أجل، لقد ألقت مصر على بريطانيا واقعيا وعمليا في الثلاثة الأعوام الأخيرة، ما كان ألقاه عليها كلاميا ونظريا حكيمها الأعظم توماس كارليل في الجيل السالف. لقد أعدنا عليها ذلك الدرس العظيم بالأعمال الصارمة ذات الأثر والمفعول والنتائج الخطيرة. لقد أيقظناها إلى الحقيقة المرة بثلاث صدمات شديدة كبحت جماحها، وكفكفت غربها، وألانت عريكتها حتى هيأتها نهائيا إلى التأثر بسياسة ثروت باشا في مناوراته الأخيرة، وإلى الاقتناع بناصع حججه ودامغ براهينه، وإلى الانقياد نوعا ما في زمام مهارته السياسية وبراعته المنطقية. أما هذه الصدمات الثلاث التي مهدت طريق النجاح لثروت باشا فهي كما يعرف الجميع: (1)
قومة مصر في وجه بريطانيا في مارس 1919. (2)
مقاطعة لجنة ملنر. (3)
قطع الوفد الرسمي الذي كان يرأسه دولة الوزير العظيم عدلي يكن باشا للمفاوضات المصرية-الإنكليزية، وما أعقب ذلك من التئام الصدع وائتلاف الشمل بين الأحزاب المصرية بعد طول تنابذ وتنازع، ثم انضمام الصفوف وقيام الأمة قومة سلمية بأساليب الدفاع السلبية، ولا ينس أحد أن صاحب الفضل الأعظم في هذه الوثبة الثالثة والصدمة الأخيرة (أشد الثلاث وقعا وأبلغها أثرا ومفعولا)، وأعظم مسبب لها، بل أساسها ومصدرها هو ذلك الرجل الخطير والبطل الكبير صاحب الدولة عدلي يكن باشا.
وماذا عسانا نقول في مدح ذلك البطل المجيد عدلي يكن؟ وأين تقع رائحات الحمد وغادياته، وسابحات الثناء وسارياته، من رفيع مقامه في ذروة المجد الشامخ، وذؤابة الحسب الباسق الباذخ؟! ماذا عسانا نقول في رجل حملته الأمة أمانتها فأحسن الحمل والأداء، وزجت به في حومة النضال عن حقوقها فأجاد الذود وصدق البلاء؟! أو لم يدفع عدلي بحر وجهه الكريم ما أرادت بريطانيا أن ترمي به وجه الأمة المصرية من آيات الخسف والهوان ممثلة في ذلك المشروع الذي رفضه هذا الهمام فكفى بذلك أمته غضاضة مناقشة المشروع والنظر فيه؟ أو لم تبعث به مصر في تلك المفاوضة نائبا عنها وممثلا فكان خير عنوان على ما لها من نبل وكرم، وأنفة وشمم، وشرف رفيع، وعز منيع؟ أو لم تكن طلعته الوضاءة البلجاء، وغرته الوضاحة الزهراء، صفحة صدق تتألق بنور الأمانة والإخلاص، ويسطع في جنباتها رونق اليقين والإيمان، ويترقرق ماء الحياة والعفة والنزاهة؟ أو لم يقرأ الإنكليز أنفسهم في أسارير جبينه الأغر سطور الحزم والعزم، والحلم والرفق، والحكمة والحذق، والمضاء والدهاء؟
ألم ينتشل عدلي باشا الشعب المصري الكريم من وهدة الضعف والفتور التي كان ألقاه فيها دعاة التخاذل والتواكل، وبغاة التفرقة والانقسام؟ ألم يستنقذ عدلي باشا أمته المجيدة من حضيض التواني، والاسترخاء الذي كان أهبطه فيه تجار الفشل والهزيمة ومروجو إشاعات السوء عن الوفد الرسمي، الذي أثبتت مآثره وحسناته أنه كأكرم وأنبل من انتدبت أمة للمطالبة بحقوقها والدفاع عن قضيتها، والذي سجل له التاريخ أشرف صور الفضل وأسنى آيات الوفاء في أمجد فصوله وأنصع صحائفه؟ ألم يبيض عدلي باشا وجه أمته بما أحرز لها من النصر الباهر بموقف الشمم والإباء والعزة والكبرياء الذي وقفه إزاء خصمها الألد وقرنها العنيد؟ ألم يفهم الإنكليز أن الذي يرفض مشروعهم بمنتهى الأنفة والنخوة والإباء هو الأمة المصرية بأسرها ممثلة من شخصه الكريم في مرآتها الحاكية مجموع نزعاتها ورغباتها وأمانيها وعواطفها، وفي لسان حالها الناطق بأخفى ما يجنه ضميرها وأدق ما يكمن في خبايا سريرتها؟ ألم يكن في إفهامه الإنكليز هذه الحقيقة وتقريرها في أذهانهم ما رفع من مقام الأمة المصرية في عيونهم بعدما أسقط منه ظهورها في أنكر مظاهر التفرقة والانقسام؟ ألم يكن في مجيد عمله هذا ما أعاد إلى قلوب الإنكليز تلك الهيبة والخشية التي كانت أوجدتها ثمة الأمة المصرية بفضل ما أظهرت في بدء حركتها من روح التضامن والاتحاد والتضافر؟ أو لم يشرف عدلي بموقفه العظيم ومأثرته الكبرى أمته العزيزة، ويعلي قدرها، ويرفع رأسها بين سائر شعوب العالم؟ ألم يقر عينها ويشرح صدرها؟ ألم يبعث فيها نشوة العزة وحميا الزهو ويرنح أعطافها بهزة التيه والخيلاء؟ ألم يزودها في تلك الساعة العصيبة والأزمة الكاربة والمحنة النكراء - في أظلم أدوار القضية وأوعر مراحلها حين خبت كواكب الأمل، ودجت غياهب التشاؤم - في تلك الآونة الصعبة التي بدأنا بذكرها هذا الكتاب، وسميناها عقدة العقد، وعقبة العقبات - نقول في تلك الكربة الكاربة والشدة الحازبة - ألم يزود عدلي باشا أمته من أسباب التأييد والتشجيع - مما نفثه فيها من روح الحمية والنخوة والعزة والإباء - بأجمل السلوى وأحسن العزاء عما رمتها به الأقدار من كوارث الظلم والاستبداد، وبأقوى الوسائل لاستنهاض همتها واستثارة عزمتها لاستئناف السعي في سبيل الجهاد ومواصلة السير إلى غاية المأمول والمراد؟
وكذلك في سبيل الحق والحرية نفر عدلي يكن تلك النفرة الشماء، وصاح تلك الصيحة التي صدم بهولها مسامع بريطانيا صدمة أيقظتها ثالث مرة من غفلتها، وفتحت عينها إلى تلك الحقيقة الكبرى وهي أن مصر - بالرغم مما أصابها مؤقتا من تخاذل أبنائها وتنابذهم - لا تزال مصرة على نيل حقوقها المسلوبة، مصممة جادة، معتزمة غير وانية ولا فاترة، وأنها كغيرها من الشعوب الغربية مندفعة بحكم السنن الكونية والنظم الطبيعية في سبيل النهوض والتقدم لأخذ المكان المقدر لها أزليا في مراقي الحياة؟
كذلك في سبيل الحق والحرية صاح عدلي يكن صيحته التي استرعى بها مسامع أمته، وأيقظها من غمرة التشاحن والتطاحن إلى تلك الحقيقة الكبرى، وهي أن كل نزاع بين أبناء الأمة هو غرم عليها، مغنم للخصم الذي يراه خير فرصة لإضعافها ونهك قواها بتوسيع الخرق بينها، وهدم كيان وحدتها، وتمزيق صفوفها، ورد سهامها الموجهة إلى شخصه في نحرها هي، وتحويل مجهوداتها المبذولة ضده في مصلحتها ضد نفسها بالضرر الجسيم عليها. أجل، لقد نبه عدلي بصيحته الشديدة أمته العزيزة إلى كل هذا وأكثر، فجمع بذلك كلمتها وألف شملها، ورأب صدعها، وشد أزرها، وراش لنهضتها جناحا من همته الحثيثة بعدما هاض النزاع الحزبي جناحها، وحفزها بريح عزمته الشديدة بعدما أركد الشقاق الداخلي رياحها، وآنسها بقوة روحه العظيمة في وحشة تلك الترهات السياسية الختالة بسراب الغرور والخديعة، وعزاها عن خيبة آمالها في وفاء بريطانيا وحسن نيتها.
كل هذا صنعه لأمته عدلي يكن، ذلك البطل القوي الذي لن يجد التاريخ بدا من أن يسجل له هذا الفضل على بلاده، ولا من وضعه في مصاف الأبطال منقذي شعوبهم ومحرري أوطانهم أمثال شمشون، إلا أنهم تغلبوا على دليلة «الختل والخديعة» فلم تستطع قهرهم وإذلالهم.
كل هذا صنعه عدلي لأمته، ولا عجب فإنه عظيم، وبقوة الرجل العظيم وحوله تدعم أرض الله وتوطد أركانها، وبهمة الرجل العظيم ونجدته يثل عرش الظلم ويشاد صرح العدالة، وينجاب غيهب الباطل، ويسطع نور الحق، وبمكارم خيمه ومحامد شيمه ترق حاشية الزمان، ويخضر عوده ويورق، ويخضل روضه بندى الخير ويترقرق، ويشرق صحوه بسنا الصفاء ويتألق. حياك الله عدلي يكن! لقد طاب في كنفك العيش واحلولى، وافتر عنك مبسم الدهر وتلالا، وقد حسنت بك الدنيا وملحت وتأرجت بعبير ذكرك ونفحت، وقد شربنا بك ماء الحياة كوثرا، ونشقنا نسيمها عنبرا، وانتجعنا غيثها ثجاجا، وتوسدنا جنابها أنيق الروض مبهاجا. فجزاك الله أحسن الجزاء عن أربعة عشر مليونا من عباده رفعت بالعز هامهم، وثبت في مدحضة المعترك العنيف أقدامهم، وطهرت صحيفة أعراضهم من كل شائبة ووصمة، ونقيت أديم أحسابهم من كل ريبة وتهمة، وبعد، فإن مأثرتك هذه الجلى التي حاولنا عبثا توفيتها حقها من الحمد والشكر ليست لعمرك أخرى مآثرك، ولن تكون بحال ما خاتمة مساعيك ومفاخرك. يأبى لك ذلك فرط حبك لبلادك، وعطفك وحنانك على أبنائها الذين هم أبناؤك البررة، وصدق وطنيتك العميقة، وحميتك العريقة، وشدة إخلاصك لوطنك وتفانيك في خدمته والتذاذك بتضحية الأعز والأنفس في سبيله، وارتياحك إلى ركوب الصعاب، واقتحام العقاب، واعتساف الأوعار، ومغامسة الأهوال والأخطار من أجل الدفاع عنه، وصيانة حوزته وحماية بيضته. نقول: لم تنته بعد مساعيك في صالح البلاد، ولم تترك المسرح لغير رجعة، معاذ الله أن يكون ذلك، ومعاذ همتك البعيدة وشيمتك المجيدة، وحاشا لعزتك الشماء، وحميتك الذكية الروعاء أن ترى على سكونك هذا إلا خفاق الجوانح على وطنك راجف الأحشاء. فما كانت روحك الكبيرة السامية، ونفسك الجياشة المتوقدة لتسكن في هذه الآونة إلا تأهبا للحركة، وتحفزا للوثوب، وانكماشا للكرة إلى الميدان متى أهابت بك النوب والخطوب. بل أراك في عزلتك الراهنة لا تزال ينبوع أمل وقوة لمواطنيك، تنفث فيهم روح اليقين والثقة والرجاء كأنك زورق النجاة، لا يبرح باعثا يرد الطمأنينة في ركب السفينة مهما طغى الموج من حولهم واصطخبت الأنواء.
ناپیژندل شوی مخ