: مفتاح الجنة، ص ١٤
(٧) رواه أحمد ومسلم (الفتح الكبير).
(٨) رواه البخاري (فتح الباري) ط مصطفى الحلبي ١/ ٢١٦
(٩) رواه أحمد وأبو داود (فتح الباري ط مصطفى الحلبي ١/ ٢١٨)
1 / 22