ولكن الخير كله والنعيم والسعادة في مذهب التفاؤل القائل بأن هذا العالم ملك للمؤمل المجتهد، وأن لكل بغية وسيلة، ولكل غاية سبيلا، وأن كل امرئ يحمل في يده مفتاحا لإغلاق خزائن الطبيعة وفخا لاحتبال صيدها.
فقل للمتشائمين من أبناء هذه الأمة وغيرها من شعوب العالم: لا تشاؤم ولا اكتئاب ولا تسخط ولا تبرم، فهذا العالم الذي تعيشون عليه، وتسعون في مناكبه إنما هو مصنع هائل مفعم بالقوة بأفلاكه الدائرة وفصوله وأزمانه ومده وجزره، ومكينة العالم الضخمة الهائلة تملأ الفضاء عرضها السموات والأرض، وهي محكمة البناء دقيقة التركيب، لا يعتريها الفساد، ولا يتطرق إليها الوهن والخلل، وهي لا تزال تصلح نفسها بنفسها بقدرة كامنة في كل ذرة من ذراتها، وهي تصنع كل شيء وتقدر على كل شيء، فهذا عنصر الماء أتراه يعجز عن حمل أي ثقل مهما عظم؟ وهب أن هناك ثقلا يعي الماء حمله؛ فهذا البخار أمامك فجربه أو دعك من هذا وجرب الكهرباء مثلا، فهل ترى بعد ذلك لذخائر الطبيعة نفادا؟ وهل حاولت مرة أن تزن بالقناطير مقدار ما تسكب القناة الصغيرة الجارية في مزرعتك من كميات المياه؟ أجل، إنه لا نفاد لثروة العالم، وإنه لا شيء في الحقيقة عظيم هائل العظم إلا كنوز الطبيعة. هذا على أن الطبيعة لا تبدي لنا سوى قشورها وسطوحها، وهي من تحت ذلك بعيدة الأغوار يقدر عمقها بملايين الفراسخ.
ألا إن الحزم والحكمة في التفاؤل والانشراح، وأن التشاؤم دليل الحمق والجمود؟ ولقد يكون من السهل على جماعة المتشائمين أن يحقروا مذهب التفاؤل وأربابه، ويلحظوهم بعين الازدراء ادعاء للفطنة والكياسة، وتظاهرا بالأرب والدهاء، ولكني أرى أن آمال المتفائلين المشرقة وأمانيهم البراقة، وما يزخرفه خيالهم من قصور الهواء المونقة أحسن ألف مرة، وأعود بالخير والنفع، وأجلب للرخاء والدعة مما لا يزال المتشائم يحفره من جحور السخط والضجر وسجون الهم والشقاء.
ماذا يستفيد العالم من أولئك المتشائمين الذين لا يبرحون يبصرون في كبد السماء فوق رءوسهم كوكبا أسود يتخلل لآلاء الضياء والسحب البهيجة الألوان، وربما احتجب أوانه وراء ما يمر دونه من أمواج النور، ولكنه لا يلبث أن يعود ظاهرا أقبح ما كان وأشد سوادا؟
وعلى خلاف ذلك التفاؤل، فإنه منبع الحول والقوة والباعث المحرض على السعي والعمل، وعندي أن الرجل الذي لا يجعل همه تحبيب الحياة والطبيعة إلى الناس - بإظهارهما لأنظارهم في أحسن صورة وأجمل مظهر - كان موته خيرا من بقائه وعدمه أنفع من وجوده.
التشاؤم مرض والتفاؤل صحة، والصحة شريطة العقل وأساس الحكمة، والابتهاج آية ذلك وأمارته، والبر الكريم والأريب اللبيب هو من حرك فيك نسيم الأمل، وأشعر قلبك روح الثقة وبرد اليقين، وعتقك من رق الهم، لا من أذاقك مرارة الجزع وجرعك غصة الكرب، وأشعر فؤادك ذل الخوف ومضاضة اليأس.
وإنما كان الابتهاج والانشراح وسيلة النجح، وسبب الفوز في هذه الحياة؛ لأنه سنة الطبيعة ومنهجها، ويخيل إلي أن الفرح والسرور هو روح الطبيعة ومنبع حياة الكون، ولعلك إذا استطعت أن تنفذ ببصرك إلى صميم قلب الوجود ألفيت ذلك القلب يدفع لدى كل نبضة من نبضاته تيار السرور الزاخر في كل وريد وشريان من أوعية جثمان الكون حتى يظل نظام الكائنات بحذافيره مغمورا بفيوض الفرح وسيول الحبور يدفق بأمواجها الطامية ويفهق. فلن ترى في نواحي الكون موضعا - مهما خلته جديبا - إلا ما كان في الحقيقة مفعما بالخير والبركة، فأفقر مكان يحتوي من الثراء ما لا يكاد يحصى مقداره، وأجدب محل لا تستنفد حاصلاته ولا يفرغ من اجتناء ريعه وثمرته.
وكل صوت من أصوات الطبيعة ينتهي بلحن ويختم بنغمة، وكل صفحة من صفحاتها تزتخرف حافاتها وتدبج حواشيها الصبغ الجميلة والألوان البهجة.
لا تعلق على جدارك الصور الكئيبة المحزنة، ولا تلوث أحاديثك بسواد الشكوى وظلمة التشاؤم، ولا تكثرن من الضجيج والأنين والتأفف والتلهف والتحسر والتضجر، وكن على أن تظل صناجة تطرب الملأ بموسيقى الولائم أحرص منك على أن تبيت نواحة تبكي الجماهير بمراثي المآتم، ولا يصدرن عنك من المقال والفعال إلا ما جدد من أمل، أو حفز إلى عمل، أو استنهض همة، أو استثار عزمة.
من كل ما تقدم يستنتج أننا في موقفنا الحالي - إزاء ما يعترضنا من العقبات وما يكتنفنا من المصاعب - نظل أحوج ما نكون إلى من يبعث فينا روح التفاؤل، ويضيء قلوبنا بشعاع البشر والانشراح، ويذكي في صدورنا جذوة الأمل، ويطلع علينا في أفق السياسة كواكب الرجاء هداية لنا في مسالكها الوعرة ومجاهلها المضلة فيملأ نفوسنا بذلك ثقة وإيمانا، ويشعرها قوة الثبات وعزة اليقين والاعتماد على النفس والاعتداد بالذات مما ينبه الهمم، ويوقظ العزائم، ويحفز إلى جسيم الأعمال وجليل المساعي.
ناپیژندل شوی مخ