لما مات لم يوص بالخلافة إلى أحد، فاختلف أصحابه عليها، وكانوا فئتين: المهاجرين والأنصار؛ فالمهاجرون هم الذين هاجروا معه من مكة إلى المدينة يوم هاجر فرارا من ظلم أهلها، والأنصار هم الذين نصروه لما جاء المدينة. وبعد جدال طويل أقروا على أن الحق في الخلافة للمهاجرين، فتولاها واحد منهم، ثم الثاني، والثالث بالانتخاب فيما بينهم، ولم يكونوا يعرفون توريث الملك، كما كان الفرس يفعلون، ولكن أهل النبي الأقربين كانوا يرون التوريث، ويعدون خروج الخلافة من بين أيديهم حيفا وظلما.
وأقرب الأقربين من النبي عمه العباس وابن عمه علي بن أبي طالب، فبعد الخلفاء الثلاثة تولاها علي ابن عمه، لكنها لم تستمر في نسله، فأخذها منهم بنو أمية بالدهاء والعصبية، وتوارثوها نحو مائة سنة إلى مروان بن محمد الذي يحاربه أبو مسلم الآن. وكان أولاد العباس في أثناء هذه المدة يسعون في إرجاع الخلافة لهم، وهم الذين يعبرون عنهم بأهل البيت، وكل منهم يطلبها لنفسه. «آل علي يريدونها لأنفسهم، وآل العباس يزعمون أنهم أحق بها من سواهم. ثم إن آل علي الذين يطالبون بالخلافة فئتان: إحداهما نسل ولده من امرأته فاطمة بنت النبي، والثانية نسل ابنه من امرأة أخرى، واسمه محمد بن الحنفية. وكان كل من هؤلاء أيضا يطلبها لنفسه، فاتفق أن ابن محمد بن الحنفية هذا، واسمه هاشم، جاء دمشق وافدا على سليمان بن عبد الملك الأموي، فرأى سليمان منه فصاحة وقوة فخافه، فأوعز إلى رجل سمه بلبن ، فأحس أبو هشام بقرب الوفاة وهو راجع إلى المدينة، فخاف أن يموت قبل أن يعهد بالخلافة لأحد من أهله، ولم يكن أحد منهم معه لكي يبايع له، فعرج إلى بلد في البلقاء يقال لها الحميمة. كان بنو العباس يقيمون فيها، ويدعون الناس إلى أنفسهم سرا، وكان صاحب الدعوة منهم يومئذ محمد بن علي بن عبد الله بن عباس. فنزل عنده أبو هشام وأوصى إليه، وكان معه جماعة من شيعته سلمهم إليه، وأوصاه بهم، ثم مات، فأخذ محمد المذكور في بث الدعاة، ثم مات وخلف أولادا كثيرين من جملتهم إبراهيم الذي يسمونه الإمام، فأقام إبراهيم بعد أبيه بالأمر واستكثر من بث الدعاة إلى الأطراف، وخصوصا خراسان؛ لأن الشيعة كانوا أشد وثوقا بأهل خراسان من غيرهم.»
فقطعت جلنار كلامه وقالت: «لماذا لم يسعوا في غير هذه البلاد؟»
قال: «لأن أهل الشام ومصر متفقون مع بني أمية وفيهما أهل الدولة، وأما الحجاز فأهله قليلون لا يستطيعون القيام بالدعوة، وأما أهل البصرة والكوفة فكان أهل البيت مذعورين منهم؛ لأنهم خانوهم غير مرة. وفضلا عن ذلك، فإن أهل خراسان كانوا ناقمين على بني أمية؛ لاحتقارهم إياهم، وعسفهم فيهم، كما تعلمين، فرأوا منهم أذنا صاغية. وكان أهل خراسان من قبل يبايعون لآل علي ضد بني أمية، ووفق إبراهيم الإمام إلى أبي مسلم هذا، فبعثه قائدا لدعاته ونقبائه، فتمكن بدهائه وشدته وقسوته من فتح مرو كما رأيت، وهو يتظاهر بالمبايعة لأهل البيت على العموم - أي أهل بيت النبي - فالناس يبايعون الآن لإبراهيم الإمام باسم أهل بيت النبي، على أن يتناوبها العباسيون والعلويون، ولكنني لا أظن العباسيين إلا سيخرجونها من أيديهم. والخلاصة أن إبراهيم الإمام هو مركز الدائرة التي تدور عليها هذه الدعوة، وهو مقيم في الحميمة، ولا يعلم به مروان بن محمد؛ صاحب دولة بني أمية. فالذي أراه أن نسعى في كشف هذا السر لمروان، فيبعث من يقبض عليه بسهولة، ومتى حبسه أو قتله ذهبت مساعي أبي مسلم هباء ، فيشتد أمر بني أمية. وهذا أشد انتقام نقدر عليه.»
فلما سمعت جلنار قوله أحست بارتياح لرأيه وقالت: «إنه رأي صواب. والآن ماذا نعمل؟»
قال: «لا بد لنا من مغادرة هذا المكان سريعا بما خف حمله، وغلا ثمنه، ثم نسافر إلى العراق فالشام ونسعى في الأمر.»
فقالت: «ولمن نترك هذا القصر وهذه الجنات؟»
قال: «نتركها لذلك الظالم الذي بيده السلطة الآن وهو يطلب حياتنا، فإذا نجونا بها غلبناه، ولا يغنيه البنيان ولا الأشجار شيئا عما سندبره لهلاكه، بإذن الله.»
الفصل الخامس والخمسون
الرحيل
ناپیژندل شوی مخ