أما السائس فتناول القصبة وأشار برأسه إشارة الوداع، وتحول نحو مرو مسرعا سرعة الغزال، وصالح وسعيد ينظران إليه ويعجبان من سرعته حتى توارى عن أبصارهما، فتحولا للاستراحة، فمضى صالح إلى خيمته واستلقى وأخذ يفكر فيما ينبغي له من السعي في مشروعه.
الفصل السابع والخمسون
أبو سلمة الخلال
وكانت الشمس قد مالت نحو الأصيل، وتذكر أنهم لا يزالون على مقربة من مرو بحيث تكاد تمسهم يد أبي مسلم، وتصور أن أبا مسلم علم بمكانهم، فبعث من يتبعهم، فاقشعر بدنه لاعتقاده في دهاء ذلك الرجل، وقدرته العجيبة على كشف المخبآت، وشدة بطشه، فإذا عثر عليهم لا يبقي على أحد منهم. ويا لها من خيبة! ولكنه رأى نفسه عاجزا عن مواصلة السير في تلك الساعة؛ نظرا لما تشكوه جلنار من التعب بعد الجهد الذي بذلته، وشدة حاجتها إلى النوم، فعزم على السفر حالما تستيقظ ولو في نصف الليل.
وبينما هو في تلك الهواجس سمع أجراسا تدق عن بعد، فاختلج قلبه ونهض مذعورا؛ لعلمه أنها أجراس قافلة مارة من هناك، وأصاخ بسمعه ليتبين جهة المسير، فأدرك أنها قادمة من الشمال فترجح عنده أنها من القوافل التي تتردد بين العراق وخراسان، فخرج من خيمته لعله يراها عن بعد من جهة الصوت، ولكنه لم ير القافلة؛ لأنها كانت لا تزال متوارية وراء التلال، فأسرع إلى ثيابه وتنكر بملابس حاجب أبي مسلم وقلنسوته، وأصلح من شأنه وذهب إلى سعيد وأبي العينين وسليمان وأخبرهم بمجيء القافلة، وأنه عازم على استطلاع الأخبار منها، وأوصاهم أن يكونوا على حذر لئلا تبدر منهم كلمة أو إشارة تدل على حقيقة أمرهم.
ثم ركب فرسا وساقه نحو الجهة التي سمع منها دق الأجراس، وبعد قليل أطل على القافلة فإذا هي سرب من الجمال يقودها حمار عليه شيخ كأنه الدليل، وإلى جانبي القافلة فرسان مدججون بالسلاح لحراسة القافلة، فعلم أنهم يحملون أموالا لأبي مسلم، فضلا عن المئونة ونحوها، فوقف يعترض القافلة كأنه صاحب الأمر والنهي ، فأسرع إليه أحد الفرسان، فابتدره صالح قائلا: «لماذا هذا التباطؤ في المسير؟»
فلما سمعه الفارس يخاطبه بسلطان، ورأى عليه ثياب حجاب أبي مسلم، ظنه قادما من عنده لاستعجالهم فقال: «أتعدون مسيرنا بطيئا وقد جئنا من الكوفة إلى مرو في عشرين يوما ومعنا هذه الأثقال. هل أنت قادم لاستعجالنا؟»
قال: «إني ذاهب ببشارة لشيعتنا في الكوفة، ولكنني سمعت الأمير يذكر إبطاءكم، فأسرعوا حفظكم الله.»
فلما سمع الفارس قوله إنه ذاهب ببشارة تشوق للاطلاع على البشارة فقال: «وما هي تلك البشارة؟»
قال: «ألم تعلموها بعد؟ ألم تروا نصر بن سيار؛ صاحب مرو، تائها في هذه الأودية؟»
ناپیژندل شوی مخ