وتعلن نتيجة الدفعة الأولى للولايات، فإذا سيوارد يزيد على أبراهام بسبعين صوتا وصوت، فيهتف أنصار سيوارد ويتصايحون، ويكتئب أصحاب أبراهام، ثم تعلن الدفعة الثانية فإذا أبراهام لم يبق بينه وبين سيوارد سوى ثلاثة أصوات، ويسود الصمت في جنبات المؤتمر، وشخصت الأبصار، وخفقت القلوب، وتأهب رجال الصحافة لتلقي النبأ الأخير؛ ففي الدفعة القادمة القول الفصل، وما هي إلا لحظة ثم يرتفع صوت باسم لنكولن، فتهب في القاعة عاصفة هائلة من الهتاف والتصفيق تجاوبها خارجها عاصفة أشد منها قوة وأطول أمدا ؛ إذ يظل الناس يتعانقون ويتصايحون ويقذفون بقبعاتهم في الهواء، ويتواثبون ويرقصون زهاء ربع الساعة كأنما مسهم طائف من الجنون.
وأبراهام في غرفة صاحبه في سبرنجفيلد يوجس خيفة في نفسه طورا ويثق في النصر طورا، وحوله جماعة من أنصاره ينتظرون كما ينتظر. وبينما هم كذلك إذ أقبل شاب من مكتب البرق يحمل رسالة، يطفر بها كما يطفر العصفور من شدة فرحه وهو يهتف باسم أبراهام ويقبل عليه بالنبأ السار، ثم يهيب بالحاضرين أن يهتفوا ثلاث مرات لأيب الأمين رئيس الولايات المقبل.
ويقبل على أبراهام صحابته وفي مآقيهم دموع الفرح وعلى ألسنتهم ما لا يفي بالتعبير عما في قلوبهم من معان، وهو منشرح الصدر مثلج الفؤاد، ولكنه واقف بينهم معقود اللسان لا يدري ماذا يقول؛ لأنه لا يجد من الكلام ما يفصح عما في نفسه، وبعد لحظة يقول لهم: «إن امرأة صغيرة قصيرة هنالك في بيتنا يسرها أن تعلم هذا النبأ!» يقول ذلك ويمضي مسرعا إلى ماري فيفضي إليها بأجمل وأبهج ما انفرجت عنه أمامها شفتاه.
وجاء وفد من قبل الحزب ينبئه رسميا بظفره بترشيح الحزب إياه، وتلقى أبراهام وزوجته الوفد في دارهما، وقد أعدت ماري العدة لهذا اللقاء؛ فعنيت قبل كل شيء بما ينبغي أن يحرص عليه زوجها فيما يتصل بملابسه وفيما يتصل بقواعد المائدة، وما إلى ذلك مما يليق بمن سوف يكون في غده رئيس الولايات المتحدة. وقطع أبراهام على نفسه العهد ضاحكا أن يكون كما تحب، ثم أعدت ماري من ألوان الطعام ما تكرم به الضيوف، وأرسل بعض أصحاب أبراهام إليه وإلى زوجته زجاجات خمر كي يشرب منها رجال الوفد، ولكن أبراهام ردها إليهم جميعا معتذرا بأنه لا يشرب الخمر ولا تدخل الخمر بيته، فلا محل لأن يقدمها لضيوفه.
وأعجب رجال الوفد بالرئيس المنتظر، فما برحوا داره إلا وقد ارتبطت قلوبهم بقلب ذلك الرجل العظيم، فهم وإن رأوه بسيطا في كل شيء حتى لا يختلف في شيء عن عامة الناس، يحسون أن فيه ما يرفعه درجات فوق الناس ويستبشرون به وينقلبون إلى حزبهم فرحين.
ويكتب أبراهام رده ولكن قبل أن يرسله إلى الحزب يذهب إلى معلم من معلمي المدينة، فيرجو منه أن يقرأ كتابه ليرى إن كان خاليا من الخطأ النحوي؛ فإنه كما يقول للمعلم غير متمكن من النحو، فيقع المعلم على غلطة فيصلحها، ويذكر القاعدة لرئيس الغد فينصت كما ينصت التلميذ، وينطلق أبراهام بكتابه، وإنه ليسأل نفسه لم لم يتعلم النحو ويتقنه كما تعلم القراءة وأتقنها أيام كان يشق بفأسه الأخشاب.
نذر العاصفة
لبث أبراهام نحو أربعة أشهر في سبرنجفيلد ينتظر موعد الانتخاب للرياسة، وأقام في المدينة هذه المدة فما عهد عليه أحد من أهلها أنه تغير أدنى تغير عما كان عليه؛ فهو في الناس فرد منهم وإن كان بسبيل أن يذهب عما قريب إلى البيت الأبيض.
وظلت سبرنجفيلد أياما في ابتهاج ومرح وأبراهام يلقي الوفود في داره خافضا لهم جناحه باذلا من الود والحب أكثر مما يبذلون، وهم معجبون برجلهم الذي هو اليوم مناط آمالهم وموضع تجلتهم، يعجبون منه بكل شيء، وبخاصة ذلك التواضع الذي يبدو الآن رائع الجلال باهر الجمال.
وكان أبراهام في تلك الأيام كثير الصمت يطيل التأمل والتفكر أحيانا أكثر مما كان يفعل من قبل، ولقد أحاط الناس بداره ليلة مجيء ذلك الوفد وطلبوا إليه أن يخطبهم، فأطل عليهم بعد إلحاح منهم، فقال وهو الخطيب الذي يفيض كما يفيض السيل: «أي مواطني! توجد لحظات في حياة كل سياسي يكون خير ما يفعل فيها أن يحتفظ بشفتيه مضمومتين، وإني أحسب أن مثل تلك اللحظات قد حانت الآن بالنسبة إلي.» ولم يزد على هذه الكلمة شيئا على الرغم من تحمس الناس لسماعه.
ناپیژندل شوی مخ