تترنحون، أنتم سكارى؟
رد عليه زربة ضاحكا وهو يحاول الوقوف بثبات ورائحة الخمر تفوح من فمه: لا، ما نحناش
8
سكارى. أنت رأسك يدور ههههههه.
فكر الحارس أن ينادي زملاءه؛ ليقودوهم إلى قسم شرطة الحي، ولأنه يعرف أن شرطة القسم سيطلقون سراحهم بعد تفتيش جيوبهم جيدا، أخذ فقط يخوفهم بقسم الشرطة. تحسس ثلاثتهم ما في جيوبهم، وأعطوه خمسة ريالات كانت معهم. مشوا قليلا ثم اتجه كل إلى سكنه، بعد ليلة باردة.
حين بلغ العشرين سنة كانت امرأته قد ولدت له ثلاثة أطفال: نجيب، نصرة، جميلة. هو رجل متوسط القامة مفتول العضلات، كفاه متخشبتان، له وجه طفولي ضحوك وقلب طفل، يشذب شاربه دائما، نهما على الأكل، قوته الجسدية جعلته يضاهي ثلاثة بنائين في إنتاجهم للعمل؛ لهذا كان المقاولون يفضلونه على غيره، أما شرب الخمر فكان ذلك في فترة حياته الأولى لتوفره بكثرة في تلك الحقبة الزمنية. اعتاد على لبس مئزر وقميص عليه معطف، وعمامة على رأسه. توقف عن التعليم في مدرسة القرية، وهو في المرحلة الإعدادية وبدأ يعمل مع أبيه في البناء، إلى أن تعلم البناء في عمر مبكر من حياته، وأصبح بناء ماهرا. كان أصدقاؤه يفضلون العيش معه؛ لما لديه من روح طيبة مرحة؛ حتى إن مجنون الحي كان يحبه، ذاك الرجل الغامض لا يعلم أحد عنه شيئا، هل هو مخبر أو مجنون حقا؟ كان كثيرا ما يتلصص عليهم من شقوق الباب هو وزملاؤه، حين يجتمعون ليلا.
كان زربة يرى أن حياة الإنسان قصيرة في هذه الدنيا، ويمكن أن تقصر أكثر بالقتل، سواء كان قتلا فرديا أو جماعيا في المعارك الدائمة، التي تدور رحاها بين فترة وأخرى في البلاد، شمالا وجنوبا، وما زالت أحداث أغسطس (1968م) عالقة في الأذهان، حين راح الإخوة شركاء الثورة يتقاتلون فيما بينهم على الانفراد بالسلطة في صنعاء. لم يكن يريد هذا النوع من الحياة لنفسه، تلك التي تذهب مقابل لقمة عيش تسد رمق أسرته، فكان شعاره أن يتمتع المرء في كل لحظة من حياته، وراح يسعد نفسه بملذات الحياة والتعامل مع الناس بالحب، وجعل الحياة جنة من حوله ولو جهنم تطفو على سطحها.
3
نام زربة في دكانه الصغير المستأجر من يحيى المطري، يحتوي على فرش زهيد ضمن دكاكين ضيقة دون حمامات يؤجرها للعمال، وحين يريد التبول يستعمل قوارير فارغة. في تلك المرحلة الزمنية كانت دكاكين أطراف المدينة دون حمامات؛ فالشوارع الترابية تتكفل بذلك. هي عادة نقلت من بعض القرى فالكثير من بيوتها بدون حمامات؛ لذا يقضون حاجاتهم بجوار منازلهم، يكتفون بجدار حقل يسترهم، ويخصصون مكانا بسيطا للاستحمام في منازلهم.
في ليلة باردة تبول زربة في قارورة جان ويكر فارغة، وكان لهذه القارورة حكاية ظريفة فبعد أن أحكم غطاءها جيدا، تركها في دكانه تحت ثيابه ونسي أمرها. زاره أحد أصدقائه وأخذها خلسة، ثم ذهب يدعو أصحابه ليسكروا معا. اجتمعوا حولها وهم يضحكون على زربة؛ بأنهم سرقوا زجاجته التي يخفيها عنهم. نام في تلك الليلة المحزنة والباردة حتى أيقظه أحد أصحابه فجرا بطرقات قوية على الباب؛ لتناول وجبة الإفطار والذهاب إلى العمل. وصل إلى المطعم وهو مزدحم بالعمال ولم يضحك كعادته، تناول وجبته ومضى نحو عمله؛ ليعوض مائة وخمسة وسبعين ريالا ثمن قارورة الخمر التي احتساها ليلة البارحة، يعادل ثمنها أجرة خمسة أيام عمل في البناء. وقف فوق أحد جدران المنزل الذي يقوم ببنائه، وضع الشمة السوداء تحت شفته، شعر بنشاط وباشر عمله مع العمال. كان المقاول عبد المجيد يخصص له عاملين يزودانه بالأحجار عكس البنائين الآخرين، الذين يستكفون بعامل واحد معهم، فسرعته في البناء تتطلب ذلك، لكن حزنه على صديقه ناصر في هذا اليوم منعه من العمل بنشاط كما تعود، فاستكفى بعامل واحد. لم يضحك مع العمال ويتندر كعاداته أثناء عمله. كان هذا الصباح يتمنى لو بقي نائما في سكنه حتى الظهيرة، لكن حاجته للمال دفعته إلى ذلك. أكمل دوامه حتى صلاة الظهر بفتور، وذهب يداوي حزنه بتناول نصف كيلو لحما، وقطعة حلوى كبيرة بعد أن اشترى ثلاث حزم قات صوطي، وهي كمية تكفي لثلاثة أشخاص. هكذا كان سلوكه حين يكون حزينا، يكثر من تناول الطعام والقات والحلاوة، وحينما يزداد حزنه يداويه بالكأس. صادف مجنون الحي بلباسه الرث في طريقه، خاطبه بصوت مرتفع: يا زربة، كيف كانت سكرة أمس، ها، كيف كانت؟
Halaman tidak diketahui