قلت: نعم يا سيدتي.
قالت: هل أتيت وحدك؟
قلت: كلا، فقد صحبني قريب لي، وسيعود فيأتيني بملابسي.
قالت: اذهبي إذن يا ابنتي، وأخبريه بما اتفقنا عليه.
فقمت من فوري إلى الممثل الشيخ، وأخبرته بما عزمت عليه من الإقامة عند الكونتيس، فكان بيني وبينه جدال عنيف أسفر عن امتثاله لي بعد أن علم قصدي، فأوصيته بكتمان ذلك عن فيلكس وعن كل أفراد الجوقة.
فقال: إذن ماذا أقول للمدير؟
قلت: قل له إني أشتغل في مهمة تعود عليهم جميعهم بالربح الجزيل، فانصرف، وعدت إلى الكونتيس، فأقمت عندها بقية ذلك اليوم أسليها بالقراءة؛ لأن نظرها كان قد تأثر من كثرة البكاء، فلم تعد قادرة على القراءة الكثيرة.
وفي المساء دخلت إلى مضجعي في غرفة ملتصقة بغرفة الكونتيس، وحاولت الرقاد فلم أستطع، وبعد ساعة سمعت الكونتيس تصلي بصوت مرتفع، ثم ختمت صلاتها بمناجاة زوجها فقالت: أيها الزوج الحبيب، لقد قدر الله لي الشقاء حتى في آخر أيامي، فهل يريد بذلك إنذاري بأني لاحقة بك قريبا إلى دار الخلود؟ إني أحلم في كل ليلة منذ بضعة أيام حلما واحدا لا يتغير، وهو أني أرى ولدنا ولا أراه، ذلك الطفل الصغير الذي كنت أركع وإياك عند مهده، بل أراه غلاما كبيرا يشبهك أدق الشبه، كأنه أنت، وكنت أسمعه يقول لي وهو يبتسم: لا تجزعي يا أماه فهذا أنا ... أنا ابنك، فإني لم أمت! فكنت أسمع هذا الصوت، ولا أجسر أن أتحرك في مضجعي، وأقول رباه: ما هذا الحلم الرهيب؟!
ثم سمعتها تبكي بكاء يقطع القلوب شفقة، حتى لقد هممت أن أقوم إليها وأقول لها: ليس ذلك حلما أيتها الكونتيس، بل حقيقة، ولكني خشيت أن يقتلها الفرح، فقد سمعت قولا لحكيم من شعراء العرب مفاده «ومن فرح النفس ما يقتل»، فعدلت عن عزمي، وعولت على أن أتدرج في إخبارها وقاية لها من تأثير هذا النبأ.
وفي صباح اليوم التالي صحوت وصحت الكونتيس، وذهبت إليها في غرفة القراءة، وبينما أنا أقرأ لها سيرة من سير الشهداء، دخل خادم يحمل كتابا على صينية من الفضة، فتناولته الكونتيس، ونظرت في ختم البريد فاصفر وجهها؛ إذ كان هذا الكتاب واردا من «سانت مرتين» وهي القرية التي نكبت فيها، ودفعت إلي الكتاب كي أقرأه، لها ففضضته، ولم أكد أقرأ السطر الأول منه حتى اضطرب وجهي، فاختطفته الكونتيس من يدي وقالت: لقد توالت علي الأرزاء حتى لم أعد أخافها.
ناپیژندل شوی مخ