عض ابنه كلب مجنون فحمل أبراهام الطفل مسافة طويلة إلى إنديانا ليلمس هناك حجرا مشهورا يؤمن الناس أن لمسه يصنع العجائب، وأي فرق بينه في هذا العمل وبين فلاح ساذج محتطب ممن اختلط بهم أمس في الغابة؟! بل أي فرق بينه اليوم وبينه أيام كان ينصت وهو في كوخ أبيه في الغابة إلى صفير الرياح في ثقوب ذلك الكوخ، أو إلى خشخشة الأغصان على بعد في الظلام كأنها صوت ينبعث من البحر؟! وإذا كانت هاتيك الأوهام قد انبثت في نفسه في ذلك العهد، فكيف لم تقض عليها قراءاته وخبرته وصلته بدنيا العلم والحضارة؟ ترى هل فعل ما فعل من فرط محبته ابنه، فهو ينتقل به إلى ذلك الحجر كما يصنع الغريق إذ يحاول أن يمسك شعاع الشمس؟ أم ترى أنه كان يؤمن أن في الحجر سرا يشفي كما يصدق بسطاء الناس؟ ذلك ما يحار عنده المرء فلا يرى وجه الصواب فيه.
صدق أبراهام بالعلامات والأحلام والعجائب، فذلك أمر يحسه في نفسه، وليس مرده إلى العقل والمنطق، وظل مصدقا بها عمره كله، يرتقب ما توحي به من خير أو شر، ولكنه لم يصدق أنها تلوي القدر عن وجهه؛ لأنه يؤمن أن كل شيء مقدر على المرء من قبل أن يبرأ، فلا تجدي وسيلة من صلاة أو دعاء في تغيير ما تجري به المقادير. يقول في ذلك: «إن كل أثر له سببه؛ فالماضي سبب الحاضر، والحاضر سوف يكون سبب المستقبل، ليس في فلسفتي أن شيئا يأتي عفوا ...»
ولذلك فإنه وإن نظر في الأحلام وما عسى أن توحيه، وفي بعض العلامات وما عسى أن يكون ما تنذر أو تبشر به؛ لا يأخذ بها فيما هو فاعل من شيء؛ فلن يغير خطة رسمها أو يقبل على عمل ما لأن حلما من الأحلام يوحي بذلك، أو نذيرا من النذر يوسوس به، أو بشيرا يومئ إليه؛ فكل أولئك لا يقره عقله. ولكنه على الرغم من ذلك يحس ويتوقع ويخاف ويستبشر، كما حدث في آخر يوم من حياته؛ إذ أفضى إلى صاحب له أن فؤاده يحدثه بمكروه، وكما حدث إذ تحدث إلى هرندن ذات يوم قبل ذلك بأعوام قائلا: «بلى ... إني لأخشى أن سوف تأتي نهايتي على صورة مرعبة!»
شمال وجنوب!
كان اتساع هوة الخلاف بين الشمال والجنوب أمرا لا بد أن تفضي إليه الظروف؛ فإن مشكلة الرق أمست كبرى المشاكل القومية، حتى إنه ليمكن القول بأن أكثر ما نجم من المسائل منذ منتصف القرن التاسع عشر، إنما يرد إلى تلك المشكلة التي أعضلت على الحل، والتي وصفها جفرسون من قبل وصفا بليغا في قوله: «إنها مثل الذئب نمسكه من أذنيه فلا نستطيع أن نظل ماسكيه، ولا نستطيع أن نطلقه ونضمن السلامة.»
خفف اتفاق مسوري حدة الخلاف بين الشمال والجنوب زمنا ليس بالقصير، فقد عقد ذلك الاتفاق سنة 1820، وعاد الخلاف يتهدد الاتحاد بسبب مسألة كليفورنيا سنة 1850.
أراد الجنوبيون أن تكون كليفورنيا من ولايات الاسترقاق، وأراد الشماليون أن تكون من الولايات الحرة، وشايع أهلها الشماليين فيما ذهبوا إليه، واحتدمت الخصومة بين الجانبين، حتى بلغ الأمر بالجنوبيين أن رددوا كلمة الانسحاب من الاتحاد، وحتى ظن بعض الناس أن هذا الخلاف الجديد لا بد مؤد إلى انقسام البلاد إلى اتحاد شمالي واتحاد جنوبي.
كان أهل الجنوب ينظرون في قلق إلى تزايد عدد الشماليين نتيجة لما درته الصناعة والتجارة عليهم من خير، ونتيجة لتيسير سبل الاتصال بين الشرق والغرب بتعبيد الطرق ومد سكك الحديد؛ مما أدى إلى نزوح أهل الشمال إلى الجهات الغربية يعمرونها وينسلون فيها، هذا إلى أن دعاة التحرير تزداد أصواتهم ارتفاعا، كأن لم تكف أهل الشمال عداوتهم السلبية للرق فيريدون أن يقضوا عليه بين يوم وليلة.
لهذا أصر الجنوبيون على أن تكون كليفورنيا من ولايات الرق، فإن سكان الولاية عند الانتخاب للمجلس النيابي يقدر عددهم على أساس البيض كلهم مضافا إليهم ثلاثة أخماس السود، وكان الجنوبيون يطمعون أن يعمروا بقاعا جديدة، كما يفعل الشماليون وينشروا فيها الرقيق، فلا أقل اليوم من أن يقروا مبدأ الرق في كليفورنيا، وما أجدرهم أن يعظم سخطهم على الشماليين لوقوفهم بينهم وبين ما يبتغون، وكان الرئيس يومئذ هو تيلور، فأعلن رأيه مؤيدا الشماليين قائلا في صراحة إن من السخف أن يحمل أهل كليفورنيا على أمر لا يريدونه، وزاد رأيه هذا بالضرورة سخط أهل الجنوب، وملأ قلوبهم غيظا وثورة، ولكن تيلور ما لبث أن مات وحل محله نائب الرئيس، فسهل موته العمل على الوصول إلى اتفاق جديد؛ إذ كان تيلور عنيدا يتمسك برأيه ولو أنه بقي لبعد الأمل في التسوية، وكان نائبه سهل الخلق لا يأبى إذا حزبه أمر أن يترك الرأي فيه لمن يراه أقوى على الخلاص منه.
ومن عسى أن يدبر للبلاد مخرجا من هذه الأزمة؟ بهذا تلفت الناس يتساءلون، فاتجهت قلوبهم إلى صاحب اتفاق مسوري؛ إلى هنري كليي، ومن غير كليي إذا اشتد بالناس الخلاف؟ وكان الرجل في عزلته منذ فشله سنة 1844، وقد تقدمت به السن وأخذ الضعف يدب في بدنه، ولكنه وقد أهاب به داعي الوطن لم يكن ليستطيع أن يتخلف وهو الشهير بصدق وطنيته وقوة حرصه على بناء الاتحاد، فبرز من عزلته يمد يده إلى وطنه من جديد.
ناپیژندل شوی مخ