ولبث السيد متغيرا، متجهم الوجه، تنطق نظرة عينيه الحادة بالنرفزة والغضب .. أولى الخطى عثار! حلاق قذر لا يساوي مليما، ومع ذلك فهو يزحمه في حلبة واحدة. وبصق على الأرض بازدراء كأنما البصقة هي الحلو نفسه، وخال أنه يسمع طنين المرجفين إذ يخوضون في هذا الأمر بما يحلو لهم من تهكم وسخرية؛ ستقول زوجه إنه خطف ابنة ماشطة من صالون حلاق بالمدق! أجل ستقول زوجه وتعيد، وسيقول الناس ويتفننون في القول، وسيتناهى ذلك كله إلى أبنائه وبناته وأصدقائه وأعدائه .. تفكر في ذلك جميعه، بيد أن التراجع لم يخطر له ببال، فقد انتهت المعركة قبل اليوم، ومد يده بالفعل، وتوكل على الله. ومضى يفتل شاربه بأناة، ويهز رأسه استهانة، وقد ملكت الرغبة الجامحة عليه نفسه، وهونت عليه القيل والقال. وهل كف الناس عنه ألسنتهم من قبل؟ ألم يجعلوا من صينية الفريك أسطورة يتناقلونها؟ فليقولوا ما بدا لهم، وليفعل ما بدا له، وسيظل بلا ريب سيد الجميع الذي يشق سبيله بين هامات متطامنة. أما أسرته فثروته كفيلة بإرضاء أفرادها جميعا، ولن يسلبهم زواجه الجديد أكثر مما كانت تسلبهم إياه رتبة البكوية فيما لو سعى إليها. وانفثأ غضبه، وانبسطت أساريره، وارتاح إلى تفكيره ارتياحا عظيما. ينبغي أن يذكر دائما أنه إنسان من لحم ودم، وإلا أغفل حق نفسه، وقدمها لقمة سائغة للهموم تزدردها. ما جدوى ثروته الطائلة إذا ذهبت نفسه حسرات على رغبة تحقيقها بيده؟! أو ترك قلبه يحترق بالشوق إلى جسد بشري رهن إشارة منه؟!
18
ومضت أم حميدة مهرولة إلى شقتها، وفي هذا الشوط القصير - ما بين الوكالة والشقة - ثمل خيالها بأحلام عراض، ووجدت حميدة واقفة وسط الحجرة تمشط شعرها، فتفحصتها بعينين ثاقبتين كأنها تراها لأول مرة، أو كأنها تعاين الأنثى التي خبلت رجلا له وقار السيد سليم علوان وسنه وثروته. ووجدت المرأة عاطفة تشبه الحسد. كانت تؤمن بلا شك أن كل قرش يجلبه هذا الزواج المرتقب للفتاة سيكون لها نصفه، وأن كل نعيم ستذوقه ستحظى هي بنصيبها الموفور منه، ومع ذلك لم تخل من هذا الإحساس الغريب الذي خالط سرورها وأطماعها! وقالت لنفسها: «أكان القدر حقا يدخر هذه السعادة لهذه الفتاة التي لا تعرف لنفسها أبا ولا أما؟!» وتساءلت في عجب: «ألم يسمع السيد صوتها المخيف وهي تزعق في وجوه الجيران؟ ألم يشهد معركة من معاركها؟ يا ويل الرجال من لحم النساء!» ثم قالت لها دون أن تحول عنها عينيها: مولودة في ليلة القدر والحسين!
فأمسكت حميدة عن تمشيط شعرها الأسود اللامع، وسألتها ضاحكة: ليه؟ ماذا وراءك؟ هل من جديد؟!
فخلعت المرأة ملاءتها وطرحتها على الكنبة، ثم قالت بهدوء وهي تتفرس وجهها لتمتحن أثر كلامها فيه: عروس جديد!
فلاح في العينين السوداوين اهتمام ويقظة تخالطهما دهشة، وتساءلت الفتاة: أتقولين حقا؟ - عروس كبير المقام، يتمنع عن الأحلام يا بنت الكلب!
فخفق قلب حميدة بقوة، وتألقت عيناها حتى بدا حورهما ساطعا وتساءلت: من عساه يكون؟ - خمني؟!
فتساءلت الفتاة بلهفة وإن ساورتها الظنون: من؟
فقالت أم حميدة وهي تهز رأسها وترعش حاجبها: السيد سليم علوان على «سن ورمح»!
فشدت قبضتها على المشط حتى كادت تنفذ أسنانه في راحتها، وهتفت: سليم علوان صاحب الوكالة؟! - صاحب الوكالة، وصاحب الأموال التي لا يفنيها المحيط!
Halaman tidak diketahui