وتريث حتى مضى الشاب يلف الجوارب، ثم قال: الأفضل أن تلف لي اثني عشر .. أنا رجل لا ينقصني المال والحمد لله!
ولف الشاب له ما أراد صامتا، ثم غمغم وهو يناوله اللفيفة: مبارك.
فابتسم المعلم كرشة، أو بمعنى آخر انفرج فمه انفراجة آلية قصيرة يرافقها اضطراب خفيف في جفنيه، وقال بخبث: شكرا لك يا بني (ثم بصوت خفيض) الحمد لله!
وغادر الدكان بعد أداء الثمن منفعلا كما دخله، واتجه نحو شارع الأزهر، ثم عبره مهرولا إلى الناحية الأخرى، ووقف لصق شجرة في مقابل الدكان مستظلا بالظلمة الآخذة في الانتشار. وقف يدا متوكئة على العصا ويدا قابضة على اللفيفة، وعيناه لا تتحولان عن الدكان من بعيد. كان الشاب بموقفه حين دخل الدكان وقد شبك ذراعيه على صدره، فجعل ينظر نحوه، لا يكاد يرى منه إلا صورة غامضة المعالم، ولكن ذاكرته وخيالة أسعفاه بما لم يسعفه به البصر الكليل، وراح يقول لنفسه: «أدرك المراد بلا ريب!» ثم ذكر كيف كان رقيقا لطيفا مؤدبا، ورجعت أذناه صوته وهو يغمغم: «مبارك»، فأثلج صدره وتنهد من الأعماق. لبث في مكانه سويعة مضطرما بالقلق والتوتر، حتى رأى الدكان يغلق أبوابه، وقد افترق عنده الشيخ العجوز الذي اتجه صوب الصاغة، والشاب الذي سار نحو شارع الأزهر. وابتعد المعلم عن الشجرة رويدا رويدا، وسار في الاتجاه الذي يتسمته الشاب. فرآه هذا بعد أن عبر ثلثي الطريق؛ ولكنه لم يبد اهتماما، وأوشك أن يمر به دون اكتراث لولا أن دنا منه المعلم وقال برقة: مساء الخير يا بني.
فنظر الشاب وقد نمت عيناه عن ابتسامة خفيفة وتمتم: مساء الخير يا سيدي.
فسأله بمحض الرغبة في مجاذبته الحديث: أغلقت الدكان؟
ولاحظ الشاب أن الرجل يتثاقل كأنما يدعوه إلى التريث، ولكنه ثابر على مشيته وهو يقول: أجل يا سيدي.
فاضطر الرجل إلى مسايرته، فسارا معا على الطوار والمعلم لا يحول عنه رأسه، ثم قال: ساعات عملك طويلة، كان الله في عونك!
فنفخ الشاب قائلا: ما الحيلة؟ أكل العيش يحب التعب.
فسر المعلم بإقبال الفتى على محادثته، واستبشر خيرا برقته وقال: رزقك الله بتعبك يا بني. - أشكر لك يا سيدي.
Halaman tidak diketahui