افتتحت سور من القرآن الكريم بأحرف مقطعة، وقد ذهب المفسرون فيها مذهبين: مذهب من يعدها من المتشابه الذي استأثر الله بعلمه، ومذهب من يتناولها بالتفسير؛ كسائر الآيات التي هي مجال لأنظار الراسخين في العلم، وجمهور أهل هذا المذهب يعدونها اسما للسورة، ويزاد على هذا: أنها اسم فيه إشعار بأن القرآن الذي تحداهم الله به هو من جنس الكلام المركب من هذه الأحرف التي يعرفونها، ويقدرون على تأليف الكلام منها، فإذا عجزوا عن الإتيان بسورة من مثله، فذلك لبلوغه في البلاغة والحكمة مرتبة يقف فصحاؤهم دونها بمراحل فسيحة، وتصدير السورة بمثل هذه الأحرف المقطعة يجذب أنظار المعرضين عن استماع القرآن حين يتلى عليهم، إذ يطرق أسماعهم لأول التلاوة ألفاظ غير مألوفة في مجاري كلامهم، وذلك # مما يلفت أنظارهم؛ ليتبينوا ماذا يراد منها، فيستمعوا حكما وحججا قد تكون أسباب هدايتهم.
{ذلك الكتاب}:
الكتاب: المكتوب. والمراد: القرآن المجيد، فإنه كان يكتب حين نزوله في الألواح ونحوها. وأتى به معرفا، ولم يقل: ذلك كتاب؛ تنبيها لكماله في المعنى الذي تتفاضل فيه الكتب، وهو الهداية والحكمة، كما تقول: زيد الرجل؛ أي: الكامل في الرجولة. وأشير إلى الكتاب باسم الإشارة المقرون بالكاف الدالة على بعد المشار إليه؛ تنزيلا لعلو مرتبته، وبعدها في الكمال منزلة البعد المحسوس.
{لا ريب فيه}:
الريب: الشك. والقرآن لروعة حكمته، وسطوع حجته، لا يرتاب ذو عقل متدبر في كونه وحيا سماويا، ومطلع هداية وإصلاح. فالآية تنفي الريب في القرآن عمن شأنهم أن يتدبروه، ويقبلوا على النظر فيه بروية، ومن ارتاب في القرآن، فلأنه لم يقبل عليه بأذن واعية، أو بصيرة نافذة.
{هدى للمتقين}:
الهدى في الأصل: مصدر هدى يهدي، واستعمل هنا بمعنى: هاد، مبالغة في الوصف بالهداية. والعرب يستعملون المصدر في معنى اسم الفاعل، مبالغة في وصف الشيء بما صدر منه من الأفعال، أو قام به من الصفات. والمتقون: جمع متق؛ أي: متصف بالتقوى. والتقوى درجات، أدناها: اجتناب الشرك، وأعلاها: اجتناب ما نهى الله عنه، والقيام بما أمر به، حسب الاستطاعة. وأشار إلى هذا من قال: "التقوى أن لا يراك حيث نهاك، # ولا يفقدك حيث أمرك".
مخ ۱۶