صباح يوم فعالية الراحة الأبدية، استيقظ ثيو شاعرا بضيق، ليس قويا كفاية كي يعتبره قلقا، بل كان اكتئابا خفيفا باهتا، مثل بقايا حلم بغيض لا يذكره. وحتى قبل أن يمد يده إلى مفتاح الإضاءة، كان يعرف ما يحمله له اليوم في جعبته. اعتاد طوال حياته أن يدبر ملذات بسيطة يخفف بها من وطأة الواجبات المكدرة. عادة كان من شأنه أن يبدأ الآن بتخطيط طريقه بعناية؛ ليمر بحانة جيدة يتناول فيها وجبة غداء مبكرة، وكنيسة مشوقة يزورها، وربما ينحرف عن طريقه ليتأمل قرية خلابة. لكن لا شيء يمكنه أن يخفف من وطأة رحلة الموت هو وجهتها وغايتها. كان من الأفضل أن يصل إلى وجهته بأسرع ما يمكن، ويشاهد ما وعد بمشاهدته، ثم يعود إلى بيته، ويخبر جوليان أنه ليس بيده ولا بيد الجماعة شيء، ثم يحاول محو تلك التجربة الثقيلة على نفسه، التي لم يشأ خوضها، بأكملها من ذهنه. كان ذلك يعني أنه لن يسلك الطريق المشوق الذي يمر ببدفورد، كامبريدج، وبلدة ستاوماركت، بل سيسلك الطريق السريع «إم 40» حتى طريق «إم 25» ثم يسلك طريق «إيه 12» باتجاه الشمال الشرقي حتى ساحل سافولك. فذلك الطريق سيكون أسرع وإن لم يكن مباشرا أو مشوقا، لكنه لم يتوقع أن تكون رحلته بالسيارة ممتعة.
لكنه قطع مسافة جيدة. كان حال الطريق «إيه 12» أفضل بكثير مما توقع نظرا لأن موانئ الساحل الشرقي قد صارت شبه مهجورة. قطع المسافة في زمن ممتاز، فقد وصل إلى الخور في بلايثبرو قبل الساعة الثانية بقليل. كان المد آخذا في الانحسار، لكن وراء البوص والسهل الساحلي، كان الماء يمتد كوشاح حريري، وكان ضوء شمس العصر الباكر المتقلب الذهبي ينعكس في نوافذ كنيسة بلايثبرو.
مر ثمان وعشرون عاما على آخر زيارة له لذلك المكان. حينها كان يقضي هو وهيلينا عطلة نهاية الأسبوع في فندق «ذا سوان» في سوثولد عندما كان عمر ناتالي ستة أشهر. كانت قدرتهما المالية في ذلك الوقت لا تسمح باقتناء ما هو أفضل من سيارة فورد مستعملة. ربط مهد ناتالي جيدا في مقعدها الخلفي، وملئ صندوق أمتعتها بلوازم الرضيعة؛ حزم كبيرة من الحفاظات للاستعمال الواحد، وأدوات تعقيم زجاجات الرضاعة، وعلب من طعام الرضع. عندما وصلوا إلى بلايثبرو، بدأت ناتالي تبكي وقالت هيلينا إنها جائعة ويجب أن تطعمها الآن دون الانتظار حتى الوصول إلى الفندق. اقترحت أن يتوقفا عند نزل «وايت هارت» في بلايثبرو. فلا بد أن صاحب النزل سيكون لديه ما يلزم لتدفئة الحليب. كما يمكنهما أن يتناولا الغداء في الحانة بينما ترضع ناتالي. لكنه رأى أن موقف السيارات كان مكتظا، وكان يكره المتاعب والعناء الذي قد يتسبب به وجود الطفلة ومطالب هيلينا. قوبل إصراره على التصبر لبضعة أميال أخرى حتى يصلوا إلى ساوثولد بتذمر. بالكاد لمحت هيلينا، التي كانت تحاول تهدئة الطفلة دون جدوى، صفحة النهر المتلألئة، والكنيسة الضخمة التي بدت كسفينة ملكية راسية وسط البوص. كانت عطلة نهاية الأسبوع قد بدأت بالكدر المعتاد واستمرت بمحاولته كبت مزاجه الحاد. كان ذلك بالطبع خطأه. فقد آثر إيذاء مشاعر زوجته وحرمان طفلته على تحمل عناء دخول حانة مكتظة بالغرباء. تمنى لو كان يملك ذكرى واحدة لطفلته المتوفاة لا يلوثها الشعور بالذنب والندم.
قرر بدون تفكير أن يتناول غداءه في تلك الحانة. اليوم كانت سيارته هي السيارة الوحيدة المركونة في موقفها. وداخل الغرفة ذات دعامات السقف الخشبية المنخفضة، حلت مدفأة كهربائية ذات أنبوبي تسخين محل أرض الموقد السوداء الذي كانت تشع منه نيران الحطب التي كان يذكرها. كان الزبون الوحيد في الحانة. قدم له صاحب الحانة العجوز جعة محلية الصنع. كانت لذيذة، لكن الطعام الوحيد الذي كان متوفرا لديه كان الفطائر المخبوزة سلفا والتي سخنها الرجل في فرن الميكروويف. لم تكن تلك وجبة كافية لتهيئته للمحنة التي هو مقدم عليها.
سلك المنعطف، الذي كان يذكره، المؤدي إلى طريق سوثولد. بدا ريف سافولك المجدب والمقفر تحت سماء الشتاء دون تغيير، لكن الطريق نفسه كان قد تردى حاله، مما جعل الرحلة وعرة وخطرة كأنما يخوض سباق سيارات على الطرق الوعرة. ولكن عندما وصل إلى ضواحي رايدون، رأى جماعات صغيرة من العمال الوافدين ومشرفيهم يتجهزون، كما كان واضحا، لإصلاح الطريق. تطلعت إليه وجوههم الداكنة بينما كان يمر بجانبهم بحرص مبطئا سرعته. كان وجودهم مفاجئا له. فقد كان متأكدا من أن ساوثولد لم تحدد ضمن مراكز السكان المستقبلية المعتمدة. إذن لماذا يهم ضمان توفر مدخل آمن لها؟
مر بحاجز الرياح الذي صنعته أشجار مدرسة سانت فيلكس وأراضيها ومبانيها، التي كتب على لوحة كبيرة علقت على مدخلها أنها صارت الآن مركز حرف شرق سافولك. على الأرجح لم تكن أبوابها تفتح إلا في فصل الصيف أو عطلات نهاية الأسبوع، فلم ير أحدا يسير وسط مروجها الخضراء الواسعة غير المشذبة. ثم عبر جسر برايت ودلف إلى البلدة الصغيرة التي بدت بيوتها المطلية كأنها تعاني خدر التخمة. منذ ثلاثين عاما كان أغلب ساكنيها من المسنين؛ جنودا متقاعدين ينزهون كلابهم، وأزواجا متقاعدين بعيون بريئة متطلعة لوحتها الشمس، يسيرون على شاطئها وقد تأبط كل منهم ذراع زوجه. كان يسودها جو من الهدوء المنظم، سكنت فيه كل المخاوف. أما الآن فقد صارت شبه مهجورة. كان عجوزان يجلسان متجاورين على مقعد خارج فندق كراون يحدقان في الفضاء أمامهما، ويستندان بيديهما المتيبستين إلى عكازيهما.
قرر أن يوقف السيارة في باحة فندق ذا سوان ليحتسي فنجانا من القهوة قبل أن يتابع طريقه متجها إلى الشاطئ الشمالي، لكنه كان مغلقا. بينما كان يهم بركوب السيارة مرة أخرى، خرجت امرأة في مرحلة الكهولة، ترتدي مئزرا مزينا بنقشات الورود، من الباب الجانبي وأغلقته خلفها.
قال لها: «كنت آمل أن أحتسي فنجان قهوة. هل أغلق الفندق نهائيا؟»
كان وجهها محببا لكن ارتسمت عليه أمارات التوتر، وتلفتت حولها قبل أن تجيبه قائلة: «بل اليوم فقط يا سيدي. هي لفتة احترام. فاليوم تقام فعالية الراحة الأبدية كما تعلم، أو لعلك لم تكن تعلم.»
قال: «بل كنت أعلم.»
ناپیژندل شوی مخ