قل الرسول وهو مأخوذ: ذلك علم أستفيده منك إذ أنت تنكر العلم يا مولاي على نفسك، وقصاراي أن أسألك عن شخص من شخوصك التي تعرض عليك، وأن تقول لي ما تحمده منها وما ليس عندك بحميد، وأنا الرابح بما أسمع، وإن لم يبلغ من رأيي أن يضاهي رأي الشيخ فيما يريده وما يأباه.
قال أبو العلاء: قل على بركة الله ...
قال الرسول: ذلك قاضي قضاة المعرة أول تلك الشخوص، أتمثله سيدا جليلا ينظر إلى الدنيا وتنظر الدنيا إليه، وينعم بنصيب من الحياة يعلن منه ما يعلن ويبطن منه ما يبطن، ويسأله الناس في العلم والدين، ويقصده القاصدون فيما يشكل عليهم من قضايا الفكر، وقضايا المصالح والحاجات ...
ومضى الرسول يطنب في مآثر قاضي القضاة وهو ينظر إلى وجه أبي العلاء فيراه يبتسم ويصغي في غير قليل من الرحمة والحدب، وغير قليل من العجب والاستجهال، ويتأنى الرسول في كلامه ويكفكف بعض الشيء من إطنابه وغلوائه، فيعمد الشيخ إلى الكلام كمن لا ينشط إليه، ويقول للرسول سائلا: في أقاليم الهند والصيد ألوف وألوف من أجيال البشر الأحياء في هذا الزمان، أفتراني لو عدمت الحياة أحسب نفسي حيا لأنهم أحياء، وأزعم أنني أعيش لأنهم يعيشون؟
قال الرسول: كلا يا مولاي، فإن لهم حياتهم وللشيخ حياته، ولهم أعمارهم المعدودة وللشيخ عمره المعدود.
قال شيخ المعرة: فتح الله عليك. فما أنا وذلك القاضي الذي وصفت؟ وما نصيبي من الحياة إن عاش هو وسمى نفسه أبا العلاء؟ هو رجل من أهل الصين ما سمعنا به في الأولين!
إنما أبو العلاء هو أبو العلاء حين يمعن في أغوار ضميره فيلمح هناك هواجس قلبه وشكوك عقله، ومادة علمه واختباره وآثار نعمته وحرمانه، وما حصل أو ضيع من أحلامه وأشجانه، وغاية ما ينتهي من ظنه أو يقينه، فما أنا وقاضي قضاتك يا بني؟ ذره وما اختاره يعيش كما اختار له أمراؤه وطلاب عدله وإنصافه، فإن الصلة بيني وبينه كما قلت لك كالصلة بيني وبين ألوف ممن عاشوا أو يعيشون في أرجاء الهند والصين، فما اجتاز صاحبنا من حقيقة أبي العلاء عتبة الدار، ولا صعد منها إلى ذروة ولا هبط إلى قرار.
قال الرسول: فما قول شيخنا أفاده الله في الشاعر النواسي يحيا حياته وينعم نعيمه، ويرتع في لذات العيش كما رتع، وينظم الشعر كما نظم، ولا يحرم الشهرة بعد زمانه، ولا الحظوة بين معاصريه وأقرانه؟
قال أبو العلاء متهانفا مستكرها: لو سرني أن أعيش عيشه لسرني أن أخلد خلوده وأن اشتهر اشتهاره في زمانه وبعد زمانه: ذاك نديم يا بني وتلك غاية مرتقاه، فكيف تراني أوثر مكان النديم ومن فوقه مكان من ينادمه ويرجو مسرته ويبتغي صلاته وعطاياه؟
رحم الله ابن هانئ، ما اقترب من الأفق إلا حين قال:
ناپیژندل شوی مخ