فقال خالد: «إذا أسلم الدهاقين وأنجدونا بأموالهم ورجالهم فإنما ينجدون أنفسهم؛ لأنهم ينشئون دولة فارسية ترفع شأن الفرس.»
فقال الدهقان: «إني ضامن لكم إسلام معظم الدهاقين في خراسان، والأموال كثيرة.» ثم صفق فأتاه غلام، فأمره أن يستدعي خازنه.
فلما سمعه أبو مسلم يدعو خازنه أدرك أنه يريد أن يدفع إليه مالا على سبيل المساعدة، على جاري عادته في مثل هذا الحال، فأشار أبو مسلم إلى أحد الرجلين صاحبي الحزمة إشارة فهم غرضه منها، فخرج مهرولا ثم عاد ومعه رجلان قد تأبط أحدهما خريطة كبيرة كالكيس الكبير، لكنها فارغة، ورفيقه رجل قصير القامة في سمن قليل، وعليه قباء واسع، وعمامة كبيرة. وكان لقصره يكاد يجر قباءه جرا، ووراءه غلام يحمل دواة وقلما، فلما وصلوا إلى القاعة وقفوا في أحد جوانبها، فنادى أبو مسلم صاحب القباء قائلا: «تقدم يا إبراهيم واستلم من الدهقان ما جادت به نفسه في نصرة أهل البيت.»
وكان خازن الدهقان قد جاء وأسر إليه الدهقان كلاما، فرجع ثم جاء ومعه غلام يحمل أكياسا من جلد قد أثقلت كاهله حتى وضعها بين يدي الدهقان، فلما أمر أبو مسلم خازنه إبراهيم باستلام المال تقدم وأخذ في عد الأكياس وهي مختومة، وقد كتب على كل منها «ألف دينار يوسفية»، فبلغت 20 كيسا، فأشار إلى رفيقه والغلام الآخر، فتقدما وتعاونا على نقل الأكياس في الخريطة الكبرى، وتناول هو القلم والدواة وأخرج من تحت قبائه درجا كتب فيه عدد الأكياس وما تحويه من الدنانير.
وكان أبو مسلم في أثناء ذلك مطرقا كأنه يفكر في أمر يهمه، وقد زاده التفكير هيبة وشغله عما حوله. وكانت جلنار قد تعبت من الوقوف، فجلست على وسادة بجانب والدها وهي تختلس النظر إلى أبي مسلم، وهو لا ينتبه لها. وكان خالد قد أدرك ذلك منها، وفطن لما يجيش في خاطرها من أمر أبي مسلم، ولكنه كان يعلم زهد هذا الشاب البطل في النساء، وانشغال خاطره في المشروع الخطير الذي انتدب له.
فلما فرغ الخازن من تدوين المال نهض واستأذن في الانصراف، ولحظ الدهقان في أبي مسلم الرغبة في الانصراف أيضا فقال له: «إذا كنتم تريدون الذهاب للنوم، فهذه دار قد أمرنا بإعدادها لنزولكم.» وأشار إلى أحد جوانب الحديقة.
فنهض أبو مسلم، فلم يسع الحضور غير النهوض تهيبا واحتراما، وقال: «ننصرف الآن إلى النوم؛ فإن السفر قد أتعبنا هذين اليومين.» قال ذلك ومشى، فمشى الدهقان معه إلى آخر القاعة حتى ودعه، وصفق فجاء بعض الغلمان، فأمرهم أن يمشوا بين يدي الأمير بالشموع إلى المنزل المعد له، فمشوا، وعاد الدهقان إلى ابنته. وكانت واقفة بجانب العمود، ولم يبق هناك سواهما.
الفصل التاسع
الدهقان والدهقانة
وتوسم الدهقان مما شاهده من انقباضها أنها تفكر في أمر زواجها بابن الكرماني، وأنها ستحتج على والدها لما أبداه في حديثه إلى أبي مسلم في تلك الليلة، بحيث أصبح شأن الكرماني ضعيفا، فابتدرها أبوها قائلا وقد وضع يسراه على كتفها، ومشى نحو غرفتها وهي تمشي معه: «لا أظن أن هؤلاء الدعاة سيفلحون، ولا أرى أمرهم هذه المرة إلا صائرا إلى الفشل كالمرات الماضية.»
ناپیژندل شوی مخ