كيفية محبة النبي ﷺ ووسائلها في هذا العصر
النبي ﷺ قد يبين لنا مكانة وقدر أول هذه الأمة، وأن هناك فرقًا كبيرًا بين من عاش معه ﵊، وتعلق به، وبين من أحبه وتعلق به، ودافع عن سنته في زماننا هذا؛ لأننا نعيش زمانًا ابتعدنا فيه كثيرًا عن زمن الحبيب رسول الله ﷺ؛ فبين لنا نبينا ﵊ أننا إخوانه، وأحبابه، قال النبي ﷺ يومًا: (شوقًا لإخواني؛ فقالوا: أولسنا بإخوانك يا رسول الله؟! قال: بل أنتم أصحابي، أما إخواني فقوم يؤمنون بي، ولم يروني) .
وفي رواية في الصحيح قالوا: (فكيف تعرف أمتك يا رسول الله يوم القيامة وأنت على الحوض؟ - مع هذه الأمم الكثيرة- فقال ﵊: تردون علي غرًا محجلين من آثار الوضوء) .
فلا شك أن المحب الصادق للنبي ﷺ المدافع عن سنته، المبلغ لدعوته، مكانته عند الله عظيمة، ومكانته عند النبي كبيرة، ومن أجل هذا أقول لأحبابي وإخواني: امش على الأثر، النبي مشى برجله اليمنى؛ ضع رجلك اليمنى، يمشي برجله اليسرى ضع رجلك اليسرى، وامش على آثار أقدام النبي؛ لترى آخر هذا الطريق الحبيب المصطفى ينتظرك على الحوض إن شاء الله تعالى.
مداخلة: كيف نبلغ هذا الحب في مثل هذا العصر؟ النبي ﷺ له دعوة، وله دين، ويجب على كل مسلم صادقٍ يفخر بهذا الانتساب، وبهذا الشرف، وأن يعلم يقينًا أن من حق النبي ﷺ عليه أن يرفع الراية، ويبلغ الدعوة، قال الله جل وعلا: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ﴾ [يوسف:١٠٨] .
(قل هذه سبيلي) أي: قل: يا محمد ﷺ (هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة)، لست أنا وحدي، (أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين) .
قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: ولا يكون الرجل من أتباع النبي ﷺ حقًا حتى يدعو إلى ما دعا إليه النبي على بصيرة.
قال ﵊ -كما في صحيح البخاري من حديث عبد الله بن عمرو:- (بلغوا عني ولو آية)، أنت تحفظ كم آية، وأنا أحفظ كم آية، وإخواني وأخواتي! الكل يحفظ من القرآن، ويحفظ عن رسول الله ﷺ؛ لكننا أصبنا الآن بسلبيةٍ قاتلة؛ أنا مالي؟ أنا سأعمل ماذا؟! وهل أنا سأغير النظام؟! أمشي بجانب الحائط، ويكفيني أن أربي العيال.
لقد أسمعت لو ناديت حيًا ولكن لا حياة لمن تنادي ولو نارًا نفخت بها أضاءت ولكن أنت تنفخ في رماد والآخر يقول: أنا رجل مذنب، وأنا رجل عاص؛ أنا لست عالمًا.
هناك فرقٌ كبير بين طلب العلم، وبين الدعوة لله جل وعلا والبلاغ عن الله ورسوله، فطلب العلم لا ينتهي؛ كما قال الإمام أحمد: مع المحبرة إلى المقبرة، سأظل أطلب العلم حتى ألقى الله جل وعلا، لكن الدعوة والبلاغ عن رسول الله يجب على كل مسلم ومسلمة، كل بحسب قدرته واستطاعته، إن لم تستطع بلسانك؛ فبلسان غيرك من أهل العلم؛ بالشريط، بالكتاب، بالكتيب، بالدعوة لحضور محاضرة من المحاضرات لعالم من البلغاء، بزيارة مع أهلك لهذه الأسرة لتبلغها عن الله وعن رسول الله، بالحديث في الدين والتذكرة مع زميلك في العمل، مع جارك في السيارة، مع جارك في البيت، مع جارك في الوظيفة.
المهم أن تحمل في قلبك هم الدعوة والبلاغ، وأن تعلم يقينًا أنه لن تنال شرف الانتساب للنبي ﷺ إلا إذا رفعت الراية التي عاش النبي ﷺ طوال عمره رافعًا لها، ألا وهي راية الدعوة، والبلاغ عن الله جل وعلا.
قال الله ﷾: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ﴾ [المدثر:١-٢]، وقال الله جل وعلا: ﴿إِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ﴾ [النحل:٨٢]، وقال الله جل وعلا: ﴿إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرٌ﴾ [الرعد:٧]، وأمره الله ﷾ بقوله: ﴿قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنْ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا * إِلاَّ بَلاغًا مِنْ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ﴾ [الجن:٢١-٢٢]، أي: إلا أن أبلغ دين الله ورسالة الله ﵎.
في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن مسعود ﵁ أن النبي ﷺ قال: (ما من نبي بعثه الله في أمةٍ قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب؛ يأخذون بسنته، ويقتدون بأمره، ثم إنه تخلف من بعدهم خلوف - نعوذ بالله أن نكون منهم- يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون؛ فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل) .
فما من نبي إلا وله أصحاب وحواريون، فهل نحن من أنصار رسول الله؟ لن نكون كذلك إلا بالبلاغ؛ إلا بالدعوة، كلنا يتفنن ويخطط لمستقبل أولاده، لكن من منا نام وهو يحمل هم الدعوة إلى الله؟ من منا نام والدعوة إلى الله هي همه بالليل والنهار؟ من صارت الدعوة فكره في النوم واليقظة، وشغله في السر والعلانية؟ لماذا لا يخطط كل مسلم لدين الله، ولدعوة الله كما يخطط لتجارته، وكما يخطط لمستقبل أولاده ومستقبل نفسه؟! لن ننال شرف هذا الانتساب إلا بالدعوة إلى الله على منهج رسول الله، بالحكمة والموعظة الحسنة، والكلمة الرقراقة الرقيقة الطيبة المهذبة، وقد وضحنا ذلك عندما تحدثنا عن خلق رسول الله ﷺ.
إذًا: نحن مأمورون بالبلاغ عن رسول الله ولو بآية: (بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب علي متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار) .
فأنت مأمورٌ بالبلاغ عن رسول الله، وأنا مأمور بالبلاغ عن رسول الله، بشرط أن يكون المبلغ عن الله، وعن رسول الله على علم بما يبلغه، ليس بالضرورة أن تكون عالمًا في كل الجزئيات والجوانب، لكن إن بلغت عن رسول الله لابد أن تتحرى الأمانة، وأن تتحرى الصدق؛ لتعلم أنك صادق في كل ما تنقله عن النبي ﷺ.
وخذ هذا الأجر العظيم أيها المبلغ عن الله ورسوله! ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة ﵁ أن النبي ﷺ قال: (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئًا) .
ربما تقول لي: يا شيخ! أنا أحب أن أتحرك للدعوة؛ لكنني أحس بالتقصير، ذنوبي كثيرة، والمعاصي تلجمني، أقول: من من البشر على وجه الأرض لم يخطئ؟ لقد انتهى زمن العصمة يوم مات المصطفى ﷺ، ولا ينبغي أن تحتج بالمعصية على عدم البلاغ، بل اعلم أن تحركك للدعوة ولدين الله من أعظم أسباب بعدك عن المعصية، عندما تذكر أحد زملائك بصلاة الفجر، وتقول له: صل الفجر! صل الفجر! صلاة الفجر نعمة! وأنت مقصر في صلاة الفجر؛ ستأتي اللحظة حتمًا التي تشعر فيها بالخجل من الله، وبالتقصير أمام نفسك؛ لترى نفسك تبادر لصلاة الفجر، وليس معنى أنك مقصر في أمر ألا تأمر غيرك به، هذا فهم مغلوط.
تصور أن رجلًا مثلًا يزني والعياذ بالله! هل يجوز له أن يأمر غيره بالزنا؟ لا يجوز، وهل يحرم عليه أن يحذر غيره من الزنا؟! لا يحرم عليه، بل يؤجر على ذلك؛ فهناك فهم مغلوطٌ لمثل هذه الأمور.
أبو محجن الثقفي كان فارسًا مغوارًا، كان قائدًا في ميادين القتال؛ لكنه كان يضعف جدًا أمام الخمر، سبحان ربي! يضعف أمام الخمر! وفي البخاري وغيره أن رجلًا كان كثيرًا ما يؤتى به ليقام عليه الحد من شرب الخمر، فقام الصحابة ليقيموا عليه حد الله بين أظهرهم، فسبه أحد الصحابة؛ فماذا قال النبي ﵊؟ قال: (لا تكونوا عونًا للشيطان على أخيكم، فو الله إني لأعلم أنه يحب الله ورسوله)، لكن لضعفه البشري قد يزل، وقد يضعف أمام معصية.
فـ أبو محجن الثقفي كان يضعف أمام الخمر تمامًا، ومع ذلك لم يفهم أن وقوعه في هذه الكبيرة، وفي هذه المعصية تمنحه إجازةً مفتوحةً حتى لا يعمل لدين الله ﵎؛ لكنه لما سمع النداء: يا خيل الله اركبي! حي على الجهاد! إلى موقعة القادسية مع سعد بن أبي وقاص خرج لينال شرف الصف الأول، ولكن في صفوف القتال على الساحة شعر بالضعف أمام الخمر مرةً أخرى؛ فوقع فيها، وشرب الخمر هنالك؛ فأتي به إلى قائد المسلمين سعد بن أبي وقاص ﵁ ليقيم عليه الحد؛ لكن الحدود لا تقام في أرض العدو؛ فأمر سعد بن أبي وقاص بحبسه حتى تنتهي المعركة، ويعود إلى أرضه، فقيد، ووضع في السجن، وبدأت المعركة، وسمع أبو محجن الفارس المغوار صوت الخيول، ووقع السيوف، وضرب السهام والرماح؛ فبكى، وأراد أن يقوم ليشارك المسلمين، فهو ما جاء إلا لهذا الشرف؛ لكن القيد في رجليه قال له: لا، أنت محكوم عليك بعدم المشاركة؛ لأنك رجل مدمنٌ للخمر؛ فبكى أبو محجن، وعاود التجربة، وعاود مرةً ومرة، وفي بعض أيام القادسية رأته زوجة سعد بن أبي وقاص ﵁؛ فرقت له؛ فاقتربت منه وسألته؛ فقال: أسألك بالله يا سلمى فكي قيدي وأعطيني فرس وسلاح سعد -فإن سعدًا ﵁ كان قد ابتلي بمرضٍ شديدٍ أقعده في بعض أيام القادسية؛ فكان ينام على بطنه، وهو يخطط، ويصدر الأوامر في هذه الحالة، ولا يستطيع أن يستوي على ظهر فرسه البلقاء -فقال لها: أسألك بالله أعطيني فرس سعد (البلقاء)، وسلاح سعد، وأعاهد الله ﷿ إن نجاني الله أن أرجع إلى سجني لأضع القيد في رجلي بيدي، وإن قتلت فالحمد لله؛ ف
7 / 5