وقف العالم ينظر إلى هذا المخاض السياسي الهائل يرقب نتيجته بقلوب خافقة، حتى كاد يخيل إلى المرء أن الرياح والأعاصير ذاتها قد حبست أنفاسها والأفلاك شأوها، وأن الزمن نفسه وقف مبهوتا يتأمل.
أراك أيها الوزير الخطير في بحر السياسة البعيد الغور، العسوف الموج، العصوف الأعاصير والأنواء تسير سفينة الوطنية تتنكب بها مكامن الصخور والمهالك، وتتنحى بها مسالك الأمن والسلامة، تدير دفتها بيد مباركة ميمونة رائدها التوفيق والنجاح تكمن في أساريرها أسرار الحذق والمهارة، تؤم بالسفينة النفيسة ساحل الفوز والنجاة.
وأراك في بيداء السياسة المخوفة تقود الشعب الكريم خارجا به من نير عبودية الجبابرة، مجتازا به تيه الأضاليل السياسية، تؤم بالقافلة أفق الاستقلال وفضاء الحرية الرحيب.
وأراك من فوق زوبعة السياسة الثائرة، وفوضى العناصر المتنافرة تصفق جناحي نسر ساكن الجأش ثابت الجنان، تصرف أعنة الحوادث، وتدبر أزمة الشئون كأنك الملك الحارس الأمين كلما ازدادت الحوادث اضطرابا ازداد سكينة وهدوءا.
أرى ساكن الأوصال باسط وجهه
يريك الهوينا والأمور تطير
وأراك حين تفاوض ساسة الإنكليز تعلو عليهم في حومة الخطاب وميدان المحاجة بسليقتك الفائقة وسجيتك الغلابة، وبعقلك الراجح، وبشخصيتك الفتانة الخلابة التي هي خلاصة مجموع ما فيك من غرائز وشيم وطبائع، وكأنك حين تناقشهم قد اتخذ سلطان الإقناع عرشه بين شفتيك، وكمن هاروت تحت لسانك حتى تتركهم من إعجاب وإكبار يقولون فيك ما قاله نابليون الأول حين صادف شاعر الألمان العظيم «جيتا»: «هاكم رجل مستكمل الرجولة.» وما قاله أحد الساسة الإنكليز في المغفور له الشيخ محمد عبده: «لقد حق لمصر أن تفخر بمثل هذا الرجل، فإن أمة تخرج مثله لخليقة أن تفلح.»
في تلك الزوبعة السياسية الثائرة، وفي ذلك الجو المتلبد بالغيوم، وفي مضطرب تلك العوامل المتدافعة والعناصر المتكافحة مضى ثروت في سعيه المجيد كالصارم المصقول، والكوكب المشبوب يعمل ويكد ليل نهار كأنه ينبوع قوة لا ينفد، وشعلة حريق تأبى أن تطفأ وتخمد، تملأ فضاء البلاد رونقا ونورا. أجل، إن مقدرة هذا الرجل الهمام على العمل والكد لا تحد ولا تحصر ولا يكاد يصدق بها الذهن، وليس يدري سوى من عاشره عظم ما قد تستطيعه القوة البشرية من العمل ومقدار ما تستثمره من جليل الفوائد في يوم واحد، إن ساعة هذا الرجل العظيم كعام غيره وشهره كدهره.
وكل هذه الأعمال الجسام ينجزها ثروت باشا في أتم سكينة وصمت، ألا حيا الله دولة الصمت وخلد ملكه وسلطانه! ولا حيا الله الجلبة والضوضاء والصخب!
قال توماس كارليل في كتابه «الماضي والحاضر»: «ما أعظم الرجل الصامت وما أجل مقداره! أرأيت إذا أجلت بصرك في هذا العالم اللجب الصخاب، وفي كلماته الخالية من المعاني، وفي أعماله الخاوية من الفوائد، أفلا يلذ لك أن تتعشق جمال الصمت وجلاله؟ أفلا يلذ لك أن تتغنى بمحامد الرجال الصامتين ذوي الفضل والكرم والمروءة، العاملين في سكوت، الجادين في خشوع وتواضع، البانين صروح الحضارة والمدنية دون أن تجلجل بأسمائهم وألقابهم أبواق المجلات وطبول الجرائد؟ ألا إن أمة تخلو من أمثال هؤلاء أو يقل منهم نصيبها لخليقة أن تختل حالها، ويسوء مآلها، ويكون مثلها كمثل غابة خلت من الجذور والأصول واستحالت كلها ورقا وفروعا، فهي لا تلبث أن تذبل وتموت؟ لنا الويل والثكل إن كان كل عتادنا وذخيرتنا هو ما لدينا من الكلام والطنطنة والأشياء التي نعرضها على الملأ، ونرفعها لأعين المتفرجين والنظارة. ألا فقدس الله عالم الصمت! إنه لأسمى مقاما من الكواكب وأعمق غورا من عالم الموت! وإنه وحده هو النبيل والعظيم والجليل، وكل ما عداه حقير ضئيل تافه! فلتلزم أمتنا فضيلة الصمت ولتعتصم بها، ولتدع غيرها من الأمم المولعة بالجلبة والضوضاء وحب التظاهر تصيح في كل موقف، وتملأ الدنيا صياحا بكل صغيرة وكبيرة من شئونها، وتجعل بلادها مسرحا ترقص عليه وتلعب على مرأى ومسمع من المتفرجين والنظارة، فأمثال هذه الأمم المتظاهرة الصخابة ستصبح عاجلا أو آجلا غابات بلا جذور ولا أصول، مآلها الذبول والموت. ألا ما أقدس الصمت! إنه مستمد من ملكوت السماء! انظر إلى الدوحة العظيمة في الغابة تجدها قد لبثت ألف عام تنمو في أتم صمت وسكينة، فمتى تسمع صوتها؟ لا تسمع ذلك إلا حينما يجيئها الحطاب في نهاية الألف عام بفأسه ليقطعها، حينئذ تسمعك الدوحة صوتها، حينئذ تعلن الدوحة عن نفسها بتلك الصرخة الشديدة - صرخة الفناء والموت - صوت انصداعها وانقصامها. فهل أسمعتك الدوحة صوتها ساعة البذر والغرس المبارك حين نثرت بذرتها من حجور بعض الرياح الميمونة؟ هل أسمعتك صوتها ساعة اكتست حلل الورق النضر ووشي الزهر المفوف؟ (وما كان أمتعها ساعة وأملأها بالأفراح والمسار) كلا، لم تسمعك الدوحة صوتها في تلك الأوقات الهنيئة، ولم تنبس بحرف واحد إعلانا لهذه الحوادث المفرحة، إنما أسمعتك صوتها ساعة المصاب والفجيعة؛ ساعة الموت والفناء.»
ناپیژندل شوی مخ