وقس على ذلك سائر طردياته وهي من أجود منظوماته، وباعثها كلها ما علمنا من حب العرض الفني المتمكن من خليقته من ناحية الطبيعة النرجسية والهبة الفنية، فلولا أن رؤبة قد أغرب في رجزه، ولولا أن الطرد ينظم في الرجز، ولولا أن أبا نواس قد حفظ الغريب وأحب أن يعرضه، فلم يجد لغرضه بابا غير هذا الباب، لما ألح على هذا الباب ينظم فيه، ويعيد النظم على السهل والصعب من قوافيه.
وقد أجمع مؤرخو الأدب لعصر أبي نواس على علمه بالغريب، وأغرق بعضهم في توسعة نصيبه من العلم به حتى زعم أنه لم ينظم الشعر إلا بعد أن حفظ ألف أرجوزة، ثم أمره أستاذه خلف الأحمر بنسيانها، وأغرق هو في مثل هذه المبالغة فقال: إنه لم ينظم الشعر إلا بعد أن روى لأكثر من ستين شاعرة، وناهيك عن الشعراء الفحول، فإذا تركنا جانب الإغراق من هذه الأقاويل، فالذي يبقى ثابتا لا مبالغة فيه أنه كان وافر العلم بالغريب والأراجيز، وأنه احتاج إلى العرض في هذا الباب؛ لأنه كان في شعره كله سهلا قليل الإغراب لا يطرق الحوشى من الألفاظ إلا في الندرة النادرة، ولا بد هنا من ملاحظتين على تقليد أبي نواس للأقدمين حين يكون هذا التقليد سبيلا للعرض ولفت النظر، فأولى هاتين الملاحظتين أنه كان حريصا على محاكاة الأعراب في أسلوبه ونسي هنا الإزراء على جفاء الأعراب؛ ولأن العرض في باب الطرد لا يأتي له مع نبذ جفاء الأعراب، والملاحظة الثانية أنه اجتنب التصرف في مطالع الأراجيز، فهي تحكي مطالع الأقدمين في هذا الباب، ومنها تكراره «أنعت كلبا» و«قد أغتدي» و«يا رب» و«لما»، وكلها مما تفتح به الأراجيز، وهو يحافظ عليها حتى حين يترك الأرجوزة إلى ما يشبهها من المجزوءات كما قال:
ربما أغدو مع كلبي
طالبا للصيد في صحبي
ثم يعود في هذا الوزن الخفيف إلى الإغراب في الغريب فيقول:
فسعونا للحزيز به
7
فدفعناه على أظب
فاستدرته فدر لها
يلطم الرفقين بالترب
ناپیژندل شوی مخ