ليس لمن ليست له حيلة
ميسورة خير من الصبر
فغنيته وهو يبكي وينشج، ثم شرب قدحا آخر ثم قال: غنني فديتك في قولي:
خليلي ما لي لا تزال مضرتي
تكون من الأقدار حتما من الحتم
فغنيته إياه.
وما زال يقترح علي كل صوت غني به في شعره فأغنيه، ويشرب ويبكي حتى صارت العتمة، فقال: «أحب أن تصبر حتى ترى ما أصنع، فجلست، فأمر ابنه وغلامه فكسر كل ما بين أيدينا من النبيذ وآلته والملاهي، ثم أمر بإخراج كل ما في بيته من النبيذ وآلته، فأخرج جميعه فما زال يكسره ويصب النبيذ وهو يبكي حتى لم يبق من ذلك شيء، ثم نزع ثيابه واغتسل، ثم لبس ثيابا بيضاء من صوف، ثم عانقني وبكى، ثم قال: «السلام عليك يا حبيبي وفرحي من الناس كلهم، سلام الفراق الذي لا لقاء بعده» وجعل يبكي ويقول: «هذا آخر العهد بك في حالة تعاشر أهل الدنيا»، فظننت أنها بعض حماقاته وانصرفت وما لقيته زمانا، ثم تشوقته، فأتيته فاستأذنت عليه، فأذن لي، فدخلت فإذا هو قد أخذ قوصرتين - أي: وعائين من قصب - وثقب إحداهما وأدخل رأسه ويديه فيها وأقامها مقام القميص، وثقب الأخرى وأخرج رجليه منها وأقامها مقام السراويل. فلما رأيته نسبت كل ما عندي من الغم عليه والوحشة لعشرته، وضحكت والله ضحكا ما ضحكت مثله قط، فقال: «من أي شيء تضحك؟» فقلت: «سخن الله عينك؟ هذا أي شيء هو؟ من بلغك عنه أنه فعل مثل هذا من الأنبياء والزهاد والصحابة أو المجانين؟! انزع عنك هذا يا سخين العين» فكأنما استحى مني، ثم بلغني أنه جلس حجاما، فجهدت أن أراه بتلك الحال فلم أره، ثم مرض فبلغني أنه اشتهى أن أغنيه فأتيته عائدا فخرج إلي رسوله يقول: «إن دخلت إلي جددت لي حزنا، وتاقت نفسي من سماعك إلى ما قد غلبتها عليه، وأنا أستودعك الله وأعتذر إليك من ترك الالتقاء، ثم كان آخر عهدي به».»
وهذه القصة التي قصها علينا مخارق تمثل لنا نسخة من نسخ العرض المضطرب بين المجون والنسك، وترينا وشيجة من وشائج القرابة في الانحراف بين نفس أبي العتاهية ونفس أبي نواس، وسنرى فيما بعد أن القرابة بينهما أوثق من ذلك، ولا سيما في باب النسك والتوبة، وأن الحكمة التي تقول لنا: إن الجنون فنون أعمق وأصدق مما أراد القائلون.
وبديه أن أبا نواس لم تكن به حاجة إلى طبيعة العرض في معظم الأبواب، التي قال أبو العتاهية: إنه ترك النظم فيها كالمديح والهجاء وما فيه الشعراء، فهذه الأبواب قد اصطلح الناس جميعا على بداهتها، وفهموا أنها تدور على العطاء والمنح والمودة والجفاء، فلا حاجة للشاعر إلى خلق أسبابها من عنده، ولكن بابا من الأبواب تركه أبو العتاهية، وأكثر أبو نواس من النظم فيه قد كان يصدر منه عن طبيعة العرض، ولا تدعوه إليه حاجة الشاعر إلى الكسب أو إلى التسلح بالمدح والهجاء؛ لترغيب الأصدقاء وترهيب الأعداء، وذلك الباب هو باب الطرد ووصف الصيد، فكل بواعثه عند أبي نواس إنما هي من قبيل العرض الفني بغير مشاركة من البواعث «المعيشية» المصطلح عليها بين معاصريها.
ولا يعتمد الناقد على تعليل قصائد الطرد بطبيعة العرض لو كان أبو نواس من هواة الصيد في غير صحبة يجاريها، كما يجاري كل صحبة.
ناپیژندل شوی مخ