كما كان يعلم، كان نزل «بيرش إن » مغلقا منذ وقت طويل بعد أن تقلصت أعداد زبائنه. كانت رحلة الذهاب إلى بينسي عبر بورت ميدو هي إحدى نزهات السير المفضلة لديه صباح أيام الأحد، وكان ذلك النزل هو مقصدها. أما الآن فشعر أن من يقطع تلك القرية الصغيرة هو شبح الرجل الذي كان عليه في السابق، مبصرا بعينين غريبتين عنه الجادة الضيقة التي تحفها على الجانبين أشجار الكستناء الممتدة لنصف ميل، والتي تتجه إلى الشمال الغربي من بينسي إلى كنيسة سانت مارجريت. حاول تذكر متى كانت آخر مرة قام فيها بهذه النزهة. أكان ذلك منذ سبع سنوات، أم عشر؟ لم يستطع تذكر النزهة نفسها ولا من رافقه فيها إن كان أحد قد رافقه. لكن الجادة تغيرت. كانت أشجار الكستناء لا تزال قائمة، لكن الجادة، التي ظللتها الأغصان المتشابكة فأعتمتها، قد ضاقت حتى أصبحت مجرد ممشى ضيق تعفنت على سطحه أوراق الأشجار الساقطة وتشابكت فيه، بغزارة ودونما تقليم، أغصان أشجار البلسان والدردار. كان يعرف أن المجلس المحلي قد خصص ممرات مشي معينة لإماطة تلك العوائق عنها، لكن تدريجيا تقلص عدد تلك الممرات التي كانت تلقى عناية منه. فقد كان المسنون أوهن من أن يقوموا بالعمل، والكهول الذين يقع على عاتقهم مسئولية الحفاظ على حياة الدولة كانوا مشغولين للغاية، أما الشباب فلم يكونوا يهتمون كثيرا بالحفاظ على الريف. فلماذا يحافظون على ما سينعمون فيما بعد بوفرة منه؟ فسيرثون جميعهم عما قريب عالما من المرتفعات غير المأهولة، والجداول النقية، والغابات والأحراش الشاسعة، والأخوار المهجورة. نادرا ما كنت تراهم في الريف، ويبدو أنهم كانوا يهابونه. كانت الغابات، على وجه الخصوص، قد صارت مواطن خطر يهاب كثيرون دخولها، وكأنهم كانوا يخشون أنهم لن يخرجوا إلى النور قط إن تاهوا وسط جذوع أشجارها الداكنة المتصلبة وممراتها المنسية. ولم يكن ذلك مقتصرا على الشباب. فقد أخذت أعداد من يبحثون عن رفقة بني جنسهم تزداد، فهجروا القرى الموحشة حتى قبل أن تستدعي الحصافة أو القرار الرسمي ذلك، ونزحوا إلى تلك المقاطعات الحضرية التي وعد الحاكم بأنه سيعمل على توفير الإنارة والطاقة بها حتى النهاية، إن أمكن.
كان المنزل المنفرد الذي كان يذكره لا يزال قائما وسط حديقته على يمين الكنيسة، ولدهشته رأى ثيو أن جزءا منه على الأقل مأهول. فقد كانت الستائر تغطي نوافذه، وعمود من الدخان يتصاعد من مدخنته، وعلى يسار الممر كان من الواضح أن أحدا حاول اجتثاث الحشائش، التي بلغت في ارتفاعها مستوى الركبة، لزراعة حديقة خضر. إذ تدلت بضعة أعواد ذابلة من الفاصوليا القرمزية من الأوتاد الداعمة كما كان يوجد صفوف غير مستوية من الكرنب وكرنب بروكسل التي كان لونها قد بدأ في الاصفرار. خلال زياراته وقتما كان طالبا جامعيا، تذكر شعوره بالحسرة من أن الضجيج الصاخب المتواصل للطريق السريع «إم 40» كان يعكر سكينة أجواء المنزل والكنيسة اللذين كان يصعب تصديق أنهما قريبان من المدينة لتلك الدرجة، أما الآن فكان يكاد لا يسمع له أي ضجيج، وبدا المنزل وكأنما يلفه هدوء سرمدي.
قطع ذلك الهدوء عندما انفتح الباب بقوة واندفع خارجا منه رجل مسن يرتدي جبة كاهن باهتة وهو يزعق ويسير بخطى متعثرة في الممر ملوحا بذراعيه وكأنما يطرد وحوشا جامحة. صاح بصوت مرتعش: «لا يوجد قداس! لن يقام قداس اليوم. ستقام معمودية في الحادية عشرة.»
قال ثيو: «لم آت لحضور قداس، وإنما جئت للزيارة فقط.» «هذا كل ما يفعلونه، أو هكذا يزعمون. لكني أحتاج جرن المعمودية في الحادية عشرة؛ لذا لا بد أن يخرج الجميع بحلول ذلك الوقت. الجميع باستثناء من أتوا لحضور المعمودية.» «لا أظن أنني سأمكث هنا حتى ذلك الوقت. هل أنت قس الأبرشية؟»
اقترب من ثيو ونظر إليه بعينين حادتين مرتابتين. خيل لثيو أنه لم ير أحدا أطعن منه في السن، فقد كان جلده المبقع الرقيق كالورقة مشدودا للغاية حول عظام جمجمته وكأنما لا يطيق الموت الانتظار حتى يحصد روحه.
قال الرجل الطاعن في السن: «لقد أقاموا قداسا أسود هنا يوم الأربعاء الماضي، وظلوا يغنون ويصرخون طوال الليل. هذا لا يصح. لا يمكنني إيقافه، لكني لا أوافق عليه . كما أنهم لا ينظفون المكان بعد الفوضى التي يحدثونها؛ الدم والريش والنبيذ الذين يغطون الأرض، وآثار شحم الشمع الأسود. لا يمكن إزالتها، فهي تأبى أن تزول، كما تعلم. كل ذلك يترك لي لأقوم به. وهم لا يأبهون. هذا ليس عدلا، ولا يصح.»
قال ثيو: «لم لا توصد باب الكنيسة؟»
بدأت نبرة العجوز تغدو تآمرية. «لأنهم أخذوا المفتاح. هذا هو السبب. وأنا أعرف من أخذه. نعم، أعرف.» دار على عقبيه وسار بخطى متعثرة تجاه المنزل وهو يتمتم، ثم التفت عندما وصل إلى الباب كي يصيح بإنذار أخير: «اخرج في تمام الحادية عشرة. إلا إذا كنت ستحضر المعمودية. على الجميع الخروج بحلول الحادية عشرة.»
سار ثيو إلى الكنيسة. كانت عبارة عن بناء حجري، ولها برج قصير ذي جرسين جعلها تبدو كمنزل حجري متواضع بمدخنة واحدة. كانت ساحة الكنيسة مغشاة بالأعشاب البرية مثل حقل طال إهماله. كان العشب طويلا وباهتا كالقش، وزحف اللبلاب على شواهد القبور طامسا أسماء أصحابها. في مكان ما وسط تلك البرية المتشابكة كان يقف بئر سانت فريدسوايد الذي كان فيما مضى مكانا يحج إليه الناس. سيواجه أي حاج في يومنا هذا صعوبة في العثور عليه. لكن كان من الواضح أن الكنيسة نفسها كانت تحظى بزوار. كان على كل جانب من جانبي رواقها أصيص من الفخار مزروع به شجيرة ورد واحدة، تجردت سيقانها من الأوراق لكنها لا تزال تحمل بضعة براعم عطشى لفحها الشتاء.
كانت جوليان تنتظره في الرواق. لم تمد يدها لتصافحه أو حتى تبتسم، وإنما قالت: «شكرا لقدومك، جميعنا موجودون.» ثم دفعت الباب فاتحة إياه. تبعها إلى داخل الكنيسة المعتمة فاستقبلته على الفور موجة قوية من البخور طغت على رائحة أخرى أشد ضراوة. عندما أتى إلى هنا للمرة الأولى، منذ خمسة وعشرين عاما، نقله سكونها وسلامها السرمدي إلى عالم آخر، وشعر كأن ما يدوي حوله في الهواء صدى تراتيل طواها النسيان، وابتهالات قديمة وصلوات يائسة. كل ذلك لم يعد موجودا. في السابق كان السكون الذي يغلف هذا المكان أكثر من مجرد غياب للضوضاء. أما الآن فقد صار مجرد مبنى حجري، لا أكثر.
ناپیژندل شوی مخ