مضت الأيام تسير بابن الغابة سيرا معجلا وثيقا ليؤدي رسالته، ولعله أشرف من حاضره على ما يعده له الغد القريب، أجل لعله أخذ يدرك أن مشكلة الرق مفضية به حتما إلى خطوة واسعة يخطوها غدا، فيترك في تاريخ بلاده ما تذكره به الأجيال، اقرأ كتابه هذا إلى صديقه سبيد تقع فيه على مدى اهتمامه بتلك المشكلة، ونتبين كثيرا مما كان يجول في نفسه يومئذ، قال: «إنك لتعلم أني أكره الرق، كما أنك توافق أن الرق خطأ في ذاته، فليس ثمة خلاف بيني وبينك إلى هذا الحد، ولكنك تقول إنك تفضل أن ترى الاتحاد وقد انفصمت عراه قبل أن تتنازل للرقيق عن حقوقك المشروعة، وبخاصة إذا كان هذا التنازل إذعانا لإلحاح من لا مصلحة لهم في ذلك، ولست أعلم أن أحدا يدعوك إلى ذلك التنازل، ولست على اليقين أدعوك إلى هذا، وإني أصارحك يا صديقي أني أكره أن أرى هؤلاء المساكين يصطادون ويوضعون في الأغلال، ويعاد بهم إلى حيث يجدون النصب والعناء، ولكني أعض على شفتي وألزم الصمت.
في عام 1841 قمنا معا برحلة مملة على صفحة ماء منخفض في قارب بخاري من لوسفيل إلى سان لويس، ولعلك تذكر كما أذكر أنه كان على ظهر القارب عشرة أو اثنا عشر عبدا مقرنين في الحديد، ولقد كان هذا المنظر مبعث عذاب دائم لي، وإني لأحس شيئا مثله كلما لمست نهر الأهايو أو أية جهة من جهات الرق، وخلاف الجميل منك يا صديقي أن ترى أني لا أهتم بذلك الشيء الذي ينطوي على قوة تكربني، والذي لا يفتأ يسبب لي الكرب. لقد كنت حريا أن تتبين إلى أي مدى يخنق سواد الناس في الشمال مشاعرهم لكي يستطيعوا أن يحتفظوا بولائهم للدستور والوحدة. إني أعارض انتشار الرق لأن رأيي وشعوري يؤديان بي إلى ذلك، وليس هناك ما يجبرني على العمل بخلافه، فإذا كان هذا هو مبعث الخلاف بيني وبينك فلنختلف إذن. تقول لو أنك كنت الرئيس لأرسلت جيشا على المتمسكين باتفاق مسوري في انتخابات كنساس، وتقول إنه إذا انتهت الانتخابات هناك إلى جانب الرق فيجب أن تقبل ولاية وإلا وجب حل الاتحاد، وكذلك تقول إنه لو انتهت الانتخابات إلى جانب الحرية فإنك كمسيحي تفرح لذلك، ويقول مثل هذا الكلام كل ذي دماثة من مالكي الرقيق، ولست أشك في إخلاصهم، ولكنهم لن يسلكوا في الانتخابات مسلكا وفق ما يقولون. إن اطرادنا نحو الانحطاط يسير فيما أرى سيرا معجلا، لقد بدأنا أمة بإعلاننا أن الناس جميعا خلقوا متساوين، وتجدنا نقول اليوم خلق الناس جميعا متساوين إلا الزنوج، وسيكون قولنا في المستقبل خلق الناس جميعا متساوين إلا الزنوج والأجانب والكاثوليك! ولئن بلغنا هذا المدى فسأفضل الهجرة إلى دولة أخرى لا تدعي حب الحرية، إلى الروسيا مثلا؛ حيث يتخذ الاستبداد صورة سهلة خالية من النفاق.»
ويقص صديقه هرندن قصة جديرة بأن نثبتها هنا، لنتبين كيف يهتم أبراهام اهتماما كبيرا بالمعنى العظيم وإن جاء في أمر صغير، ولنرى مبلغ حرصه على مقاومة الرق، قال هرندن: «حدث أن ذهب زنجي من سبرنجفيلد إلى نيو أورليانز ولم يصطحب معه أوراقه التي تثبت عتقه، فاستوقف هناك وألقي به في السجن ليباع عما قريب فيكون ثمنه أجر إقامته في السجن، وفزعت أمه إلى لنكولن وإلي، فذهبنا إلى حاكم إلينوى وكلمناه في الأمر، فأظهر لنا أسفه ألا يستطيع أن يقدم لنا معونة حسب القانون، فنهض لنكولن قائلا في لهجة تنم عن التأكيد: أقسم لك بالله أيها الحاكم لأجعلن الأرض في هذا الاتحاد أسخن من أن تطأها قدم زنجي، سواء وجدت من القانون ما يبرر إطلاق هذا الغلام أو لم تجد. واتصل أبراهام بحاكم لويزيانا فلم يك أحسن حظا عنده منه عند سالفه، ولم يعدم أبراهام حيلة، فقد افتتح اكتتابا عاما لجمع ثمن هذا الغلام الزنجي، وسرعان ما اجتمع لديه المبلغ فدفعه إلى حاكم لويزيانا وأعيد الغلام إلى أمه في الشمال.» وما قصد أبراهام بالاكتتاب العام إلا التشهير بالرق والتنديد بهذا الظلم العظيم.
وكان يوحي إليه ذهنه المنطقي العجيب وبعد نظره في قياس الأمور ما عسى أن تنتهي إليه مشكلة الرق، وكأنما كان يشرف من حاضره على مستقبله، كان يعتقد أنه بالخروج على اتفاق مسوري لم يعد هناك أمل في الإبقاء على أي اتفاق يقام، وسيتمادى أنصار الرق في غيهم حتى يخرجوا على الدستور نفسه، ولكن الوطنيين المتمسكين بالدستور لن يقروهم على ذلك، فيكون ثمة صراع عظيم بين الجانبين، وفي هذا الصراع يجتث الرق من جذوره فما له بعد من قرار، ولسوف تأتي الحوادث مصدقة لما يرى، ولسوف يكون هو بطل الصراع، والذي يقتلع الرق من جذوره.
ولن يضيره اليوم ألا يصل إلى مقعد الشيوخ، بل ربما كان الشر في أن يظفر بهذا المقعد، فلقد كان له بعد فشله هذا جولات سوف يكون لها خطرها في حياته؛ جولات سوف تنتهي به إلى رياسة الاتحاد فلم يبق على الدرب إلا مرحلة.
وكثيرا ما يبتئس المرء إذا فاتته فرصة كأنما أغلقت بفواتها مسالك الفوز من دونه، ولا يدري أنه ربما كان الخير في فواتها، والحياة مليئة بالأمثال حافلة بالعبر، والعظماء وحدهم هم الذين لا يلويهم فوات الفرص ولن تبتئس لفواتها نفوسهم، بل إنهم ليحمون على الشدائد ويستعرون على الكفاح، ويستشعرون اللذة في النصر كما يستشعرونها في ركوب الصعاب إلى ذلك النصر، ولن ينقص منها ما قد يصيبهم من خذلان.
ولقد كان لنكولن من هؤلاء البواسل الأفذاذ الذين لا يحفلون بالصعاب، والذين لا يحول بينهم وبين وجهتهم خذلان مهما عظم، بقي في سبرنجفيلد بعد فشله ليكون في المدينة زعيم الحزب الجديد الذي كانت تستقبل البلاد يومئذ مولده، وهل كان غيره في المدينة تجتمع عليه القلوب والأهواء؟
حزب جديد
كان من نتائج قرار الكونجرس في مسألة كنساس نبراسكا مولد حزب جديد في البلاد، فقد اجتمع فريق من رجال السياسة على فكرة يمكن تلخيصها في العمل على مقاومة انتشار الرق حسب اتفاقية مسوري، وكان هؤلاء السياسيون أنماطا من كل حزب؛ ففيهم الديمقراطيون، وفيهم الهوجز، وفيهم غير هؤلاء وهؤلاء ممن يحصرون همهم الآن في العمل على مقاومة انتشار الرق. ولقد كان أول اجتماع عام لأنصار هذا الحزب الجديد في مدينة فيلادلفيا سنة 1856، واتخذ المجتمعون اسما لحزبهم فسموه الحزب الجمهوري، واختير لرياسته الكابتن فريمونت أحد أهالي كليفورنيا، وكانت شهرة عند الجمهور باكتشافه الطرق وشقه الأحراج إلى الغرب؛ فكانت تضيئ حوله هالة من البطولة، ثم أخذ أنصار الحزب بعد ذلك ينشرون الدعوة إليه في كل ولاية.
وانتشرت الدعوة إليه في إلينوى كما انتشرت في غيرها من الولايات، ودعا أنصار الحزب الجديد فيها إلى اجتماع تمهيدي يتدارسون فيه الأمر، ويحددون الغاية ويسددون إليها الوسيلة.
ناپیژندل شوی مخ