فنحن كذلك حتى ضرب الطبل للرحيل، فانصرفت بكمد قاتل وكرب خابل وأنا أقول:
وا حسرتا مما يكن فؤادي
أزف الرحيل بعبرتي وبعادي
فلما قضينا حجنا وانصرفنا راجعين مررنا بذلك المنزل، وقد تضاعف حسنه ونمت بهجته، فقلت لصاحبي: امض بنا إلى صاحبتنا، فلما أشرفنا على الخيام وصعدنا ربوة ونزلنا وهدة إذا هي تتهادى بين خمس ما تصلح أن تكون خادمة لأدناهن، وهن يجنين من نور ذلك الزهر، فلما رأيننا وقفن، وقلنا: السلام عليكن، فقالت من بينهن: وعليك السلام، ألست صاحبي قلت: بلى! قلن: وتعرفينه؟ قالت: نعم، وقصت عليهن القصة ما خرمت حرفا. قلن: ويحك! أما زودته شيئا يتعلل به؟ قالت: بل زودته لحدا ضامرا وموتا حاضرا! فانبرت لها أنضرهن خدا وأرشقهن قدا، وأسحرهن طرفا وأبرعهن شكلا، فقالت: والله ما أحسنت بدءا ولا أجملت عودا، ولقد أسأت في الرد ولم تكافئيه على الود، فما عليك لو أسعفته بطلبته في مودته؟ وإن معك من لا ينم عليك. فقالت: أما والله لا أفعل من ذلك شيئا حتى تشركيني في حلوه ومره! قالت لها: تلك إذن قسمة ضيزى! تعشقين أنت وأوخذ أنا؟ قالت أخرى منهن: قد أطلتن الخطاب في غير أرب، فسلن الرجل عن نيته وقصده وبغيته، فلعله لغير ما أنتما فيه قصد. فقلن: حياك الله وأنعم بك عينا، ممن؟ ومن أنت؟ وما تعاني، وإلام قصدت؟ قلت: أما الاسم فالحسن بن هانئ، من اليمن ثم من سعد العشيرة، وخير شعراء السلطان الأعظم، ومن يدنى مجلسه، ويتقى لسانه ويرهب جانبه، وأما قصدي فتبريد غلة وإطفاء لوعة قد أحرقت الكبد وأذابتها، قالت: لقد أضفت إلى حسن المنظر كرم المخبر، وأرجو أن يبلغك الله أمنيتك وتنال بغيتك، ثم أقبلت عليهم فقالت: ما واحدة منكن إلا ملتمسة مرغبة، فتعالين نشترك فيه ونتقارع عليه، فمن واقعتها القرعة منا كانت هي البادئة، فاقترعت فوقعت القرعة على المليحة التي قامت بأمري، فعلقن إزارا على باب الغار وأدخلت فيه وأبطأت علي، وجعلت أتشوف لدخول إحداهن علي، إذ دخل أسود كأنه سارية. ثم صحت بصاحبي وكان متدانيا. ووالله ما تخلصت منه حتى خرجنا من الغار، وإذا هن يتضاحكن ويتهادين إلى الخيمات، فقلت لصاحبي: من أين أقبل الأسود؟ قال: كان يرعى غنما إلى جانب الغار، فدعونه فوسوسن إليه شيئا فدخل عليك».
والقصة كلها كما يرى القارئ مقامة مؤلفة، وتلك علامة على تمكن شهوة الكلام عن الشاعر في سياق الخبر التاريخي، أو سياق الاختراع والتأليف.
وتتم الغرابة بالمصادر الأجنبية القليلة التي عنيت بأبي نواس من جانب الأدب، أو من جانب النوادر والأقاصيص الموضوعة، فإنها سايرت مصادر العربية في هذه النزعة، وأسندت إلى أبي نواس ما حدث وما لم يحدث، أو ما حدث منه وما حدث من غيره، ومنها رسالة إنجليزية طبعت في إحدى الجزر الهندية، وأهداها مؤلفها إلى ذكر الأستاذ «برتون» مترجم ألف ليلة وليلة، وقسمها إلى أخبار «أبو كريفية» تشبيها بالأخبار التي يدسها بعض الرواة على الكتب الدينية، وإلى أخبار خرافية من قبيل الأساطير والغرائب المروية عن عجائب المخلوقات، وهذه إحدى نوادرها «الأبوكريفية»:
كان أبو نواس يلهو ويقصف بين صحبه، فإذا الخليفة يفجؤهم بحضوره، ويسوءه ما يرى فيصيح بأبي نواس متأففا: ما أراك تصلح إلا أن تكون إماما للقوادين وقاضيا للفجرة الفاسقين، فأجابه أبو نواس وهو لا يعيى بالجواب على البديهة: وهل من قضية تعرضونها؟ فغضب الخليفة وأمر به من الغد حيث دخل الديوان أن يجردوه من ثيابه ويضعوا على ظهره بردعة حمار، ويطوفوا به بين الخدم والجواري؛ ليسخروا منه ويبعثوا به ثم يسلموه إلى الجلاد يطيح برأسه، ولكن أبا نواس الذي لا يغلب ظرفا وفكاهة لم يزل يلطف الجواري بدعابته وطرائف نكاته، ولم تزل هداياهن تنثال عليه حتى عاد من مطافه ممتلئ اليدين بالمال والجوهر، ورآه الوزير جعفر البرمكي وهو بهذه الحالة فسأله: فيم كان عقابه، ولأي شيء يحمل بردعة الحمار على ظهره؟ فأجابه في غير مهل: ما من شيء صنعت إلا أنني مدحت أمير المؤمنين، فخلع علي خلعة من خاصة ثيابه.
ونقلوا إلى الخليفة ما قال فضحك وعفا عنه وأمر له بهدية وخلعة سنية.
وهذه بعض النوادر التي جمعها المؤلف من إفريقية الشمالية، قيل: إن الشاعر كان يمشي في جنازة فسأله بعضهم: أيهما أكرم في تشييع الميت، أن تمشي أمام نعشه أو تتبعه؟
فقال:
ناپیژندل شوی مخ