ولما جلس لنكولن بينهم حول المنضدة عرف كيف يؤلف بين قلوبهم، وكيف يحملهم على احترامه وعلى محبته، ثم على الإذعان له والتسليم بالتفوق، ولقد باتوا جميعا يعجبون؛ كيف يدبر الأمور - كما يرون ويلمسون - رجل لم يعهد إليه مثل هذا العمل من قبل، ولولا أنهم جميعا يعرفونه ما صدقوا أن هذه أول مرة يضطلع فيها بمثل هذا العمل.
رأوه يخفض لهم جناحه ويبسط مودته ويوسع صدره، يستمع لآرائهم جميعا ولا يتكلم حتى يفرغوا من أقوالهم، فإذا أعجبه رأي قبله مغتبطا، وإذا خالف أحدا في رأيه أظهر له في دماثة سبب مخالفته إياه، مع شدة الحرص على احترام شخصية من يخالفه، وإظهار الاستعداد للاقتناع إذا استطاع محدثه أن يزيده إيضاحا أو يسوق له الجديد من الحجج.
وعرفوا خلاله من كثب، فأعجبوا بأدبه وعذوبة روحه ونقاء سريرته وطيبة قلبه، ولمسوا شجاعته في الحق، وأنسوا نكرانه لذاته ونسيانه كل شيء إلا رسالته التي يستمد منهم العون في أدائها، وبلوا بأنفسهم صبره في الشدائد وعزيمته إذا هم بما اقتنع بصوابه، وتبينوا حصافته وأناته وبعد نظره، وبهرهم فوق هذا ذهنه المصفى ومنطقه المستقيم، وأعجبتهم فصاحته وفطنته، تلك الخلال التي جعلته أقدر الناس فيهم على أن يفصح عن آرائه لمن يستمع إليه، وأن يتبين ما يأخذ مما يدع في كل ما يعرض له من الأمور، مهما تعقدت على غيره والتوت الأمور.
ولقد عد كثير من المؤرخين إدارة لنكولن مجلسه على هذه الصورة مظهرا قويا من مظاهر عظمته، وناحية بارزة من نواحي نجاحه، وسلكوه بها في ثبت كبار الساسة في تاريخ الأمم، ولا عجب؛ فإنه ليندر أن نجد في سجل الأيام مجلسا حكوميا شعر أعضاؤه بمثل ما شعر به أعضاء هذا المجلس من معاني الاحترام نحو رئيسهم، لا يستثنى منهم أحد حتى سيوارد ذلك الذي كان يدل أول الأمر بتجاريبه ودرايته بأساليب الحكم والسياسة، فإنه ما لبث أن اعترف في نبل وكرم نفس أن صاحبه أقدر على ذلك المنصب وأجدر به منه.
لنكولن ومجلس وزرائه.
في مهب العاصفة
كان أول ما تلقاه الرئيس من البريد في صباح اليوم التالي لتسلمه العمل خطابا من الجنرال أندرسون في حصن سمتر، ينبئه فيه أنه ما لم يصل مدد إلى الحصن فإنه لا يقوى على الدفاع عنه أكثر من أسبوع.
وكان أهل الجنوب وأهل الشمال على اتفاق ألا يهاجم أنصار الانسحاب الحصن إلا إذا رأوا من أهل الشمال ما يبرر ذلك، وماذا عسى أن يفعل الرئيس إذن؟ أيترك حامية الحصن بلا مدد، أم يرسل المدد فيتحدى بذلك أهل الجنوب؟ إن عليه أن يختار بين أمرين أحلاهما مر.
لذلك أخذ الرئيس يتدبر عله يجد مخرجا، وهو على عادته طويل الأناة لا يخطو خطوة قبل أن يحسب لكل أمر حسابا. ولكن سيوارد يضيق ذرعا بهذه الأناة، وينصح للرئيس أن يأمر بإخلاء الحصن، وكذلك يشير عليه سكت رأس جنده، وهو لا يرى ما يريان، فالمسألة دقيقة شائكة، أوليس التخلي عن الحصن معناه الاعتراف ضمنا لأهل الجنوب بصواب دعوتهم إلى الانسحاب؟ ثم أليس في ذلك خروج على ما أعلن الرئيس في خطبة الاحتفال؟ وهو إن أرسل المدد إلى الحصن ألا يعتبر عمله هذا تحديا للثائرين، فيكون بذلك هو الذي خطا أول خطوة نحو الحرب، الأمر الذي يحرص أشد الحرص أن يتجنبه؟ إذن فلا بد من الروية والتدبر والصبر.
وجاء رجلان من الجنوب إلى العاصمة الشمالية كممثلين لدولة أجنبية يطلبان أن يفاوضا لنكولن على هذا الأساس، ولكنه رفض أن يلقاهما، ولم يفعل أكثر من أن يرسل إلى كل منهما نسخة من خطبته. ولقد طلب إليه بعض الناس أن يحبسهما على أنهما خارجان على القانون، ولكنه رفض أن يفعل ذلك حتى لا تزداد الفتنة، وبقي الرجلان في العاصمة يجمعان الأنباء ويرسلانها إلى أهل الجنوب.
ناپیژندل شوی مخ